صلاة (مسيحية)

هذا الموضوع هو عن الصلاة في المسيحية ، اذا كنت تريد صفحة الصلاة بصورة عامة أو في أديان أخرى قم بزيارة صفحة التوضيح صلاة.

من سلسلة مقالات عن
المسيحية
Jesus Christ is the central figure of Christianity.

الأسس و العقائد
يسوع المسيح
الثالوث الأقدس (الأب ، الابن ، الروح القدس)
كرستولوجيا· الكتاب المقدس·
علم اللاهوت المسيحي. قانون الإيمان
تلاميذ المسيح· الكنيسة· ملكوت الله· إنجيل
تاريخ المسيحية· الخط الزمني

الكتاب المقدس
العهد القديم· العهد الجديد
الوصايا· عظة الجبل
الولادة· قيامة يسوع· الإرسالية الكبرى
الوحي· الأسفار· القانون· أبوكريفا
التفسير· السبعينية· الترجمات

الثيولوجيا المسيحية
تاريخ الثيولوجيا· الدفاع
الخلق· سقوط الإنسان· الميثاق· الشريعة
النعم· الإيمان· الغفران· الخلاص
تقديس· تأله· العبادة
علم الكنيسة· الأسرار المقدسة· الأخرويات

التاريخ
المبكرة· المجامع المسكونية· العقائد
الانشقاق· الحملات الصليبية· الإصلاح البروتستانتي

مسيحية شرقية
أرثوذكسية شرقية· أرثوذكسية مشرقية
مسيحية سريانية· كاثوليكية شرقية

مسيحية غربية
كاثوليكية غربية · بروتستانتية
كالفينية · معمدانية · لوثرية
أنگليكانية· تجديدية العماد
إنجيلية · ميثودية . مورمونية
أصولية · ليبرالية · خمسينية
كنيسة الوحدة · . شهود يهوه
علم مسيحي . توحيدية . الأدفنتست
مواضيع مسيحية
الفرق· حركات· محاولات التوحيد المسيحية
موعظة· الصلاة· موسيقى
ليتورجيا· افخارستيا· الرهبنة· تقويم· الرموز· الفن

شخصيات مهمة
رسل المسيح الاثنا عشر. الرسول بولس
آباء الكنيسة. قسطنطين. أثناسيوس· أوغسطينوس
انسيلم· الأكويني· بالاماس· ويكليف
لوثر· كالفن· جون ويزلي

بوابة المسيحية


في المسيحية، قام المسيح بتعليم تلاميذه الصلاة الربيّة (أبانا) المعتمدة من كل الطوائف المسيحية كما و يوجد العديد من كتب الصلاة والصلوات المعتمدة في بعض الطوائف وليس الاخرى مثل صلاة السلام عليك يا مريم التي لا يلتزمها البروتستانت. في المسيحية، الصلاة هي عملية تقرب إلى الله ، ويجب على المرء الصلاة قبل وبعد الطعام و النوم والسفر و إلى آخره من الفعاليات حتى ولو كانت صغيرة .

الشعائر الدينية في كل دين عظيم لازمة لزوم العقيدة نفسها، فهي تعلم الايمان، وتغذيه، وتوجده في كثير من الأحيان، وهي تربط المؤمن بربه برباط يريحه ويطمئنه، وتفتن الحواس والروح بمظاهرها الروائية وشعرها، وفنها، وتربط الأفراد برباط الزمالة، وتخلق منهم جماعة مؤتلفة حين تقنعهم بالاشتراك في شعائر واحدة، وترانيم واحدة، وأدعية وصلوات واحدة، ثم يفكرون آخر الأمر تفكيراً واحداً.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الصلاة في العهد الجديد

 
Hands on the Bible, Albrecht Dürer, 16th century.

