حصار السفارة المصرية في الكونغو 1964

حصار السفارة المصرية في ليوبولدڤيل (كنشاسا)، الكونجو والأزمة بين مصر والكونغو إثر اغتيال باتريس لومومبا عام 1964، كما يرويها سفير مصر آنذالك، محمد ابراهيم كامل، الذي أصبح وزير خارجية مصر لاحقاً. 

في بداية عام ‏1964‏ صدرت حركة ترقيات في وزارة الخارجية وتضمنت ترقيتي إلي درجة وزير مفوض وكنت وقتها في السابعة والثلاثين من عمري وهي سن مبكرة بالنسبة لتولي تلك الدرجة في ذلك الوقت خاصة بالنسبة لدبلوماسي مدني مثلي‏..‏ فقد كان الصراع يحتدم في ذلك الوقت بين الدبلوماسيين المدنيين والعسكريين الذين بدأوا منذ قيام الثورة ينتقلون إلي وزارة الخارجية بأعداد متزايدة وكان الكثير منهم من الشبان ذوي الرتب الصغيرة في الجيش ولكنهم عند نقلهم إلي وزارة الخارجية كثيرا ما كانوا يتولون رتبا ودرجات أعلي من أقرانهم المدنيين باعتبار أن مرتباتهم كانت أعلي في الجيش وباعتبارهم محل ثقة قادة الثورة أو لإبعادهم عن الداخل‏.‏[1]

ولم تكن هذه ظاهرة مقصورة علي وزارة الخارجية بل شملت غزو العسكريين مختلف الوزارات والمصالح وتعداها إلي الشركات والمؤسسات‏.‏

ونتيجة لذلك دخل اسمي في زمرة النقاش والجدل بين الدبلوماسيين العسكريين والمدنيين حيث كان العسكريون يضربون المثل بي كمدني وصل إلي درجة كبيرة في سن مبكرة وكنت لا أميز بين مدني أو عسكري إذ كان معياري هو الشخص نفسه مايتحلي به من وطنية وكفاءة وذكاء ودماثة خلق وكم كان هناك من العسكريين الممتازين وكم كان هناك من المدنيين غير الصالحين‏.‏

وبعد ذلك بعدة أشهر بدأت تروج الشائعات في الوزارة حول قرب صدور حركة تنقلات دبلوماسية لشغل مناصب أربعين سفيرا يحلون محل سفراء انتهت مدة عملهم في الخارج‏.‏ وكما شاهدت منذ التحقت بالعمل في وزارة الخارجية فإن الفترة السابقة علي صدور أي حركة التنقلات أو الترقيات تكاد تصيب الوزارة بالشلل حيث تكثر التكهنات ويزداد القلق والتوتر وربما يرتفع ضغط الدم لدي العديد من المتطلعين إلي النقل للخارج‏,‏ ولايقتصر الأمر عليهم فحسب بل تشتد المنافسة علي المناصب التي ستشغل حسب أهميتها ومميزاتها‏.‏ كما أن الفرق شاسع بين العمل في دولة متقدمة وأخري متخلفة وبين دولة قريبة وأخري بعيدة وبين دولة تتميز برخص المعيشة وبين دولة يشتد فيها الغلاء إلي غير ذلك من الاعتبارات وبالتالي فالفروق واضحة بين باريس ولندن ونيويورك وبين جيبوتي وكابول وبنوم بنه‏.‏ وكنت قد روضت نفسي عندما كنت أعمل في مجلس الدولة علي ألا أقحم نفسي من قريب أو بعيد في الجو الذي يسبق ويسود في انتظار صدور حركة الترقيات والتنقلات‏.‏ ولم يحدث طوال مدة خدمتي أن سعيت إلي التعيين في منصب معين سواء بالخارج أو الداخل أو رفضت تعييني في أي مكان‏,‏ بل لم أكن أعرف علي وجه التحديد ترتيبي إزاء الترقية إلي درجة أعلي أو ترتيبي في النقل إلي الخارج عن اقتناع بأن هذا لايقدم ولا يؤخر ولايجدي السعي والوساطة إلا أن يذل المرء نفسه ويفقد ماء وجهه ويحط من كرامته‏.‏

ومرت الأيام وبورصة حركة التنقلات في هبوط وصعود إلي أن استيقظت صباح يوم الجمعة علي رنين جرس التليفون في غرفة نومي‏.‏ وكان المتكلم زوج شقيقتي المرحوم فتحي البدراوي وكنت مستغرقا في نوم عميق بعد سهرة طويلة ليلة الإجازة‏..‏ قال لي أنه يأسف لإيقاظي من النوم ثم أردف لا أعرف يامحمد ماذا أقول لك هل أقول مبروك أم أواسيك؟ فقلت‏:‏ خيرا قال‏:‏ بقي يا محمد أنت رايح الكونجو ومعرفش إلا من الجرائد‏,‏ ولم استوعب ماقاله وقلت وأنا غير مصدق‏:‏ أنت صاحي بدري ومصلي الفجر ورايق وأنا لسه في سابع نومه فأجاب‏:‏ أنا أكلمك بمنتهي الجدية لقد عينت سفيرا في الكونجو ليوبولدفيل‏,‏ قلت‏:‏ هذا غير معقول فلم يفاتحني أحد في موضوع النقل من قريب أو بعيد فضلا عن إنه لم تمض غير فترة وجيزة منذ عودتي من الخارج‏,‏ قال‏:‏ إذن إقرأ جرائد الصباح‏.‏

وطار النوم من جفوني وفعلا وقعت عيني في الأهرام علي عنوان بالبنط العريض‏:‏ صدور حركة دبلوماسية تشمل أربعين سفيرا وسارعت إلي قراءتها فوقع نظري علي اسمي في الكونجو ليوبولدفيل وكان يليني في الترتيب السفير جمال منصور الذي عين سفيرا في بون وتشاء الظروف أن تسحب السفارة المصرية من ليوبولدفيل بعد أربعة أشهر من وصولي وأنت تقطع العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وبون بعد بضعة أشهر وأن تمضي السنوات‏,‏ فأعين سفيرا لمصر في بون ويعين جمال منصور سفيرا في الكونجو ليوبولدفيل بعد أن غير الجنرال موبوتو اسمها إلي كينشاسا وهو الاسم الأصلي لها قبل استعمار بلجيكا للكونجو‏.‏

