وزارة الدفاع في الجمهورية العربية السورية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تاريخ الجيش

فرض الانتداب الفرنسي على سورية (1920 - 1928)

لما وقعت أحداث ميسلون في شهر تموز من عام 1920 كان المجتمع الدولي قد أقر إحداث نظام «التوكيل الدولي» أو «الانتداب LE MANDAT» ولكن القواعد التفصيلية لهذا النظام لم تكن قد أقرّت بعد، وكان على الجنرال غورو، المفوض السامي الفرنسي في سورية ولبنان، أن يدير الأراضي السورية إدارة عسكرية إلى حين إصدار نظام الانتداب من الجهة الدولية المختصة، ليتولى هو تطبيقه، ولكنه تجاهل ذلك وتصرف في بلاد الشام وكأنها «مستعمرة فرنسية في أراضي ما وراء البحار LE TAT DO GRAND LIBAN» وقام بإصدار سلسلة من القرارات جزّأت الأراضي السورية وجعلتها سبع دول: 1) في 31 آب 1920 أعلن غورو عن إنشاء «دولة لبنان الكبير LE TAT DU GRAND LIBAN»، وضم إليها أربعة أقضية كانت تابعة حتى ذلك الوقت لحكومة دمشق، وهي أقضية بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا. 2) وفي 8 أيلول 1920 أصدر قراراً يقضي بإنشاء «دولة حلب E TAT DALEP» وألحق بها إدارياً سنجقي (دير الزور) و (الاسكندرونة). وبالقرار رقم 387 في 4 تشرين الأول من العام نفسه، تم تعيين الفريق كامل باشا القدسي وهو ضابط عثماني متقاعد، حاكماً على هذه الدولة، وعيّن إلى جانبه الجنرال ده لاموت DE LAMOTHE مستشاراً. 3) وفي 23 أيلول 1920 أصدر غورو قراراً جديداً بإنشاء «منطقة العلويين المستقلة ذاتياً TERRITOIRE AUTONOME DES ALAOUITES»، من أراضي لواء اللاذقية (العثماني) بما فيه أقضية صهيون وجبلة وبانياس، وقضاء حصن الأكراد وصافيتا من لواء طرابلس الشام (العثماني)، وناحية طرطوس، وقضاء مصياف من أعمال حماة، على أن تكون مدينة اللاذقية عاصمة لها، وقد عيّن الجنرال بيليوت حاكماً على هذه المنطقة. 4) وبعد أن استقال جميل الإلشي رئيس الحكومة السورية الثانية في عهد الانتداب، احتجاجاً على فصل منطقة العلويين عن الحكومة المركزية في دمشق، عهد المفوض السامي إلى حقي العظم بتشكيل الحكومة الجديدة، فقلّص هذا الأخير صلاحيات حكومته إلى «مجلس مديرين» بعد إلغاء منصب (وزارة الحربية) في الحكومة، وسمى نفسه «حاكم دولة دمشق GOUVERNEUR DE L ETAT DE DAMAS» اعتباراً من 3 كانون الأول 1920 . 5) وتماشياً مع فكرة التجزئة التي استنّها غورو اجتمع بعض زعماء جبل الدروز على هيئة مؤتمر وطني، واتخذوا جملة مقررات لتنظيم الشؤون الإدارية والمالية والقضائية الخاصة بالجبل، وقد حملها وفدٌ منهم إلى مندوب المفوض السامي في دمشق «دو كيه DE CAIX»، الذي اعتمدها يوم 4 آذار 1921، وبعدها أصدر المفوض السامي قراراً يقضي بأن يكون جبل الدروز «إقليماً يتمتع بالاستقلال الذاتي UN TRRITOIRE AUTONOME» أيضاً ، واستناداً لهذا القرار الأخير تم تعيين الأمير سليم الأطرش حاكماً للجبل، فدخل هذا إليه يوم 25/6/1921، ومعه بعثة فرنسية كانت تضم الكومندان «ترانكا» كمستشار إداري للحاكم، ونفراً من المستشارين الفنيين والإداريين والتراجمة والكتبة، وقوة من الجيش الفرنسي لفرض هيبة الحكومة الجديدة، كما تم تشكيل «مجلس تمثيلي» خاص بالجبل، يتكون من أربعين عضواً بالتعيين من زعماء الأسر الكبرى التي تقطن الجبل ، وقضى القرار بأن تكون كل من (صلخد) و (شهبا) مركز قضاء، وأن يحكم كل قضاء منهما قائم مقام من الأسرة المهيمنة في قراه (آل الأطرش فيما يتعلق بصلخد، وآل عامر بالنسبة لشهبا)، وأن يكون إلى جانب كل قائم مقام مستشار إداري فرنسي، وتم تشكيل قوة من الدرك المحلّي تعد 300 خيال يقودها ضابط فرنسي يعاونه ضابط من