وأقدم الصلوات المسيحية هي الصلاة التي مطلعها "أبانا الذي في السموات" والتي مطلعها "نؤمن بإله واحد"، وقبل أن ينتهي القرن الثاني عشر بدأت الصلاة الرقيقة المحببة التي مطلعها "السلام لك يامريم" تتخذ صيغتها المعروفة. وكانت هناك غير هذه الصلوات أوراد شعرية من الثناء والتضرع. ومن الصلوات في العصور الوسطى ما يكاد يكون رقى تمكن من يتلوها من الإتيان بالمعجزات، ومنها ما هو إلحاح متكرر لا يتفق مع تحريم المسيح "للتكرار العديم النفع"(67). ونشأت عند الرهبان والراهبات تدريجياً، وعند غير رجال الدين فيما بعد، عادة استعمال المسبحة، وهي عادة شرقية جاء بها الصليبيون(68). ونشر الرهبان الدمنيك هذه العادة. كما نشر الفرنسكان عادة "طريق الصليب" أو "مواضعه" وهي التي تقضي بأن يتلو المتعبد صلوات أمام صورة أو لوحة من لوحات أو صور أربع عشرة تمثل كل منها مرحلة من مراحل آلام المسيح، فكان القساوسة، والرهبان، والراهبات، وبعض العلمانيين ينشدون أو يتلون أدعية الساعات القانونية - وهي أعية، وقراءات، ومزامير، وترانيم صاغها البندكتيون وغيرهم وجمعها ألكوين Alcuin وجريجوري السابع في كتاب موجز. وكانت هذه الأدعية تطرق أبواب السماء من مليون كنيسة وبيت متفرقة في جميع أنحاء الأرض كل يوم وليلة في فترات بين كل واحدة والتي تليها ثلاث ساعات. وما من شك في أن نغماتها الموسيقية كان لها أحسن الوقع على آذان أصحاب البيوت التي تستمع إليها كما يقول أوردركس فيتالس Ordericus Vitalis "ما أحلى أناشيد العبادة الإلهية التي تطمئن بها قلوب المؤمنين، وتدخل عليهم السرور"(69).

وكثيراً ما كانت الصلوات الرسمية التي تتلى في الكنائس توجه إلى الله الأب، وكان عدد قليل منها يوجه إلى الروح القدس، ولكن صلوات الشعب كانت توجه في الأغلب الأعم إلى عيسى ومريم، والقديسين. وكان الناس يخافون الله سبحانه وتعالى، فقد كان لا يزال يتصف في عقول العامة بكثير من القسوة التي كانت ليهوه، وكيف يجرؤ الشخص المذنب الساذج أن يوجه صلاته إلى ذلك العرش الرهيب البعيد؟ إن عيسى لأقرب إليه من ذلك العرش، ولكنه هو أيضاً اله، ومن أصعب الأشياء أن يجرؤ الإنسان على مخاطبته وجهاً لوجه بع أن أنكر نعمه هذا النكران التام. ومن أجل هذا بدا للناس أن من الحكمة أن توجه الأدعية والصلوات إلى أحد القديسين (أو إحدى القديسات) تشهد قوانين الكنيسة بمقامه في الجنة، وأن يتوسل إليه بأن يكون وسيلته عند المسيح. وبهذه الطريقة بعثت في عقول العامة من الماضي الذي لا يبيد أبداً جميع مظاهر الشرك الشعرية الخيالية، وملأت العبادات المسيحية بطائفة كبيرة من الأرواح، ترافق الناس، وتشد عزائمهم، وتكون لهم إخوة على الأرض تقربهم إلى السماء. وتخلص الدين من عناصره الأكثر قتاماً، فكان لكل أمة، ومدينة، ودير، وكنيسة، وحرفة ونفس؛ وأزمة من أزمات الحياة، وليها الشفيع النصير، كما كان لكل منها إلها في روما القديمة. كان لإنجلترا القديس جورج، ولفرنسا القديس دنيس، وكان القديس بارثو لميو حامي الدابغين لأن جلده سلخ وهو حي، كان صانعوا الشموع يضرعون إلى القديس يوحنا لأنه غمر في قدر مليئة بالزيت المشتعل، وكان القديس كريستوفر St. Christopher نصير الحمالين لأنه حمل المسيح على كتفيه، وكانت مريم المجدلية تتلقى توسلات بائعي العطور لأنها صبت زيوتاً عطرة على قدمي المسيح المنقذ. وكان لكل من يحدث له حادث طارئ، أو يصاب بمرض، صديق في السموات، فكان القديس سبستيان والقديس رتش Roch ذوي قوة وبأس في أيام الوباء. وكان القديس أبولينيا St. Appolinia الذي كسر الجلاد فكه يشفي ألم الأسنان، وبليز St. Blalse يشفي آلام الحلق، والقديس كورنيل St. Corneille يحمي الثيران، والقديس جول Gall يحمي الدجاج والقديس أنطون يحمي الخنازير، وكان القديس ميدار Medord هو الذي تتضرع إليه فرنسا أكثر من سائر القديسين لينزل إليها المطر، فإذا لم ينزله ألقى عباده الذين ينفذ صبرهم تمثالاً له الماء من حين إلى حين، ولعل هذا كان بمثابة رقية سحرية(70).