‏*********‏

السفير المسحراتي

وبدأت أروض نفسي علي فكرة السفر إلي الكونجو‏,‏ وشرعت في قراءة كل ماوقع تحت يدي عن الكونجو بل شرعت في أخذ دروس خاصة في اللغة الفرنسية وكانت معرفتي بها متوسطة وبدأ حب الاستطلاع والمغامرة يستحوذان علي ويسريان في دمي وأنا أتطلع للعيش داخل إفريقيا السوداء‏.‏ ومن منا لم يداعب خياله ذلك ونحن أطفال عندما كنا نشاهد روايات طرزان في السينما‏.‏ ثم قمت بزيارة سفير الكونجو في القاهرة بافاسا الذي حاول شرح الأوضاع في بلاده‏,‏ وكان شأن أغلبية الكونجوليين‏-‏ كما عرفتهم فيما بعد‏-‏ يتمتع بخفة الظل وأخذ الأمور ببساطة ثم دعاني إلي العشاء وقابلت زوجته وهي مولدة من أب بلجيكي وأم كونجولية وكانت جميلة وخفيفة الظل أيضا‏.‏ كذلك كان من أهم من قابلت في القاهرة في ذلك الوقت السيد أوسوريوتافال الممثل المقيم للأمم المتحدة في الكونجو الذي كان في زيارة عارضة للقاهرة‏.‏ وقد لعب تافال دورا مهما في أثناء وبعد أزمة محاصرة السفارة المصرية في الكونجو وأعتقد أنه يرجع إليه فضل كبير في عدم تطور الأمور إلي مذبحة أو مأساة عندما تطورت الأحداث في ليوبولدفيل علي النحو الذي سأفصله‏.‏ كذلك فقد قابلت الاستاذ محمد فائق وكان مسئولا عن الشئون الإفريقية وكان قد زار معظم الدول الإفريقية ولديه أرشيف هائل يغطي الشخصيات والزعامات والأحزاب الإفريقية كما كانت له اتصالات واسعة داخل حركات التحرر المنتشرة في جميع أنحاء إفريقيا‏.‏

وكان سفيرنا الأسبق في الكونجو هو الصديق العزيز الدكتور مراد غالب الذي قابلته أول مرة وقت عملي بسفارتنا في لندن عام‏1956‏ عندما حضر ضمن الوفد المصري برئاسة السيد علي صبري مدير مكتب عبد الناصرفي ذلك الوقت لمتابعة المؤتمر الذي عقدته الدول المستخدمة لقناة السويس عقب قيام الرئيس عبدالناصر بتأميمها في يوليو عام‏1956.‏

وقد أقامت وزارة الخارجية حفلا في نادي التحرير النادي الدبلوماسي حاليا ونادي محمد علي سابقا حضرها وقتها السيد حسين صبري ذو الفقار الذي كان نائب وزير الخارجية والسفير حافظ إسماعيل وكيل الوزارة لتوديع السفراء المنقولين إلي الخارج وكنت أقف مع مجموعة من الزملاء عندما حضر السفير حافظ إسماعيل وقال‏:‏ هل تعرف يامحمد لماذا اخترناك سفيرا لنا في الكونجو؟ فقلت‏:‏ لا والله‏.‏ فقال ضاحكا‏:‏ لأنك فتوة لا يسهل أكله‏.‏ وكنت قد طلبت مقابلة وزير الخارجية وقتها أستاذنا محمود رياض لتلقي توجيهاته والاستئذان في السفر‏,‏ فحدد لي موعدا قبيل سفري بنحو عشرة أيام‏,‏ كما دعا ثلاثة آخرين من سفرائنا المنقولين إلي عواصم إفريقية وهم‏:‏ السفير مصطفي توفيق‏-‏ وهو من العسكريين‏-‏ سفيرنا في الصومال والسفير أحمد المسيري الذي تضمنت الحركة نقله إلي كوناكري عاصمة غينيا والتي كان يرأسها وقتها المرحوم أحمد سيكوتوري وسفير رابع لا أذكر اسمه وكان الاجتماع حول مائدة مستديرة في غرفة ملحقة بمكتب الوزير‏.‏ وشرع السيد محمود رياض في شرح سياستنا الإفريقية وأهدافنا منها وعندما فرغ من ذلك سأل إن كان لأحد منا استفسارات أو مشكلات معلقة وبدأ السفير مصطفي توفيق بوصفه أ