الأهالي، وكان أول ضابط من هؤلاء هو توفيق الأطرش، الذي مُنح رتبة «ليوتنان كولونيل: مقدم» لهذا الغرض. وهكذا لم تكد تنقضي سنة واحدة بعد معركة ميسلون ودخول القوات الفرنسية إلى دمشق، حتى أصبحت سورية مجزأة إلى ثلاث دويلات (دمشق وحلب ولبنان الكبير)، وإقليمين يتمتعان بالحكم الذاتي (هما جبل العلويين وجبل الدروز)، وسنجقين (لواءين) تابعين لدولة حلب ولكنهما يتمتعان بقدر لا بأس به من الاستقلال الإداري والمالي (وهما سنجقا الاسكندرونة ودير الزور). وقد لحظ الجنرال غورو أن سياسة التفرقة والتجزئة هذه لم ترق لأبناء الشعب السوري بمختلف فئاته وطوائفه فعمد إلى إعادة توحيد بعض المناطق التي سلف له أن حاول تجزئتها، فأصدر بتاريخ 8 حزيران 1922 قراراً أنشأ فيه ما سمّي «الاتحاد السوري LA FE DE RATION SYRIENNE» من ثلاث دويلات هي «دولة دمشق» و «دولة حلب» و«المنطقة المستقلة لجبل العلويين» بينما أبقى «الإقليم المستقل لجبل الدروز» خارج الاتحاد. وتشكل «مجلس الاتحاد» من ممثلين عن دول الاتحاد الثلاث بالتساوي، واجتمع هذا المجلس لأول مرة في 28 حزيران 1922، وانتخب صبحي بركات عضو المجلس التمثيلي عن دولة حلب، رئيساً له، وهذا الإجراء غير شرعي من الناحية الدولية لأنه جرى قبل صدور «نظام الانتداب» في لندن يوم 24 تموز 1922، المبني على نص المادة 22 من صك عصبة الأمم

فرض الانتداب الفرنسي على سورية (1920 - 1928): لما وقعت أحداث ميسلون في شهر تموز من عام 1920 كان المجتمع الدولي قد أقر إحداث نظام «التوكيل الدولي» أو «الانتداب LE MANDAT» ولكن القواعد التفصيلية لهذا النظام لم تكن قد أقرّت بعد، وكان على الجنرال غورو، المفوض السامي الفرنسي في سورية ولبنان، أن يدير الأراضي السورية إدارة عسكرية إلى حين إصدار نظام الانتداب من الجهة الدولية المختصة، ليتولى هو تطبيقه، ولكنه تجاهل ذلك وتصرف في بلاد الشام وكأنها «مستعمرة فرنسية في أراضي ما وراء البحار LE TAT DO GRAND LIBAN» وقام بإصدار سلسلة من القرارات جزّأت الأراضي السورية وجعلتها سبع دول: 1) في 31 آب 1920 أعلن غورو عن إنشاء «دولة لبنان الكبير LE TAT DU GRAND LIBAN»، وضم إليها أربعة أقضية كانت تابعة حتى ذلك الوقت لحكومة دمشق، وهي أقضية بعلبك والبقاع وحاصبيا وراشيا. 2) وفي 8 أيلول 1920 أصدر قراراً يقضي بإنشاء «دولة حلب E TAT DALEP» وألحق بها إدارياً سنجقي (دير الزور) و (الاسكندرونة). وبالقرار رقم 387 في 4 تشرين الأول من العام نفسه، تم تعيين الفريق كامل باشا القدسي وهو ضابط عثماني متقاعد، حاكماً على هذه الدولة، وعيّن إلى جانبه الجنرال ده لاموت DE LAMOTHE مستشاراً. 3) وفي 23 أيلول 1920 أصدر غورو قراراً جديداً بإنشاء «منطقة العلويين المستقلة ذاتياً TERRITOIRE AUTONOME DES ALAOUITES»، من أراضي لواء اللاذقية (العثماني) بما فيه أقضية صهيون وجبلة وبانياس، وقضاء حصن الأكراد وصافيتا من لواء طرابلس الشام (العثماني)، وناحية طرطوس، وقضاء مصياف من أعمال حماة، على أن تكون مدينة اللاذقية عاصمة لها، وقد عيّن الجنرال بيليوت حاكماً على هذه المنطقة. 4) وبعد أن استقال جميل الإلشي رئيس الحكومة السورية الثانية في عهد الانتداب، احتجاجاً على فصل منطقة العلويين عن الحكومة المركزية في دمشق، عهد المفوض السامي إلى حقي العظم بتشكيل الحكومة الجديدة، فقلّص هذا الأخير صلاحيات حكومته إلى «مجلس مديرين» بعد إلغاء منصب (وزارة الحربية) في الحكومة، وسمى نفسه «حاكم دولة دمشق GOUVERNEUR DE L ETAT DE DAMAS» اعتباراً من 3 كانون الأول 1920 . 