الكنيسة المبكرة

ووضعت الكنيسة تقويماً كنسياً جعلت كل يوم فيه عيداً لأحد القديسين، ولكن التقويم لم يتسع للخمسة والعشرين ألفاً من القديسين الذين اعترفت بهم قوانين الكنيسة قبل أن يحل القرن العاشر الميلادي. وقد بلغ من معرفة الشعب بتقويم القديسين أن التقويم العادي قسم السنة الزراعية أقساماً أطلق على كل منها اسم أحد القديسين، ففي فرنسا مثلا كان عيد القديس جورج يوم البذر، وفي إنجلترا كان عيد القديس فالنتين St. Valentine يحدد آخر فصل الشتاء؛ فإذا حل ذلك اليوم، على حد قولهم، تزاوجت الطيور بحماسة في الغابات، ووضع الشباب الأزهار على أعتاب النوافذ في بيوت البنات اللاتي يحبونهن. ومن القديسين عدد كبير اعترفت بهم الكنيسة لأن العامة داوموا على عبادتهم وإحياء ذكراهم، أو لأن مكاناً ما قد أصر على هذه العبادة على الرغم من معارضة رجال الدين. وعلقت صور ووضعت تماثيل للقديسين في الكنائس، والميادين العامة، وفي الطرق؛ وفوق المباني، وتلقت من أنواع العبادة التلقائية ما جلل بالعار بعض الفلاسفة ومحطمي العصور المقدسة. واضطر كلوديوس أسقف تورين إلى الشكوى من أن كثيرين من الناس "يعبدون صور القديسين،... فهم لم يقلعوا عن عبادة الأصنام، بل كل ما في الأمر أنهم غيروا أسماءها" فهم(71). وبهذه الطريقة، على الأقل، أوجدت إرادة الشعب وحاجته شكل العبادة التي يتعبدها.