كبرنا سنا في الكلام بحماس شديد لمدة ناهزت الثلث ساعة وكان محور حديثه أن الجمهورية العربية المتحدة هي الدولة المنوط بها إيقاظ الدول الإفريقية من السبات العميق الذي تعيش فيه وإننا كسفراء في دول إفريقية يجب علينا أن ندور علي الوزارات والمصالح بل علي بيوت الإفريقيين لكي نوقظهم من نومهم ونحثهم علي الحركة والنشاط واستمر يكرر وينوع في هذا المعني بشكل أو بآخر‏.‏ وكنت أجلس علي يسار السفير أحمد المسيري وكان رجلا ظريفا فهمس في أذني قائلا‏:‏ وبعدين بقه في السفير المسحراتي ده‏!!‏ فلم أتمالك نفسي وانفجرت ضاحكا بصوت عال وسكت السفير المتكلم وهو ينظر إلي شذرا في استغراب واستنكار‏.‏ ثم نظر إلي الوزير بتعجب ولم ألبث أن تمالكت نفسي وسكت فأنهي السفير كلامه ثم تكلم السفير المسيري وسأل الوزير عن بعض النقاط وجاء علي الدور في الحديث فسألني الوزير إن كان لدي استفسار أو اسئلة‏,‏ والواقع أنه كان يشغل خاطري سؤال واحد فقلت إني أرجو أن استفسر عن موقفنا فيما إذا عاد تشومبي إلي الحكم في الكونجو؟ وكأني نطقت كفرا وكان رد الوزير محمود رياض علي عنيفا صاخبا علي خلاف طبيعته‏-‏ ولعل نوبة الضحك التي انتابتني قبلها بدقائق قد أثارته‏-‏ وقال‏:‏ ماهذا الكلام الفارغ يامحمد؟‏..‏ لقد ذهب تشومبي وانتهي إلي غير رجعة وأنا مندهش كيف يخطر علي بالك مثل هذا السؤال‏..‏ لقد صرفت الأمم المتحدة دم قلبها لإنهاء انفصال إقليم كاتنجا وقد طرد تشومبي من الكونجو إلي الأبد وشطب اسمه من التاريخ وسكت الوزير وسلم علينا وانتهي الاجتماع‏.‏

‏*********‏

الجنود يوقفون سيارة السفارة

كان السفر إلي الكونجو وقتها يتم عن طريق أوروبا فلم تكن هناك خطوط طيران مباشرة تربط الدول الإفريقية داخل القارة وكان هذا تنفيذا للسياسة الاستعمارية التي كانت تسعي إلي قطع أوصال القارة وعزل دولها وحصر صلاتها بالدول الأوروبية المستعمرة وكانت الخطوط المفتوحة للسفرإلي ليوبولدفيل وقتها من مصر هي إما عن طريق أثينا أو بروكسل واخترت وقتها أن يكون سفري عن طريق بلجيكا حيث لم يسبق لي زيارتها من قبل من ناحية ومن ناحية أخري بوصفها الدولة التي كانت تستعمر الكونجو ولرغبتي في شراء بعض الكتب والمستندات التي تعطي خلفية عن الكونجو وأحواله‏.‏ وودعني أهلي وأصدقائي في المطار وداعا مؤثرا إذ كانوا جميعا قلقين ومشفقين من سفري إلي الكونجو حيث كانت أخبار الفوضي والاضطرابات تملأ الصحف والاذاعات يوميا وكان هذا هو السبب في أني لم أوافق علي اصطحاب زوجتي وولدي أحمد وعلي معي قبل أن استطلع الأحوال بنفسي‏.‏ وأمضيت نحو أسبوع في بلجيكا بين بروكسل وبلدة كينوك علي بحر الشمال ثم عدت إلي بروكسل حيث اشتريت بعض الكتب كما قررت أن اشتري مسدسا وسألني البائع في أحد محال بيع الأسلحة عن سبب رغبتي في شراء مسدس فقلت إنني ذاهب إلي الكونجو فأبدي تفهمه واختار لي مسدسا قويا عيار ‏9‏ ملليمترات ثم ذهبت إلي السفارة المصرية حيث أبلغت سفارتنا في ليوبولدفيل بموعد وصولي يوم ‏14‏ يونيو‏1964‏ وتوجهت إلي المطار حيث اشتريت بعض الصحف والمجلات للإطلاع عليها في الطائرة التي تقطع مسافة إلي ليوبولدفيل في ست ساعات‏.‏ وأقلعت الطائرة في موعدها وأنا فريسة لعواصف شتي ومددت يدي إلي الصحف التي اشتريتها وسحبت إحداها دون تمييز وكانت صحيفة ‏LESOIR‏ البلجيكية فقفز إلي عيني مانشيت علي الصفحة الأولي منها بالخط العريض تشومبي يسافر إلي مالي ويقابل موديبو كيتا وقرأت الخبر وأعدت قراءته مرات ولم يكن فيه أدني إشارة عما دار في اللقاء بينه وبين الرئيس المالي ولكن واقعة اللقاء في حد ذاتها أثارت مشاعري وتساؤلاتي إلي أقصي حد فكيف يمكن تصور أن يبعث تشومبي من جديد ويغادر منفاه في مدريد ويسافر إلي إفريقيا التي رفضته ويقابل من؟‏..‏ موديبوكيتا أحد زعماء إفريقيا الوطنيين والثوريين المعروفين بمعادة الاستعمار‏,‏ كيف قبل موديبوكيتا مقابلة تشومبي في عاصمته ومادلالات ذلك؟ وقفز إلي ذهني كلام الوزير محمود رياض وغضب عندما أثرت احتمال عودة تشومبي والذي لم يمض عليه أكثر من عشرة أيام‏.‏

‏*********‏

وصلت الطائرة نحو الساعة السادسة بعد الظهر إلي مطار ليوبولدفيل وكان في استقبالي رئيس البروتوكول بالخارجية الكونجولية والقائم بأعمال السفارة المصرية مصطفي حنفي وأعضاء السفارة السكرتير الثالث حسين الخازندار والملحق شوقي مسعود وباقي موظفي السفارة وكانت الحركة خافتة في المطار كما كان يعج بالكثير من الجنود الكونجوليين ورجال الشرطة‏,‏ وبدا لي علي الفور مدي كفاءة مصطفي حنفي ومقدرته علي التعامل مع الكونجوليين مسئولين وغير مسئولين‏,‏ وكان مصطفي حنفي أحد ضباط قواتنا المسلحة التي أرسلت إلي الكونجو ضمن القوات التابعة للأمم المتحدة تحت قيادة البكباشي سعد الدين الشاذلي ثم انضم إلي السفارة المصرية في أثناء فترة تولي السفير ممدوح جبه‏.‏