5) وتماشياً مع فكرة التجزئة التي استنّها غورو اجتمع بعض زعماء جبل الدروز على هيئة مؤتمر وطني، واتخذوا جملة مقررات لتنظيم الشؤون الإدارية والمالية والقضائية الخاصة بالجبل، وقد حملها وفدٌ منهم إلى مندوب المفوض السامي في دمشق «دو كيه DE CAIX»، الذي اعتمدها يوم 4 آذار 1921، وبعدها أصدر المفوض السامي قراراً يقضي بأن يكون جبل الدروز «إقليماً يتمتع بالاستقلال الذاتي UN TRRITOIRE AUTONOME» أيضاً ، واستناداً لهذا القرار الأخير تم تعيين الأمير سليم الأطرش حاكماً للجبل، فدخل هذا إليه يوم 25/6/1921، ومعه بعثة فرنسية كانت تضم الكومندان «ترانكا» كمستشار إداري للحاكم، ونفراً من المستشارين الفنيين والإداريين والتراجمة والكتبة، وقوة من الجيش الفرنسي لفرض هيبة الحكومة الجديدة، كما تم تشكيل «مجلس تمثيلي» خاص بالجبل، يتكون من أربعين عضواً بالتعيين من زعماء الأسر الكبرى التي تقطن الجبل ، وقضى القرار بأن تكون كل من (صلخد) و (شهبا) مركز قضاء، وأن يحكم كل قضاء منهما قائم مقام من الأسرة المهيمنة في قراه (آل الأطرش فيما يتعلق بصلخد، وآل عامر بالنسبة لشهبا)، وأن يكون إلى جانب كل قائم مقام مستشار إداري فرنسي، وتم تشكيل قوة من الدرك المحلّي تعد 300 خيال يقودها ضابط فرنسي يعاونه ضابط من الأهالي، وكان أول ضابط من هؤلاء هو توفيق الأطرش، الذي مُنح رتبة «ليوتنان كولونيل: مقدم» لهذا الغرض.



وهكذا لم تكد تنقضي سنة واحدة بعد معركة ميسلون ودخول القوات الفرنسية إلى دمشق، حتى أصبحت سورية مجزأة إلى ثلاث دويلات (دمشق وحلب ولبنان الكبير)، وإقليمين يتمتعان بالحكم الذاتي (هما جبل العلويين وجبل الدروز)، وسنجقين (لواءين) تابعين لدولة حلب ولكنهما يتمتعان بقدر لا بأس به من الاستقلال الإداري والمالي (وهما سنجقا الاسكندرونة ودير الزور). وقد لحظ الجنرال غورو أن سياسة التفرقة والتجزئة هذه لم ترق لأبناء الشعب السوري بمختلف فئاته وطوائفه فعمد إلى إعادة توحيد بعض المناطق التي سلف له أن حاول تجزئتها، فأصدر بتاريخ 8 حزيران 1922 قراراً أنشأ فيه ما سمّي «الاتحاد السوري LA FE DE RATION SYRIENNE» من ثلاث دويلات هي «دولة دمشق» و «دولة حلب» و«المنطقة المستقلة لجبل العلويين» بينما أبقى «الإقليم المستقل لجبل الدروز» خارج الاتحاد. وتشكل «مجلس الاتحاد» من ممثلين عن دول الاتحاد الثلاث بالتساوي، واجتمع هذا المجلس لأول مرة في 28 حزيران 1922، وانتخب صبحي بركات عضو المجلس التمثيلي عن دولة حلب، رئيساً له، وهذا الإجراء غير شرعي من الناحية الدولية لأنه جرى قبل صدور «نظام الانتداب» في لندن يوم 24 تموز 1922، المبني على نص المادة 22 من صك عصبة الأمم

نص المادة 22 من صك عصبة الأمم، وهي المادة التي بني عليها نظام الانتداب الصادر في 24 تموز 1922

وفي 19 نيسان 1923 جرى سحب الجنرال غورو من منصبه في بيروت، وتم تعيين الجنرال «ويغان WEYGAND» مكانه، فوصل إلى مقر عمله في 9 أيار 1923، وحاول المفوض السامي الجديد أن يخفف من أسلوب «الإدارة العسكرية المباشرة» الذي مارسه سلفه، فأصدر في 24 أيلول 1923 قراراً يطلب إجراء انتخابات لتشكيل «مجلس تمثيلي منتخب» في كل دولة، إلا أنه نص في المادة 37 من هذا القرار على أن «جميع المناقشات التي تصدر عن المجلس في غير اختصاصه يمكن إبطالها بقرار من المفوض السامي». واستناداً لهذا التوجه أصدر «حاكم دمشق» ـ السيد حقي العظم ـ قراراً تحت رقم 66 في 26 تشرين الأول، وجرى الأمر نفسه في حلب مع إضافة بسيطة وهي أن تدخل السلطات الفرنسية في الانتخابات المحلية دفع حاكم حلب كامل باشا القدسي لتقديم استقالته، فعيّن المفوض السامي مكانه مصطفى برمدا حاكماً لدويلة حلب. وفي 29 أيلول 1923 أقرّ مجلس عصبة الأمم «نظام