وما دام القديسون قد كثر عددهم إلى هذا الحد، فقد كثرت تبعاً لذلك مخلفاتهم - عظامهم، وشعورهم، وأثوابهم، وأي شيء استعملوه في حياتهم. وكان المفروض أن كل مذبح يشمل واحدا أو أكثر من واحد من هذه المخلفات، فكانت باسلكا القديس بطرس تباهي بأنها تحتوي جسدي القديسين بطرس وبولس اللذين أصبحت روما بفضلهما كعبة الحجاج من جميع أنحاء أوروبا. وكانت كنيسة في سانت أومر St. Omer. تدعى أن فيها قطعاً من الصليب الحقيقي ومن الحرية التي اخترقت جسم المسيح، ومن مهده، وقبره، ومن المن الذي نزل من السماء، ومن عصا هارون، ومن المذبح الذي تلا عليه القديس بطرس القداس، ومن شعر تومس أبكت وقلنسوته، وقميصه المنسوج من الشعر، والشعر الذي جزء من مقدم رأسه، ومن الألواح الحجرية الأصلية التي سجلت عليها الوصايا العشر أصبح الله نفسه(72)، وتحتوي كنيسة أمين Amiens رأس يوحنا المعمدان في كأس فضية(73)، وتحتوي دير القديس دنيس جسم ديونيسيوس الأريويجي Dionysius the Areopagite وتاجه الشوكي. وتدعى واحدة من ثلاث كنائس متفرقة في فرنسا أن فيها جسد مريم المجدلية كاملاً(74)، كما تؤكد خمس كنائس في فرنسا أن في كل منها الأثر الحقيقي الوحيد الباقي من ختان المسيح(75)، وتعرض كنيسة إكستر Exter أجزاء من الشمعة التي استعملها ملاك الله لإضاءة قبر عيسى، وأجزاء من العشب الذي تحدث منه الله إلى موسى(76). وفي دير وستمنستر بعض دم المسيح وقطعة من الرخام عليها طابع قدمه(77). ويعرض أحد أديرة در هام مفصلا من مفاصل القديس لورنس، والفحم الذي أحرقه، والصفحة التي قام عليها رأس يوحنا المعمدان إلى هيرود، وقميص العذراء، وقطعة من الصخر عليها علامات نقط من لبنها(78)، وكانت كنائس القسطنطينية قبل عام 1204 غنية أكثر من غيرها بالمخلفات المقدسة، فكان فيها الحرية التي نفذت في جسم المسيح، والتي لا تزال حمراء من دمه، والعصا التي ضرب بها، وقطع كثيرة من الصليب الحقيقي مغلفة بالذهب، وثريد الخبز الذي قدم ليهوذا في العشاء الأخير، وشعرات من لحية المسيح، وذراع يوحنا المعمدان اليمنى....(79). وسرقت كثير من هذه المخلفات حين نهبت القسطنطينية، ثم أشترى بعضها، وأخذت تنتقل من كنيسة إلى كنيسة في بلاد الغرب إلى أيدي من يؤدي فيها أكثر الأثمان. وكانت تعزى إلى جميع المخلفات قوى معجزة، وتروي مئات الآلاف من القصص عما تحدثه من المعجزات. وكان الرجال والنساء يبذلون كل ما في وسعهم للحصول عما تحدثه من المعجزات. وكان الرجال والنساء يبذلون كل ما في وسعهم للحصول على أقل أثر، أو أقل أثر من أثر ليتخذوه طلسماً - كخيط من ثوب قديس، أو قليل من تراب علبة مخلفات، أو نقطة زيت من مصباح مقدس في ضريح. وكانت الأديرة تتنافس وتتنازع في جمع المخلفات وعرضها على العباد الأسخياء، لأن امتلاك المخلفات الشهيرة كان يدر على الدير أو الكنيسة ثروة طائلة.

وحسبنا مثلا لهذا أن نذكر أن "نقل" عظام تومس أبكت إلى ضريح جديد في كنيسة كنتر بري الكبرى (1220) جمع من الذين شاهدوا هذا العمل ما يقدر بنحو 000ر300 ريال أمريكي بنقود هذه الأيام(80). واجتذب هذا العمل الرابح كثيراً من ممارسيه، فكانت مخلفات زائفة كثيرة تباع للكنائس والأفراد، وكانت بعض الأديرة يغريها الكسب بـ "كشف" مخلفات جديدة حين تحتاج إلى المال. وكان شر هذه المساوئ هو تقطيع الأولياء الأموات ليتيسر لعدد من الأماكن أن يحظى برعاية القديس وقوته(81).