وكان حظر التجوال قد تم فرضه في ليوبولدفيل قبل وصولي بنحو أسبوع في الفترة من السادسة وحتي العاشرة مساء وتنفيذا لذلك فقد أوقف بعض الجنود الكونجوليين سيارة السفارة التي أقلتنا من المطار علي الرغم من أنها تحمل العلم المصري وحاول مصطفي حنفي إفهامهم أنها سيارة سفير الجمهورية العربية المتحدة بلا جدوي وعندما قال لهم أنها سيارة القنصل العام المصري اعتذر الجنود علي الفور وأدوا التحية العسكرية ثم سمحوا للسيارة باستئناف سيرها‏,‏ وهذا أمر له دلالته علي الرغم من استقلال الكونجو منذ عام‏1960‏ ومرور أربع سنوات علي ذلك إلا أن فكرة السفارات لم تكن معروفة لدي جميع الشعب بينما هم معتادون علي القنصليات التي كانت قائمة في الكونجو منذ زمن بعيد لرعاية مصالح الدول الأجنبية وكان من بينها قنصلية مصرية في الأربعينيات أغلقت فيما بعد‏.‏

وعندما وصلنا إلي دار سكن السفير كان يعج بعدد من المدعوين الذين دعاهم مصطفي حنفي للتعرف علي السفير الجديد وكان من بينهم عدد من سفراء الدول الصديقة والعاملين المصريين في الكونجو من الأطباء والقضاة والمدرسين وغيرهم‏.‏


تشومبي يؤلف الوزارة

وكانت دار سكن السفير تقع في حي كالينا وهو من الأحياء التي كانت مخصصة للبيض بعيدا عن الأحياء الوطنية التي يسكنها الكونجوليون ويظهر الفارق واضحا وجليا بين الأبهة التي كان يعيش فيها المستوطنون البيض والجاليات الأوروبية وتلك الأحياء التي يسكنها الشعب الكونجولي والتي تشبه المعسكرات‏.‏

وكانت مكاتب السفارة في مبني تمتلكه شركة النصر للتصدير والاستيراد في وسط المدينة وتشغل الطابق الأرضي منه مكاتب الشركة بينما تشغل السفارة الطابق الثاني ويقطن الطابق الثالث بعض موظفي السفارة والفنيين الذين كانوا يعملون في محطة اللاسلكي التي تربط السفارة بالقاهرة مباشرة والتي زودت بها السفارة المصرية في بداية إنشائها في شهر سبتمبر عام‏1960‏ والتي يعود إليها الفضل في إنقاذ حياتنا عندما اشتعلت الأزمة بعد ذلك في عام‏1964‏ وكان يديرها طاقم ممتاز من الأفراد المتميزين من القوات المسلحة‏.‏

وفي ميدان فسيح بوسط المدينة في مواجهة مكاتب السفارة البلجيكية كان يقام يوميا سوق يحمل إليه الكونجوليون بضاعتهم كل صباح حيث يفترشون أرض الميدان عارضين مشغولاتهم الفنية وتشمل التماثيل الخشبية والعاجية وسن الفيل وأحجار الملاكيت الجميلة القيمة والتي كانت تستخرج من مناجم النحاس والحراب والأقواس وجلد التمساح والأقنعة الخشبية‏..‏ إلخ‏,‏ ولا شك في أن للكونجوليين حسا فنيا مرهفا‏.‏ وبعد أيام قدمت أوراق اعتمادي إلي رئيس الجمهورية كازافوبو وبعد انتهاء المراسم جلست معه ومع سيريل ادولا رئيس الوزراء لمدة ساعة حاولت أن أبدد فيها شكوكهما نحو الجمهورية العربية المتحدة والتي كانت تناصر بشدة الزعيم لومومبا وايدين استعداد مصر المخلص لبناء علاقات متينة مع الكونجو في المجالات السياسية والاقتصادية‏.‏ وكان كازافوبو يتسم بالحرص والدهاء بينما كان أدولا متطلعا فعلا إلي علاقات جيدة مع مصر التي تحتل مركزا مؤثرا خاصا في إفريقيا‏.‏ ثم شرعت في زيارة السفراء المعتمدين في ليوبولدفيل وكان تمثيل الدول العربية في ذاك الوقت منحصرا علي مصر وتونس والسودان والجزائر‏,‏ كما كان السفراء المعتمدون في ليوبولدفيل يضمون عددا من أكفأ السفراء خاصة من قبل الدول الأوروبية التي كان لها مصالح واستمثارات هائلة في دولة الكونجو كما كان للاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا سفارات هناك‏.‏

وكان من المقرر عقد مؤتمر القمة الإفريقي في القاهرة شهر يوليو عام‏1964‏ وقد أرسلت وزارة الخارجية المصرية تدعو سفراءها المعتمدين في الدول الافريقية للعودة الي القاهرة لحضور أعمال المؤتمر وبعد وصولي إلي ليوبولدفيل بنحو عشرين يوما بدأت تسري شائعات بأن تشومبي قد وصل إلي ليوبولدفيل وبدأنا نتقصي حقيقة هذه الانباء التي اثارت السلك السياسي بين مرحب ومستنكر ولم تشر الصحافة او الاذاعة الكونجولية من قريب او بعيد الي هذا الموضوع واستمرت التكهنات إلي أن تحققت‏,‏ فقبل سفري إلي القاهرة بيومين لحضور مؤتمر القمة الافريقية اصبحت الشائعات بوصوله شبه مؤكدة وفي اليوم السابق لسفري الي القاهرة كنت علي موعد لزيارة السفير الامريكي في الكونجو‏(‏ ماك جودلي‏)‏ وكان رجلا ضخما مرحا وذهبت اليه وفي اثناء حديثي معه في غرفة مكتبه دق جرس التليفون فذهب للرد عليه وعاد ليقول لي ان الرئيس كازافوبو قد كلف تشومبي بمهمة وهو نظام مأخوذ عن النظام البلجيكي الذي يقضي بأن يكلف رئيس الدولة احد السياسيين بتشكيل وزارة وان ذلك لا يعني بالقطع ان يكون المكلف بذلك هو تشومبي نفسه وفي مساء اليوم التالي كان موعد سفري للقاهرة وركبت السيارة بعد الظهر للمطار وكان معي مصطفي حنفي وكنا نستمع لنشرة الاخبار المحلية في راديو السيارة حيث كان النبأ الاول هو ان الرئيس كازافوبو قد استقبل اعضاء الوزارة الجديدة برئاسة مويس تشومبي وقد احتفظ تشومبي لنفسه بوزارة الخارجية الي جانب توليه منصب رئيس الوزراء وحمدت الله علي انني في طريقي الي القاهرة حيث سيتاح لي ان اعاود سؤال وزير خارجيتنا محمود رياض عن موقفنا ازاء هذا الوضع وهو السؤال الذي استنكره عند مقابلتي له قبيل سفري الي الكونجو‏.‏