الانتداب» الذي صدر قبل عام ونيّف (24 تموز 1922) في مدينة لندن، وحوى 20 مادة ، وقامت أمانة العصبة بإبلاغ التصديق على نظام الانتداب إلى الحكومتين الفرنسية والبريطانية، فقام سكرتير الحكومة الفرنسية بإرسال نسخة منه في 5 تشرين الأول 1923، إلى المفوض السامي الفرنسي في بيروت، مع مذكرة جاء فيها: «أتشرف بإبلاغكم أن رئيس الوزراء أنبأني بزوال الحوائل السياسية التي أخّرت حتى الآن تطبيق نظام الانتداب لسورية ولبنان وفلسطين، وقد دخل كلاهما في دور التنفيذ، وبناء عليه سيطبق هذا الانتداب من الآن وصاعداً وفقاً لأحكام تصريح لندن المؤرخ في 24 تموز 1922 والذي أتشرّف بإرسال نسخة منه مع هذا الكتاب». وفي عام 1924 حدث أمران هامان كان لهما أثر في سورية، أحدهما خارجي والثاني داخلي: أما الحدث الخارجي فكان بدء تنفيذ معاهدة لوزان للصلح، بين الدول المتحالفة وتركيا التي تم التوقيع عليها يوم 24 /7/1923 وأهميتها بالنسبة لسورية ، تكمن في أنها اعترفت باتفاقية أنقرة التركية - الفرنسية لعام 1921 فيما يتعلق بخط الحدود بين سورية وتركيا الكمالية، والتي تنازلت فيها الحكومة الفرنسية عن جزء من الأراضي السورية إلى تركيا في منطقة كيليكيا. وأما الحدث الثاني الداخلي فهو أن المفوض السامي ألغى بقراره رقم 2980 في 5 كانون الأول 1924 «الاتحاد السوري» الذي دام حوالي سنتين، وأقام محله كياناً موحداً باسم «دولة سورية E TAT DE SYRIE» ويضم كلاً من دمشق وحلب ودير الزور وحماة وحمص ودرعا وعاصمته دمشق. ولكن هذه الحركة التوحيدية لم تكن كاملة لأنها أبقت كلاً من (جبل الدروز) و (جبل العلويين) خارج الدولة السورية الموحدة، بل أصبح الأخير أكثر استقلالاً وتبدّل وضعه القانوني من «إقليم يتمتع بالحكم الذاتي UN TERRE- TOIRE AUTONOME» إلى «دولة مستقلة UN TAT INDEPENDANT». وكان إلغاء (الاتحاد السوري) وإنشاء (دولة سورية) آخر أعمال الجنرال «ويغان» في الشرق، حيث تم سحبه أواخر عام 1924 ، وتعيين الجنرال «ساراي SARRAIL» مكانه، واستهل ساراي عهده في 15 كانون الثاني 1925 بإلغاء الأحكام العرفية التي كانت مفروضة على البلاد منذ عام 1920، وأعلن أنه على استعداد لمقابلة الجميع، وتقدم إليه نفر من الزعماء السوريين في 17 كانون الثاني 1925 بلائحة من المطالب الوطنية تضم ثلاثة عشر بنداً وعد بدراستها، ولكنه في الحقيقة رفضها ضمناً لأنها تطالب بنوع من الاستقلال لدولة سورية يتنافى مع المصالح الفرنسية، فقد جاء في ديباجتها وبنودها الثلاثة عشر مايلي: «نحن الموقعين أدناه من مختلف طبقات الشعب السوري، قد أتينا عن الوفد الحامل لهذه المطالب ليبلغها إلى الجنرال ساراي المفوض السامي للجمهورية الفرنسية، وليعرب له عن أماني الأمة التي تطلب تحقيقها، وهي: 1) نطلب أن تكون البلاد السورية بحدودها الطبيعية التي كانت عليها قبل الحرب العامة، بما فيها بلاد العلويين وجبل الدروز ولواء الاسكندرونة والأراضي الملحقة بلبنان الصغير وطناً واحداً في اللغة والقومية. 2) دعوة الجمعية التأسيسية، وأن تنتخب انتخاباً حراً لتضع للبلاد قانونها الأساسي، وحل المجالس التمثيلية الحالية لأنها لا تنطبق على القواعد النيابية، وحصر حق التشريع بالمجلس النيابي وإلغاء القوانين الاستثنائية الصادرة بشكل قرارات إفرادية. 