ومما يذكر بالحمد لبعض رجال الدين من غير رجال الأديرة، وللكثرة الغالبة من الأديرة نفسها أنها لم تكن ترضي وأنها كثيراً ما كانت تندد، بهذه الدكاكيرية (الفيتنشية) المسرفة الواسعة الانتشار. ومن الرهبان الذين يسعون إلى العزلة في عباداتهم من لم يكونوا يرضون عن المعجزات التي تفعلها مخلفات أديرتهم. من ذلك أن رئيس جرامونت Grammont توسل إلى مخلفات القديس استيفن أن تمتنع عن الإتيان بخوارق العادات، لأنها تغري الجموع الصاخبة بالتجمع، ثم هدد القديس بقوله: "وإلا ألقينا عظامك في النهر"(82). ولم تكن الكنيسة هي التي تزعمت حركة خلق الأقاصيص الغرامية عن معجزات المخلفات أو مضاعفة عددها، بل الشعوب هي التي فعلت هذا، وكثيراً ما كانت للكنيسة تحذر الجماهير من تصديق ما يذاع من تلك الأقاصيص(83). مثال ذلك أن مرسوماً إمبراطورياً لعله صدر بناء على طلب الكنيسة حرم على الناس "حمل" مخلفات القديسين "أو بيعها" وأن القديس أوغسطين شكا من المنافقين الذين يلبسون مسوح الرهبان والذين "يتجرون في أجسام الشهداء، إذا كانوا شهداء يحق"، وقد أعاد جستنيان نشر هذا المرسوم(84). وكتب الأب جبيرت النوجنتي Guibert of Nogent حوالي عام (1119) رسالة في مخلفات للقديسيين ينادي فيها بوضع حد لجنون المخلفات، ويقول إن الكثير من هذه الآثار "لأولياء اشتهروا في سجلات لا قيمة لها"، وإن بعض "رؤساء الأديرة أغوتهم كثرة ما يحمل إليهم من الهدايا، فقبلوا اصطناع المعجزات "الكاذبة"، "وثمة نساء عجائز ونساء ساقطات كثيرات يتغنين بالأقاصيص الكاذبة عن القديسين الشفعاء وهن يعملن على أنوالهن.... فإذا ما فند إنسان أقوالهن هاجمته.... بلقاطاتهن". ويقول إنه قلما أوتي أحد من رجال الدين الجرأة أو الشجاعة على الاحتجاج، ويعترف بأنه هو نفسه قد سكت رأى تجار المخلفات يعرضون على المؤمنين المصدقين "بعض ذلك الخبز عينه الذي مضغه السيد المسيح بأسنانه نفسها"، ذلك "أني لو جادلت المجانين لحق علي القول بأني مجنون"(85). ويضيف إلى ذلك أن في عدد من الكنائس رؤوساً كاملة ليوحنا المعمدان، ويعجب مما كان لهذا القديس من رؤوس كثيرة لا يمكن أن يقطعها قاطع(86). وحرم البابا إسكندر الثالث (1179) على الأديرة أن تطوف بما عندها من المختلفات لجمع التبرعات، كما حرم مجلس لاتران المنعقد في عام 1215 عرض المخلفات في خارج الأضرحة(87)، وندد مجلس ليون الثاني (1274) بـ "الحط من قدر" المخلفات والصور(88).