طار النوم من جفوني

وحضرت مؤتمر وزراء الخارجية الافارقة والذي كان يسبق مباشرة مؤتمر القمة الافريقي وقد حضره وفد الكونجو وقام الوفد المصري في المؤتمر باقناع باقي الوفود المشاركة بالموافقة علي ارسال برقية الي الرئيس كازافوبو تطالبه بعدم اشتراك تشومبي في المؤتمر وقد احتج الوفد الكونجولي بشدة علي ذلك وانسحب من المؤتمر كما قرر كازافوبو عدم المشاركة في مؤتمر القمة الافريقي تضامنا مع رئيس وزرائه‏,‏ وفي اثناء القمة ابدي بعض الرؤساء الافارقة عدم ارتياحهم للبرقية التي ارسلت الي كازافوبو باسم المؤتمر لمنع رئيس وزرائه من المشاركة باعتبار ان ذلك تدخل في الشئون الداخلية للكونجو‏.‏

وكان الرئيس سيرانانا رئيس مدغشقر هو الرئيس الوحيد الذي حاول الدفاع عن تشومبي اذ قال لقد استنكرنا جميعا مقتل لومومبا ولكن هذا لا يعطينا الحق في التدخل في شئون الكونجو ومادمنا نحن بهذا الصدد فلنسأل ضمائرنا من منا لم يوقع علي وثيقة باعدام احد مواطنيه؟ لسنا جميعا ملائكة فاذا كان تشومبي سيذهب الي الجحيم فمن المؤكد انه لن يكون وحده فالبعض منا سيكونون معه‏.‏

وقبل عودتي إلي ليوبولدفيل قابلت الوزير محمود رياض لفترة وجيزة وسألته عن موقفنا ازاء تشومبي فقال اننا نعترف بالحكومة الشرعية القائمة في ليوبولدفيل ولا شأن لنا بالتدخل في الشئون الداخلية للكونجو ولم يزد علي ذلك حرفا واحدا‏.‏

وغادرت القاهرة في صباح ‏9‏ يوليو عام‏1964‏ عائدا الي ليوبولدفيل وكنت قد قررت ان اوجل لمدة يومين او ثلاثة ـ زيارتي لرئيس الوزراء والتي لم يكن منها بد كان تشومبي يتولي وزارة الخارجية في نفسه الوقت وذلك لكي استطلع الموقف مع مصطفي حنفي وبعض سفراء الدول الصديقة وقابلني مصطفي حنفي واعضاء السفارة في المطار وذهبنا الي دار السكن حيث تناقشنا في الوضع ووافقني اعضاء السفارة علي عدم التعجل في طلب مقابلة تشومبي بوصفه وزير الخارجية الا ان الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن كما يقال‏,‏ ففي الساعة السابعة من صباح اليوم التالي لوصولي استيقظت علي رنين جرس التليفون وكان المتحدث مدير مكتب تشومبي وقال لي ان رئيس الوزراء ووزير الخارجية المسيو تشومبي يرغب في مقابلتي وحدد لي موعد المقابلة الساعة الثامنة صباحا اي بعد ساعة في مقر اقامته وطار النوم من جفوني وايقظت مصطفي حنفي بدوري وابلغته بما حدث وسألته عما اذا كان تشومبي قد سبق له ان طلب مقابلتي في اثناء وجودي في القاهرة فنفي ذلك ثم قال انه سيحضر لمنزلي علي الفور‏.‏ أول القصيدة كفر

واخذت دشا باردا وارتديت ملابسي ولم يلبث ان حضر مصطفي حنفي وانا اتناول كوبا من الشاي وظللنا نتكهن عن سبب طلب تشومبي هذه المقابلة المستعجلة والمفاجئة دون ان نصل الي قراره‏,‏ اذا ان المعتاد ان يطلب السفراء مقابلة وزير الخارجية الجديد في بداية ولايته وليس العكس‏.‏

وتوجهت الي مقر اقامة رئيس الوزراء في حين توجه مصطفي حنفي الي السفارة وقادني احد سكرتيري تشومبي الي غرفة الاستقبال واغلق الباب وانصرف وظللت واقفا نحو خمس دقائق عندما انفتح الباب ودخل تشومبي وكان متجهم الوجه وسلم علي قائلا‏:‏ صباح الخير ياسعادة السفير ورددت عليه صباح الخير ياسيادة رئيس الوزراء ودعاني الي الجلوس ولم اكد اجلس حتي قال لي‏:‏ وصلتنا معلومات مؤكدة امس ان هناك طائرتين تحملان العلامات المصرية قد هبطا امس في مطار ستانلي فيل وانزلتا حمولات من الاسلحة والذخائر الي الثوار هناك فماذا تقول؟؟

وقلت لنفسي أول القصيدة كفر ولكني تمالكت اعصابي بدرجة أدهشتني وقلت‏:‏يا سيادة رئيس الوزراء هذا كلام مستحيل وخطير وغير معقول فنظر إلي شذرا وقال‏:‏ ولماذا هو غير معقول؟ ان موقفكم مني معروف ولا يحتاج الي بيان‏.‏