3) لما كانت سورية بلاداً معترفاً باستقلالها في العهود الدولية، فنطلب تأييد قاعدة مسؤولية الحكومة أمام البرلمان، وإلغاء الإدارة العسكرية ومنع تدخل المستشارين (الفرنسيين) حتى في الأوامر الجزئية». وبدلاً من تنفيذ هذه الطلبات المحقّة، أو بعضها على الأقل، حاول ساراي تهدئة المشاعر الوطنية بإصدار القرار 16/س تاريخ 19/1/1925، الذي يتعلق بالتابعية (الجنسية) السورية من جهة، وبالإيعاز لرئيس دولة سورية السيد صبحي بركات لتفعيل (المجالس التمثيلية) من جهة ثانية، وقد دعا الأخير لانعقاد (المجلس التمثيلي لدولة سورية) في 16 آذار 1925، ولكن مثل هذه التدابير لم تكن لترضي الشعب السوري، الذي كان لا يرضى عن الاستقلال الوطني بالكامل بديلاً، ولهذا تجاوبت جميع البلاد السورية مع الثورة التي أطلقها سلطان باشا الأطرش، في أوائل شهر تموز 1925، وهي الثورة المعروفة باسم «الثورة السورية الكبرى» والتي دامت حوالي ثلاثين شهراً من تموز 1925 وحتى أواخر 1927. وقد حاول ساراي قمع الثورة بقوة السلاح فقصف مدينتي دمشق وحماة بالقنابل، وكذلك فعل بعدة قرى في حوران وجبل الدروز، وهذا ما ألّب المشاعر ضد فرنسا ليس في البلدان العربية والإسلامية فحسب، وإنما في البلدان الأوروبية والمهاجر الأمريكية أيضاً، ولهذا قامت الحكومة الفرنسية بسحب الجنرال ساراي في تشرين الثاني 1925، وعينت محله المسيو هنري ده جوفنيل، الوزير السابق والعضو في مجلس الشيوخ والذي قام فور تعيينه بمقابلة عدد من الزعماء الوطنيين السوريين في باريس وجنيف والقاهرة، قبل أن يتوجه إلى بيروت ويستلم مهام منصبه كمفوض سامٍ جديد أوائل عام 1926. وقد أحدث تعيين هنري ده جوفنيل مفوضاً سامياً لفرنسا في الشرق، قدراً من التغيير في السياسة الفرنسية تجاه سورية، لأنه وضع حداً لنظام «الإدارة المباشرة» التي اتبعها الجنرالات الثلاثة (غورو، ويغان، ساراي) بين 1919 و1925، وقام بمحاولة - ولو متواضعة - لإشراك الوطنيين في الحكم. المفوضون السامون الذين تعاقبوا على سورية ولبنان من عام (1918 - 1945).

وقد بدأ ده جوفنيل عهده بالإعلان عن أنه «جاء يمنح السلم لمن يريد السلم، ويعلن الحرب على من يريد الحرب». واتصل ده جوفنيل بالداماد أحمد نامي بيك - الذي كان يقيم ذلك الوقت في مدينة بيروت - وطلب منه تشكيل حكومة سورية جديدة، ولكن هذا أغضب صبحي بركات، رئيس دولة سورية، لأنه جرى دون علمه، فسارع إلى تقديم استقالته وأحدث هذا فراغاً دستورياً في منصب رئاسة الدولة بدمشق، وهذا ما جعل ده جوفنيل يعين بيير آليب باسم «المُرسل فوق العادة من لدن المفوض السامي والقائم بإدارة شؤون الدولة السورية» وفقاً للقرار رقم 118 الصادر في 19 شباط 1926، والقاضي بتخويله إدارة شؤون الدولة السورية مؤقتاً. وظل هذا التدبير قائماً حتى 26 نيسان 1926، حين استلم الداماد أحمد نامي منصبه الجديد كرئيس دولة ورئيس حكومة معاً، وألّف وزارته الأولى، ودخل فيها عدد من الزعماء الوطنيين (فارس الخوري ولطفي الحفار وحسني البرازي)، إلا أن اثنين من وزرائه قدّما استقالتهما احتجاجاً على صدور قرار يقضي بتعطيل جريدة «سورية الجديدة» وهذا ما أجبر الداماد على إعادة تشكيل حكومته في أواسط عام 1926. وفي أثناء ذلك كان ده جوفنيل يحاول إقناع الوطنيين بضرورة إنهاء الثورة المسلحة، لكي يعمل على إقامة تنظيم جديد للعلاقات بين فرنسا وسورية، فجرى عندئذ اجتماع بين قيادة الثورة في الجبل والقيادة السياسية الوطنية في دمشق، تم فيه الاتفاق على طلب تحقيق شروط معينة من قبل المفوض السامي، قبل إنهاء الثورة المسلحة وهي: 1) تدعى جمعية تأسيسية بطريقة الانتخاب المباشر لوضع قانون البلاد الأساسي (الدستور) على أساس السيادة الوطنية. 2) تحدّد العلاقات بين سورية وفرنسا بمعاهدة تُعقد بينهما، وتكون محققة لمطالب سورية. 3) يُفصل في مسألة الوحدة السورية في المستقبل بين أولي الشأن أنفسهم. 4) تنشأ إدارة وطنية تحوز على ثقة البلاد. 