ويمكن القول بوجه عام إن ما قامت به الكنيسة لم يكن هو تشجيع الخرافات بل كان أكبر نصيب لها في هذه الناحية هو أنها ورثتها من خيال الناس أو من تقاليد عالم البحر المتوسط. وكان الإيمان بما لبعض المخلفات، والطلاسم، والتمائم، والرقي، من قدرة على الإتيان بالمعجزات عزيزاً على المسيحيين والمسلمين على السواء، وقد ورثوا هذه العقائد من الأديان الوثنية القديمة. وبقيت أشكال قديمة من عبادة عضو التذكير زمناً طويلاً في العصور الوسطى، ولكن الكنيسة ألغتها شيئاً فشيئاً(89) وورثت عبادة الله بوصفه رب الجيوش، وملك الملوك، بعض أساليب التقرب إليه وتعظيمه، ومخاطبته، من الساميين والرومان، وتذكرنا عادة حرق البخور أمام المذبح أو رجال الدين بعادة تقريب القرابين المحروقة، أما عادة الرش بالماء المقدس فكانت صورة قديمة من التعاويذ، وأما المواكب ومراسم التطهير فهي امتداد لشعائر موغلة في القدم، وملابس القساوسة، وتلقيب البابا بالحبر الأعظم Pontifex Maximus تراث من روما الوثنية. ووجدت الكنيسة أن معتنقي المسيحية من أهل الريف لا يزالون يعظمون بعض العيون، والآبار، والأشجار، والحجارة، فرأت أن من الحكمة أن تخلع البركة على هذه الأشياء، وأن يستخدمها المسيحيون بدل أن تقضي قضاء مفاجئاً سريعاً على عادات شديدة الارتباط بعواطف الخلق. واتباعاً لهذا دشنت مجموعة من الحجارة في صورة مائدة في بلواريه plouaret على أنها مصلي القديسين السبعة، وحللت عبادة شجرة البلوط بأن علقت على الأشجار صور القديسين المسيحيين(90): وعادت الاحتفالات الوثنية العزيزة على الشعوب أو التي لابد منها لكي تبيح للناس الخروج على قواعد الأخلاق وأضحت أعياداً مسيحية، واستحالت الطقوس الوثنية النباتية طقوساً كنسية مسيحية وظل الناس كما كانوا من قبل يوقدون النيران في منتصف الصيف عشية عيد القديس يوحنا ، وسمي عيد قيام المسيح (عيد القيامة) بالاسم الوثني القديم Eostre وهو اسم إلهة الربيع التبوتونية القديمة ؛ وحل تقويم القديسين المسيحي محل التقويم الروماني، وأجازت الكنيسة أن تبقى الأرباب القديمة العزيزة على الناس وأن تحمل أسماء قديسين مسيحين، فأضحت إلهة النصر Dea Victovria إلهة إقليم الألب الأدنى هي القديسة فكتوار St. Victoire، كما ولد كاستر وبلكس Castor and Pollux من جديد وأصبحا هما القديسين كزماس Cosmas ودميان Damian.

وكان أعظم ما ظفرت به هذه الروح، روح التكيف المتسامحة، من نصر هو السمو بعبادة الإلهة الأم الوثنية واستحالتها إلى عبادة مريم أم المسيح وهنا أيضاً كان الشعب هو البادئ بهذا التسامي. ذلك أن سيريل Cyril كبير أساقفة الإسكندرية وصف، في موعظة له شهيرة ألقاها في إفسس Ephesus عام 431، مريم بكثير من العبارات التي كان الوثنيون من أهل تلك المدينة يصفون بها "إلهتهم الكبرى" أرتميس - ديانا Artimis Diana دلالة على حبهم إياها واعتزازهم بها، ووافق مجلس إفسس في تلك السنة على أن تلقب مريم "أم الإله" وعلى الرغم من احتجاج نسطوريوس Nestorius وما لبثت أرق صفات عشتروت، وسيبيل، وأرتميس، وديانا، وإيزيس أن جمعت كلها في عبادة مريم ثم قررت الكنيسة في القرن السادس إقامة الاحتفال بعيد صعود العذراء إلى السماء، وحددته باليوم الثالث عشر من شهر أغسطس، وهو تاريخ عيدين لإيزيس وأرتميس(91). وأضحت مريم القديسة الشفيعة للقسطنطينية وللأسرة الإمبراطورية، وكانت صورتها تحمل في مقدمة كل موكب عظيم، وكانت (ولا تزال) تعلق في كل كنيسة وبيت في العالم المسيحي اليوناني. وأكبر الظن أن الصليبيين هم الذين جاءوا من الشرق إلى الغرب بعبادة العذراء عبادة قوية بمظاهرات ذات جمال وروعة(92).