قلت‏:‏ يا سيادة رئيس الوزراء لقد عدت من القاهرة مساء امس فقط حيث كنت احضر مؤتمر القمة الافريقي في القاهرة‏,‏ وقد قابلت قبل عودتي الرئيس جمال عبد الناصر ـ ولم أكن قد قابلته ـ وسألته عن موقفنا فأكد لي ان موقفنا هو عدم التدخل في الشئون الداخلية للكونجو‏,‏ كما قابلت وزير خارجيتنا محمود رياض فأكد لي المعني نفسه واضاف ان موقفنا من تشومبي وهو داعية انفصال اقليم كاتانجا غير موقفنا منه وهو رئيس لوزراء جمهورية الكونجو الموحدة والتي اعترفت بها الامم المتحدة وكنا من اوائل المعترفين بها وتبادلنا معها العلاقات الدبلوماسية اما وقد انتهي انفصال كاتانجا وعادت وحدة الكونجو فلا شأن لنا بشخص رئيس الوزراء الذي اختاره رئيس الجمهورية وفقا للدستور الكونجولي‏,‏ وعودتي لسفارتنا في الكونجو فور انهاء مؤتمر القمة الافريقي تؤكد هذا المعني ولقد عدت من القاهرة مساء امس فقط وكان اول ما أنوي عمله هذا الصباح هو الاتصال بمكتب رئيس الوزراء لطلب تحديد موعد معكم لتهنئتكم برئاسة الوزراء ووزارة الخارجية ولشرح موقفنا هذا ولكنكم سبقتموني بالدعوة لهذه المقابلة‏.‏

وكنت وانا احدثه انظر الي وجهة المتجهم الذي يطفح بالريبة والشك بل الكراهية وعندما انتهيت من كلامي خيل لي ان حديثي قد ادخل عليه لمسة من التردد والارتياح‏.‏

قال‏:‏ علي كل حال اني اريد تأكيدا رسميا من الحكومة المصرية بان هذا لم يحدث ؟ متي تستطيع ان ترد علي؟

وشعرت بدوري بنوع من الراحة اذ لم يكن هناك اسهل من تلبية هذا الطلب ولكني قلت له ياسيادة رئيس الوزراء اسمح لي بأن اقول رايي الشخصي وهو اني اخشي ان ابعث الي القاهرة بمثل هذا الطلب لاننا وقد بدأنا صفحة جديدة اخشي ان تفسر السلطات في مصر هذا الطلب علي انه موقف ريبة وشك في نياتنا وقد شرحت لك تعليماتي التي تلقيتها قبل عودتي من مصر من كلام الرئيس جمال عبدالناصر وزير خارجيتي قال‏:‏اني اصر علي تلقي الرد علي سؤالي‏:‏ هل هبطت هذه الطائرات المصرية في ستانلي فيل أم لا؟ قلت‏:‏ سأفعل ذلك ولكني اردت ان استرعي نظرك فقط الي ان مثل هذا قد يؤدي الي ايجاد جو من الريبة والشك؟ قال‏:‏ متي تستطيع ابلاغي بهذا الرد هل لديكم اتصال مباشر بالقاهرة؟ قلت‏:‏ نعم لدينا محطة لاسلكي مباشرة مع القاهرةقال‏:‏ ومتي يصلني الرد قلت‏:‏ في خلال يومين او ثلاثة قال‏:‏ هذا وقت طويل قلت‏:‏ ياسيادة رئيس الوزراء اذا تلقيت ردا قبل ذلك فسأوافيك به علي الفوري قال‏:‏ أني في انتظار ردك وقام وصافحني وانصرفت‏.‏


لا حياة لمن تنادي

عدت علي الفور الي السفارة وارسلت برقية مشفرة عاجلة الي الوزارة بما حدث ولفت النظر الي خطورة الموقف وان مثل هذه التصرفات ان كانت قد حدثت فيها تهديد خطير للرعايا المصريين في الكونجو وللسفارة نفسها بل ربما تؤدي الي قطع العلاقات بين البلدين‏,‏ وفي اليوم التالي ارسلت برقية اخري ثم برقية ثالثة ورابعة في الايام التالية دون ان اتلقي اي رد ولا حياة لمن تنادي‏!‏

وفي اليوم الخامس او السادس تلقيت طلبا من وزارة الخارجية الكونجولية بالتوجه الي مكتب رئيس الوزراء تشومبي في الساعة الحادية عشرة قبل الظهر‏.‏

وذهبت الي مكتبه حيث استقبلني رئيس الوزراء علي الفور بوجه باسم بشوش وبترحاب لم أكن اتوقعه‏,‏ ودعاني الي الجلوس معه في الصالون الملحق بمكتبه وقدم لي كوبا من البيرة الكونجولية ثم سألني اذا كنت قد تلقيت ردا من القاهرة بشأن موضوع الطائرات واجبت‏:‏ نعم ياسيادة رئيس الوزراء وقد نفت القاهرة تماما ارسال طائرات او شحنات اسلحة الي ستانلي فيل وفي الوقت نفسه ابدت عدم ارتياحها لهذا التقول وانه يتنافي مع الروح الجديدة التي تتبناها القاهرة في اقامة علاقات طيبة وايجابية مع جمهورية الكونجو الصديقة

واضفت بأن الوزارة عبرت عن قلقها من جراء الاتهامات التي وجهت إلي الجمهورية العربية المتحدة بالتدخل في الشئون الداخلية لدول افريقية في الوقت الذي تسعي فيه الجمهورية العربية المتحدة الي بداية صفحة جديدة في بناء علاقات وثيقة مع الكونجرس كدولة افريقية لها مكانتها واهميتها‏.‏