5) يُعلن عفو عام عن المخالفات والجرائم السياسية دون استثناء أحد، وأما الحق المدني فيبقى لأهله وكان من الممكن أن يبدأ ده جوفنيل في بحث هذه المطالب وتنفيذها مقابل إنهاء الأعمال المسلحة في سورية إلا أن الحكومة المركزية في باريس لم يرق لها ما أبداه من ميل للتفاهم مع الوطنيين، فعملت على سحبه وتعيين «هنري بونسوH. PONSOT» مكانه، الذي وصل بيروت في 12 تشرين الأول 1926، واتبع بونسو الخط نفسه الذي انتهى إليه ده جوفنيل، ولكن مع ميل واضح إلى المماطلة في التنفيذ، وذلك لاقتناعه بأن «الزمن كفيل بحل كل شيء» واستهل عمله بإعلان العفو عن المنفيين السياسيين، ووعد بدراسة إصدار عفو عام عن جميع الملاحقين والمحكومين في حالة إلقاء الثوار للسلاح، كما أعلن عن قرب تشكيل حكومة وطنية جديدة تتولى إجراء انتخابات تأسيسية لوضع أحكام الدستور. وقبل أن يعمل بونسو على تنفيذ وعوده ألغى ارتباطاته فجأة ثم سافر إلى باريس، أوائل شهر شباط 1927 وتوجه منها إلى جنيف في الشهر التالي، وذلك للاجتماع بأعضاء لجنة الانتداب في عصبة الأمم، والتشاور معهم حول الإجراءات التي اتخذها أو يزمع اتخاذها، وفور عودته إلى سورية قام بونسو بالإيعاز إلى الداماد أحمد نامي بتقديم استقالته في 8 شباط 1928، وعهد إلى الشيخ تاج الدين الحسني في 12 شباط بتشكيل حكومة تشرف على انتخابات الجمعية التأسيسية، المكلفة بوضع دستور البلاد، وقد جرت هذه الانتخابات بالفعل في 24 نيسان 1928، وبدأت بوضع أحكام الدستور، عن طريق لجنة فيها ترأسها السيد فوزي الغزّي الذي كان واحداً من كبار فقهاء القانون الدستوري في ذلك الوقت. وقد أنهت الجمعية التأسيسية صياغة الدستور ضمن نص من 115 مادة يقرر استقلال سورية ضمن نظام نيابي وطني جمهوري، ويحدد علاقاتها كدولة مستقلة مع فرنسا بالنصوص التعاهدية التي يمكن أن تعقدها الدولتان في المستقبل. وبالتوقيع على هذا النص - ولو أن المفوض السامي لم يعتمده إلا بعد عامين - يكون عهد الانتداب الفرنسي المباشر قد آذن بالزوال مُفسحاً المجال أمام بدء ظهور المؤسسات الدستورية الوطنية للدولة السورية.  

الكفاح المسلح ضد الانتداب (1920 - 1928)

شهدت هذه الفترة العديد من الثورات المسلحة التي تفجّرت ضد قوات الانتداب الفرنسي، في مختلف مدن وأرياف سورية، وقد امتازت هذه الثورات بالسمات العامة التالية: السمات العامة للثورات السورية: تشترك الثورات المسلحة التي قام بها الشعب العربي السوري في مختلف المدن والأرياف ضد قوات الانتداب الفرنسي، بين عامي 1920 و 1928، من حيث الصفات العامة، مع غيرها من أعمال الكفاح المسلح التي قامت بها الشعوب المستعمرة،ولكنها تنفرد ببعض المزايا وهي: 1) الترابط الزمني: إن جميع أعمال الكفاح المسلح التي وقعت في سورية بين عامي 1920 و 1928 تشكل وحدة متكاملة مترابطة الحلقات فبعض الثورات مثل ثورة الشيخ صالح العلي في الجبال الساحلية، وثورة يوسف السعدون في جهات أنطاكية، وثورة إبراهيم هنانو في ريف حلب، وثورة محمود الفاعور في سهل الحولة وثورة الدنادشة في تلكلخ قد قامت في عام 1919 وانتهت عام 1922، في حين أن ثورات أخرى مثل ثورة جبل العرب، وثورة دمشق والغوطتين، وثورة حمص وحماة، وأغلب الثورات السورية الأخرى، قد نشبت في عام 1925 وانتهت أواخر عام 1927، ولكن هذه وتلك، بما في ذلك معركة ميسلون، مترابطة بين بعضها منطقياً وزمنياً وللدلالة على صحة ذلك ما قاله الجنرال أندريا، حاكم دمشق وجبل الدروز عام 1926 في وصف الثورة: «إن بذرة الثورة التي نشبت في جبل الدروز سنة 1925 قد ألقيت بلا شك في دمشق من قبل فيصل وحاشيته». 