ولم تشع الكنيسة نفسها عبادة مريم، نعم إن آباء الكنيسة كانوا قد كرموا مريم وفضلوها عن حواء، ولكن عداءهم للمرأة بوجه عام، ووصفهم إياها بأنها "الوعاء الضعيف"، ومصدر كل غواية بارتكاب الإثم، وخوف الرهبان من النساء وفرارهم منهن، وحملة الوعاظ على مفاتن النساء ونقائصهن- هذا كله لم يكن من شأنه أن يؤدي إلى عبادة مريم هذه العبادة القوية الشاملة. وكان الشعب وحده هو الذي ابتدع أجمل زهرة في العالم الروحي أثناء العصور الوسطى وجعل مريم أقرب الأشخاص إلى القلوب في التاريخ كله. ذلك أن سكان أوروبا المستفيقة من رقدتها لم يعودوا يقبلون تلك الصورة الصارمة لإله يعاقب الكثرة الغالبة من خلقه بإلقائهم في نار جهنم، فخففوا من تلقاء أنفسهم الأهوال التي يحدثهم عنها علماء الدين بما خلعوه على أم المسيح من صفات الرحمة والحنان، وكانوا يرون أن في وسعهم أن يقتربوا من عيسى - وهو لا يزال عندهم أسمى وأعدل من أن يتصلوا به مباشرة- عن طريق أمه التي لا ترد سائلاً، والتي لا يستطيع ابنها أن يرد لها شفاعة. وحسبنا دليلاً على رأي الناس في مريم القصة التي يرويها قيصريوس من هايسترباخ Caesarius of Heisterbach، (1230) وهي أن شاباً أغواه الشيطان بإنكار المسيح نظير ثروة طائلة وعدها إياه، ولكنه لم يفلح في أن يغريه بإنكار مريم، فلما تاب الشاب استطاعت مريم أن تقنع المسيح بالعفو عنه. ويحدثنا الراهب نفسه عن أخ له سترسي من غير رجال الدين سمعه يناجي المسيح بقوله: "رباه! إن لم تنقذني من هذه الغواية فسأشكوك إلى أمك"(93). وقد بلغت صلوات الناس لها من الكثرة حداً جعل خيال العامة يصور عيسى في صورة من يغار منها، فيقولون إن شخصاً ملأ السموات بصلاة العذراء "السلام لك يامريم" فظهر له المسيح، كما تقول القصة الطريفة، وأنبه أشد التأنيب وقال له : "إن أمي لتشكر لك كثيراً ما قدمت لها من أدعية وصلوات، ولكن عليك مع ذلك ألا تغفل إلى رحمة مريم لتخفيفها، كما كانت صرامة يهوه في حاجة إلى المسيح. والحق أن أم المسيح أصبحت كما وصفها القرآن، ثالثة الثالوث الجديد، يشترك كل إنسان في حبها والثناء عليها، فالعصاة أمثال أبلار ينحنون لها إجلالاً وتكريماً، والهجاءون أمثال روتبوف Rutrbeuf، والمتشككون الصخابون أمثال المدرسين الجوالين لم يكونوا يجرءون على النطق بكلمة نابية عنها، وكان الفرسان ينذرون أنفسهم لخدمتها، والمدن تقدم لها مفاتيحها، والطبقات الوسطى الرأسمالية الناشئة ترى فيها الرمز الطاهر للأمومة والأسرة، والجفاة للغلاظ من رجال النقابات الطائفية - وحتى أبطال الثكنات وميادين القتال الذين لا يتورعون عن النطق بأقبح الألفاظ فيما هو مقدس - يتبارون مع الفتيات القرويات والأمهات الثاكلات في توجيه صلواتهم إليها ووضع هداياهم تحت قدميها(95). وكان أقوى أسفار العصور الوسطى عاطفة هو ذلك الورد الذي يعلن في حماسة متأججة متزايدة مجدها ويطلب معونتها. ولم يكن مكان ما يخلو من صورة لها، بل لم تخل منها منحنيات الشوارع وملتقيات الطرق والحقول. ولما أن تمخض القرنان الثاني عشر والثالث عشر عن أنبل مولد للشعور الديني في التاريخ أقبل الفقراء والأغنياء، والأذلاء والعظماء، ورجال الدنيا ورجال الدين، والفنانون، والصناع، اقبل هؤلاء جميعاً يجودون بما ادخروه من مال وبما لديهم من حدق ومهارة لتكريمها في ألف كنيسة وكنيسة سميت كلها إلا القليل منها باسمها أو كان أبهى ما فيها حرماً خاصاً هو ضريحها.