واستقبل اجابتي بتقبل وقال‏:‏ حسنا لقد ارتاحت نفسي الان وادهشني التحول المفاجئ في موقفه ولم ادر خلفيته وهل كانت حكاية انزال الطائرات المصرية شحنات من السلاح في ستانلي فيل حكاية مختلقة او بناء علي معلومات غيرصحيحة وبطبيعة الحال لم أكن استبعد اقدام الجمهورية العربية المتحدة علي مثل هذه الخطوة فهي كانت تعتقد وعن حق ان تشومبي ليس الا عميلا للاحتكارات الرأسمالية في دولة الكونجو ذات الامكانيات والثروات الهائلة وانها بالتالي لن تضع فيه اي جذور من الثقة خاصة بعد الدور الذي لعبه في انفصال كاتانجا فضلا عن انها متعاطفة تماما مع انطوان جيزنجا خليفة لومومبا في قيادة الحركة الوطنية من قاعدته في ستانلي فيل‏,‏ وانها تتطلع الي نجاح هذه الحركة وسيطرتها علي الكونجو جميعا عن طريق العناصر الوطنية المنتشرة في ارجاء الولايات الكونجولية‏.‏

ولم افهم سر هذا التحول في موقف تشومبي الا بعد اسابيع عندما قام السفير الامريكي ماكجودلي بزيارتي في مكتبي ردا علي الزيارة التي قمت بها له قبل اسابيع فقد اثرت معه قصة اتهام تشومي للجمهورية العربية المتحدة بارسال طائرات تحمل شحنات عسكرية الي انطوان جيزنجا في ستانلي فيل فقال السفير‏:‏

ان ما حدث هو انه كان مجتمعا مع كازافوبو وتشومبي في قصر الرئاسة عندما وردت لهم معلومات برقية بان هناك طائرات تقوم بانزال شحنات من الاسلحة والذخيرة في ستانلي فيل وانه اي السفير الامريكي اتصل علي الفور بالقاعدة الجوية الامريكية في ميتونا‏(‏ داخل الكونجو‏)‏ لارسال طائرات لاستطلاع حقيقة الامر وانه عندما وصلت هذه الطائرات الي ستانلي فيل لم تجد اثرا لمثل هذه الطائرات وانه ابلغ كازافوبو وتشومبي بذلك‏.‏

وبعدها بسنوات سألت الاستاذ محمد فائق الذي كان مسئولا عن الشئون الافريقية في عهد عبدالناصر عن موضوع الطائرات فقال ان مصر ارسلت بالفعل طائرات تحمل اسلحة وذخيرة الي ستانلي فيل ولكنها لم تكن تحمل علامات الجمهورية العربية المتحدة و انما كانت طائرات مستأجرة‏(CHARTERED)‏ وكان يقودها امريكيون غير رسميين مقابل اجر وان هذه العملية تمت بواسطة الشريف الهندي من السودان‏.‏ واعود الي مقابلتي مع تشومبي في مكتبه فقد فقال اني حقيقة ارغب علي الفور في اقامة علاقات ممتازة بين الكونجو والجمهورية العربية المتحدة في جميع المجالات التجارية والاقتصادية بل السياسية وانه يكن احتراما وتقديرا خاصا للرئيس عبد الناصر فكيف في رايي نبدأ مثل هذه العلاقات علي الفور؟‏!‏

وفوجئت بهذا الطلب وقلت هل تسمح لي ياسيادة رئيس الوزراء ان اتكلم معك بصراحة متناهية كأخ افريقي راغب في توثيق العلاقات بين بلدينا؟ قال بطبيعة الحال تفضل فاني اسمعك قلت ياسيادة الرئيس اسمح لي ان اؤكد اولا اني كسفير للجمهورية العربية المتحدة مهمتي الاولي واملي هو الوصول بالعلاقات بين بلدينا الي الذروة ولكني من الناحية الثانية ادرك ان هذه عملية قد تقتضي بعض الوقت لازالة جو الريبة والشكوك الذي احاط بهذه العلاقات واستعادة الثقة بين البلدين وان عملية انفصال كاتانجا قد اثارت شكوكا عميقة لدي الكثيرين خاصة في مصر التي تتطلع الي وحدة هذه القارة وتعاونها علي أكمل وجه في معالجة اثار الاستعمار الذي عانينا منه جميعا‏.‏

واني علي معرفة جيدة بأنة قبل الاقدام علي تقارب اكثر يجب البدء في نسج هذه العلاقات علي اسس متينة واستعادة الثقة في بعضنا البعض وقد فكرت بعمق في كيفية التوصل الي ذلك وانتهيت في تفكيري الي ان هناك مرحلة تمهيدية قد تأخذ وقتا طال او قصر في بناء هذه الثقة من جديد وبالتالي ـ وانا اعرف ببلدي ـ لابد من مرحلة زمنية حتي تذبل ذكريات انفصال كاتانجا من جهة ومن الجهة الثانية تتأكد القاهرة وتتثبت من ان سياستك ستكون ايجابية في النطاق الافريقي ولاشك في ان بناء هذه الثقة يحتاج الي بعض الوقت وانا من ناحيتي اعدك بان تكون تقاريري الي حكومتي ايجابية بشأن كل خطوة تتخذها في هذا السبيل بل بيني وبينك ـ سأبالغ في تقدير وامتداح كل خطوة تخطوها في هذا الصدد‏,‏ وانت تذكر موقف الدول الافريقية في مؤتمرالقمة الافريقي الذي لم يمض علي اجتماعه الا وقت قصير حيث اتخذت هذه الدول بما يشبه الاجماع قرارا بعدم مشاركتك فيه بالنظر الي دورك في انفصال كاتانجا الذي مازال حيا في الاذهان ارجو ان تضع ثقتك في ياسيادة رئيس الوزراء وسأتابع كل خطوة ايجابية في طريق الوحدة الافريقية بل ساحسبها لحكومتي‏,‏ وانا واثق بأن قليلا من الزمن سيصلح العلاقات بينك وبين مصر وسائر الدول الافريقية‏.‏

فرد علي تشومبي قائلا‏:‏ ولماذا إضاعة الوقت في الانتظار ونحن نستطيع البدء فورا في نسح العلاقات وبيننا وبينكم؟

قلت ياسيادة رئيس الوزراء ارجو ان تضع ثقتك الكاملة في ثم ان هناك عقبات لا تزال قائمة تحول دون سرعة تطبيع العلاقات قال مثل ماذا؟

وحرت في الاجابة علي هذا السؤال اذ لم يرد علي تصوري امكان تطوير العلاقات طفرة واحدة وانا اعلم العداء بل الكراهية الشديدة المستحكمة له في القاهرة‏,‏ وانعدام الثقة فيه كلية وفكرت قليلا ثم قلت علي سبيل التعجيز علي سبيل المثال هناك بعثة عسكرية اسرائيلية هنا تتولي تدريب الجيش الكونجولي ونحن نقوم بتدريب الكثير من الجيوش الافريقية وانت لابد ان تعلم العلاقة بيننا وبين اسرائيل.