2) الترابط المكاني: لم تكن الأعمال والثورات المسلحة بين 1920 و1928 متصلة من الناحية الزمانية فقط، بل كانت كذلك متصلة من الناحية المكانية: فثورة الشمال التي قادها إبراهيم هنانو كانت متصلة اتصالاً وثيقاً بثورة القصير في سنجق الاسكندرونة بقيادة المجاهد الشيخ يوسف السعدون من جهة، وبثورة جبل صهيون (منطقة الحفّة) التي قادها المجاهدان عمر ونجيب البيطار من جهة ثانية، وهذه الأخيرة كانت مرتبطة ارتباطاً عضوياً بثورة الشيخ صالح العلي في الجبال الساحلية، وقد لعب المجاهد هزاع أيوب دور ضابط الاتصال بين هذه الثورة الأخيرة وبين الثورة في المنطقة الشمالية بقيادة إبراهيم هنانو. ولم تقم ثورة حماة وكذلك ثورة دمشق والغوطتين، إلا بالتنسيق مع القائد العام للثورة السورية الكبرى في جبل العرب، سلطان الأطرش، وقد خففتا من ضغط القوات الفرنسية على ثورة الجبل بشكل ملحوظ، وكذلك فإن ثورة قرى وادي التيم في لبنان كانت متصلة بالثورة الأم في جبل العرب، كما كانت ثورة القلمون وجبل عكار متصلة بثورة حمص وحماة والمنطقة الوسطى، وكانت قيادة الثورات الأخيرة بيد فوزي القاوقجي وسعيد العاص. 3) البعد عن الروح الإقليمية: لقد تجنبت هذه الثورات جميعاً «الروح الإقليمية» وهكذا لم يقتصر نشاط ثورة الشيخ صالح العلي على منطقة الجبال الساحلية فقط، بل مدّت نشاطها إلى الساحل، وشاركت في معركة جسر الشغور، وكذلك كان الحال بالنسبة للثورة في جبل العرب، التي مدت نشاطها المسلح إلى حوران (معركة المسيفرة) وإلى دمشق والغوطتين وإلى وادي التيم في لبنان. ولم يكن إطلاق صفة «الدرزية DRUZE» على هذه الثورة بدلاً من صفة «السورية SYRIENNE» في أغلب المصادر والمراجع الفرنسية، إلا لبثّ فكرة معينة، وهي أن الثورة كانت لأجل الدروز، أو أن من قام بها كانوا من الدروز. والحقيقة هي غير ذلك تماماً، فأعمال الكفاح المسلح في منطقة جبل العرب اشترك فيها مجاهدون من المدن السورية جميعاً: فقد شارك فيها مجاهدون من دمشق مثل نسيب البكري ونزيه المؤيد العظم وعبد الرحمن الشهبندر، ومجاهدون من حماة مثل سعيد العاص ومظهر السباعي، ومن اللاذقية كالدكتور أمين رويحة، ومن حلب كالملازم خير الدين اللبابيدي، ومن دير الزور كالمجاهد سرحان أبو تركي ... ولم تكن الثورة في الغوطة وقفاً على الدمشقيين، أو أبناء ريف دمشق، فقد ضمت مجاهدين من شتى المدن السورية أيضاً مثل رمضان شلاش من دير الزور، وعبد القادر مليشو وسعيد الترمانيني من حماة، ومظهر رسلان من حمص، وفؤاد إبراهيم باشا من حلب، كما شاركت عناصر من خارج سورية مع مجاهدي الغوطة مثل فوزي القاوقجي من طرابلس الشام، وسعيد اليماني من اليمن، والأمير عز الدين الجزائري من الجزائر، كما أن نفراً من المغاربة والجزائريين العاملين في الجيش الفرنسي كانوا يتصلون بالثوار السوريين، كلما أمكنهم ذلك ويقدمون لهم معلومات ثمينة بخصوص تحركات القوات الفرنسية المقبلة ضدهم. وأكبر مثال على سمة «اللا إقليمية» في الثورات السورية هو الذي قدّمه المجاهد الشهيد سعيد العاص، الذي كان ضابطاً في الجيش العثماني، ثم في الجيش العربي، ثم اشترك في ثورة حمص والمنطقة الوسطى، ثم في ثورة الجبل، فثورة دمشق والغوطتين، ثم في القلمون وعكّار (لبنان)، وقد اتجه بعد ذلك إلى الأردن والحجاز فعمل في وظائف عسكرية وإدارية ثم التحق بثورة فلسطين عام 1936، وقاتل في عدة مواقع حتى استشهد في معركة «الخضر». 