وعلى هذا النحو نشأ دين جديد، ولعل السبب في بقاء الكثلكة إلى هذا اليوم هو أنها استوعبت هذا الدين. وصيغ إنجيل لمريم، لا تعترف به الكنيسة، ولا يصدقه العقل، ولكنه يفتتن به افتتاناً يجل عن الوصف، وضع الشعب ما فيه من القصص وسطرها الرهبان، نذكر منها القصة الذهبية التي تقول إن أرملة قدمت ولدها الوحيد استجابة لنداء وطنها، فلما أسره العدو أخذت الأرملة تصلي إلى العذراء في كل يوم أن تنقذ ولدها وترده إليها، ومرت على ذلك أسابيع طوال لم تستجب العذراء لدعائها، فما كان منها إلا أن سرقت تمثال الطفل عيسى من بين ذراعي أمه وأخفته ببيتها، وحينئذ فتحت العذراء السجن، وأطلقت سراح الشاب، وأمرته أن "بلغ أمك، يا بني أن ترد إلي ولدي بعد أن رددت إليها ولدها"(96). وجمع رئيس دير فرنسي يدعى جولتييه ده كوانسي Gaultier de Coincy أقاصيص مريم في قصيدة طويلة مؤلفة من ثلاثين ألف بيت، نجد فيها العذراء تشفي راهباً مريضاً بأن تجعله يمتص اللبن من ثديها العذب. وقبض على لص كان على الدوام يصلي لها قبل أن يقدم على السرقة، وعلق اللص ليشنق، ولكن يديها ظلتا ترفعانه دون أن يراهما أحد فلما تبين الناس أنها تحميه، أطلق سراحه، وخرجت راهبة من ديرها لتحيا حياة الإثم، فلما عادت إلى الدير بعد عدة سنين تائبة محطمة الروح، وجدت العذراء- التي لم تغفل هي عن الصلاة إليها في كل يوم- قد شغلت مكانها على الدوام، وأن إنساناً ما لم يلاحظ غيابها(97). ولك يكن في مقدور الكنيسة أن ترتضي هذه القصص كلها، ولكنها كانت تقيم احتفالات عظيمة في ذكرى الحوادث البارزة في حياة مريم- كالبشارة، والزيارة ، والتطهير (عيد تطهير العذراء ودخول المسيح إلى الهيكل)، والصعود، ثم خضعت الكنيسة آخر الأمر إلى إلحاح أجيال من غير رجال الدين ومن الرهبان الفرنسسكان فأجازت للمؤمنين أن يعتقدوا، ثم أمرتهم في عام 1854 أن يعتقدوا، بالحمل بلا دنس- أي أن مريم قد حملت مبرأة من أثر الخطيئة الأولى التي تلطخ، حسب قول الكنيسة، كل طفل يولد من رجل وامرأة من عهد آدم وحواء.

واستحالت الكثلكة بفضل عبادة مريم من دين رهبة- لعلها كانت ضرورية في العصور الوسطى- إلى دين رحمة وحب، وإن نصف ما في العبادات الكاثوليكية من جمال، وكثيرا مما في الفن الكاثوليكي والغناء الكاثوليكي من روعة وجلال، لمن خلق هذا الإيمان السامي الذي يتجلى في وفاء امرأة ورقتها، بل وفي جمال جسمها ورشاقتها. لقد دخلت بنات حواء الهيكل وبدلت روحه، وكانـت هــذه الكثلكة الجــديدة من الأسباب التي طهـرت الإقـطاع فـاستحال فـروسية، ورفعت من شأن المرأة إلى حد ما في عالم من صنع الرجال، وبفضله وهب النحت والتصوير في العصور الوسطى فن تلك العصور عمقاً ورقة قلما كان اليونان يعرفونهما في عهدهم. وفي وسع الإنسان أن يعفو عن كثير مما في دينٍ وفي عصرٍ أوجدا مريم وكنائسها الكبرى.

انظر أيضاً

هوامش


وصلات خارجية

  •   [[wikisource:Catholic Encyclopedia (1913)/Prayer "|Prayer]"]. Catholic Encyclopedia. New York: Robert Appleton Company. 1913. {{cite encyclopedia}}: Check |url= value (help)