سكت ونظر الي طويلا وبعد برهة تجاوزت الخمس دقائق قال‏:‏ انني رجل اعمال وفي امكاني طرد هذه البعثة فماذا انتم مستعدون لتقديمه لي مقابل ذلك؟

واسقط في يدي وفكرت بدوري بعض الوقت ان هذا سيكون خطوة كبيرة في استعادة الثقة بك ولكن وحدها لاتكفي اذ صدقني ان الامر يحتاج الي مرحلة زمنية معينة وتواتر في تقاريري بكل شئ ايجابي تقوم به في طريق دفع الوحدة الافريقية واذا اتخذت هذه الخطوة فستكون قد قطعت شوطا كبيرا في استعادة ثقة القاهرة وانتهت المقابلة وقد استغرقت اكثر من ساعة وعدت الي مكتبي لأحيط القاهرة بما جري وكالعادة لم يصلني اي رد او تعليق او توجيه‏!‏


طبق من لحم الغزال

ومضي نحو اسبوعين واذا بي اتلقي دعوة علي العشاء في مسكن رئيس الوزراء وذهبت لاجد نفسي السفير الوحيد عدا سفير ساحل العاج ثم مجموعة من وزراء تشومبي واصدقائه الكونجوليين ولم يتطرق الحديث قبل العشاء او بعده الي السياسة وفي اثناء العشاء قال لي لقد طلبت اعداد طبق لك من لحم الغزال الذي ربما لا تكون قد تذوقته من قبل وانتهي العشاء‏.‏

وبعدها بايام دعاني الي مكتبه حيث قدم لي سيدة كونجولية يبدو عليها البؤس والفقر قال لي انها احدي زوجات لومومبا وانها لم تنجب اطفالا وترغب في السفر الي القاهرة لتزور زوجة لومومبا واولاده الذين نجحت السفارة المصرية في تهريبهم الي مصر وقت اشتداد الازمة بالنسبة للومومبا وكان القصد بطبيعة الحال هو محاولة استمالتنا اليه وانه يتعاطف مع لومومبا الذي يدرك مكانته في مصر‏.‏

وظللنا في السفارة نحلل ما قاله تشومبي لي بشأن تزويد مصر لثوار ستانلي فيل بالاسلحة والذخائر ثم تحوله المفاجئ في المقابلة الثانية خاصة في المجالات السياسية والاقتصادية الي حد ابداء استعداده لطرده البعثة العسكرية الاسرائيلية من الكونجو في مقابل الحصول علي اعتراف الجمهورية العربية به وبدء صفحة جديدة في العلاقات معه‏.‏

وادهشنا في هذا الصدد عدم اثارته لموضوع رفض مشاركته في مؤتمر القمة الافريقي في القاهرة والذي يشكل اهانة وصفعة له بكل المعايير علي المستوي الافريقي والدولي‏,‏ برغم ان الكونجو احدي الدول الموقعة علي ميثاق الوحدة الافريقية والذي قامت علي اساسه منظمة الوحدة الأفريقية في‏1963‏ فضلا عن ان الثورة كانت مشتعلة في اقليم ستانلي فيل وكان يدرك ان في وسع القاهرة ممارسة الضغوط عليه من هذا المنطلق‏.‏

ولم نلبث ان اكتشفنا السر والسبب‏، والذي قفز الي عقولنا فجأة وهو انه كان من المقرر عقد مؤتمر دول عدم الانحياز في شهر سبتمبر ‏1964.‏

واين يعقد المؤتمر؟ في القاهرة ايضا التي حالت دون مشاركته في مؤتمر القمة الافريقي والقادرة تماما ـ كما وضح له ـ علي اثارة المشكلات امام مشاركته في هذا المؤتمر العام ـ والقضاء علي مستقبله السياسي‏.‏

كان تشومبي يدرك تماما خطورة انعزاله كما تمثل في رفض اشتراكه في مؤتمر القمة الافريقي‏,‏ وان مشاركته مؤتمر عدم الانحياز هو فرصة العمر لرد اعتباره علي المستوي الافريقي بل علي المستوي الدولي اذا ان مؤتمر عدم الانحياز اوسع نطاقا والي جانب عضوية الدول الافريقية بكاملها فيه فانه يضم ايضا غالبية الدول الاسيوية ودول امريكا اللاتينية بالاضافة الي يوجوسلافيا‏.‏

ومجرد دعوته ومشاركته في هذا المؤتمر تفتح امامه افاقا فسيحة وتسهم في اسدال ستار النسيان عن ماضيه الانفصالي وبداية صفحة جديدة خاصة وهو يرتكز علي قاعدة راسخة بوصفه رئيس وزراء الكونجو وهي من اغني واهم وأكبر الدول الافريقية علي الاطلاق‏.‏

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر

  1. ^ مجدي الحسيني (2007-03-21). "صفحات مجهولة من مذكرات وزير الخارجية الأسبق محمد إبراهيم كامل". المحطة (موقع إلكتروني) عن الأهرام 22 أغسطس 2002 - حكايات من الذاكرة. Retrieved 2010-05-24.