4) اللاطائفية: حيث اشترك أبناء جميع الطوائف والمذاهب في هذه الثورات: فالثورة التي قامت في جبل العرب كان إلى جانب قادتها وأفرادها من الدروز نفر كبير من المسلمين السنيين ومن المسيحيين أيضاً، ومن هؤلاء الأخيرين السيد عقلة القطامي، وهو زعيم مسيحيي الجبل، ويبين السجل الذهبي لشهداء الثورة السورية عدداً لا بأس به من أبناء الطائفة المسيحية (وإن كانت أسماؤهم في ظاهرها لا تدل على ذلك). كما أن ثورة الشيخ صالح العلي لم تقتصر على العلويين أبناء المنطقة، وإنما شارك فيها نفر كبير من السنيين من أهالي منطقة الحفة وبابنّا، ومن أبناء مدينتي حمص وحماة الذين شكلوا فوجاً خاصاً بهم تقريباً حمل اسم «الفوج الملي» ، / كلمة «الملي» هنا هي تحريف للكلمة الفرنسية «MILICE» ومعناها «الأنصار» وليست مشتقة من كلمة «ملة» العربية/. 5) انتفاء الغرض الشخصي: حاول المستعمرون أن يعزوا الثورات السورية دوماً لأسباب شخصية، فهم يدعون مثلاً أن ثورة المنطقة الساحلية سببها معارضة السلطة الفرنسية لأطماع الشيخ صالح العلي في وضع يده على أراضي الإسماعيليين في القدموس. وثورة جبل الدروز التي قادها سلطان الأطرش ضد الفرنسيين عام 1925 سببها عدم موافقتهم على تعيينه حاكماً على جبل الدروز في مكان ابن عمه سليم الأطرش بعد وفاة هذا الأخير عام 1923. وثورة حماة التي قام بها فوزي القاوقجي، عندما كان ضابطاً في الحامية الفرنسية بهذه المدينة سنة 1925 سببها - كما يدعون - أن القيادة الفرنسية تجاوزت هذا الضابط في الترقية فثار عليها، وثورة الشهيد حسن الخراط سببها - كما يدعون أيضاً - قيام الفرنسيين بشنق ابنه في جريمة من جرائم القانون العام! وكل هذه ادعاءات لفقتها دائرة الاستخبارات العاملة في المفوضية العليا في بيروت للإساءة إلى هذه الثورات وإلى الأبطال الذين قادوها. ويمكن أن يُرد هنا بأن نفراً من هؤلاء الزعماء مثل ابراهيم هنانو وصالح العلي وفوزي القاوقجي... عرضت عليهم القيادة الفرنسية مناصب حكام في المناطق التي كانوا يقودون الثورة فيها مقابل إنهاء ثوراتهم، ولكنهم رفضوا هذه العروض الرخيصة بإباء. 6) الانتشار والفعالية: انتشرت الثورات السورية أفقياً ورأسياً في الوقت نفسه، أي أنها حققت سعة الانتشار والفعالية معاً، وللدلالة على هذه الميزة الفريدة في الثورات السورية يمكن ذكر أقوال منسوبة لاثنين من المفوضين السامين الفرنسيين الأوائل، وهما الجنرال (ويغان weygand) والجنرال (ساري SARRAIL).

  • فقد قال الجنرال ويغان في حفل إزاحة الستار عن النصب التذكاري الذي أقيم في بيروت لقتلى جيش الشرق الفرنسي والبحرية الفرنسية في تموز 1924: «اضطرت فرنسا بعد الهدنة، بعد ما صمتت أصوات المدافع في أوروبا، لأن ترسل الأمهات الفرنسيات أولادهن إلى ساحات القتال في مرعش وأورفا، وفي ميسلون، بعد أن ظنن أن أبناءهن سيبقون لديهن بعد الحرب طويلاً، وأنتم الذين رأيتم جهود جيشنا وقد بلغ عدد قتلاه 9250 جندياً وضابطاً بإمكانكم أن تذكروا ذلك للأولاد والأحفاد».
  • أما الجنرال ساراي وهو الذي أعطى الأمر بقصف دمشق في 18 تشرين الأول 1925، ومن قبلها مدينة حماة أوائل الشهر نفسه فقد قال مدافعاً عن موقفه هذا بعد سحبه من منصبه وعودته إلى فرنسا: «إن بعض الكتاب الفرنسيين يجهلون كل شيء عن سورية، فيجب ألا يلومونا إن اتخذنا هناك بعض الإجراءات العنيفة، يكفي أن يعرفوا أنه في عام 1922 نشبت في سورية خمس وثلاثون ثورة كان طعامها خمسة آلاف من أبناء فرنسا بين جندي وضابط».

وللتأكيد على فعالية الثورات السورية وسعة انتشارها يمكن الإشارة إلى أن مجموع المجاهدين الذين انخرطوا في الأعمال الثورية بين 1919 و1928 بلغ حوالي 35,000، وأن القيادة الفرنسية قد زجت ضد هذه الثورات خمسين ألفاً من الجند النظاميين، عدا القوات الرديفة والمساعدة. 7) عمومية الثورة وشمولها: لم تتوان أي منطقة من مناطق الوطن السوري عن القيام بواجبها في النضال المسلح ضد المستعمرين، من موقع «بينادور» في أعالي الجزيرة من جهة الشمال الشرقي إلى بلدة «مجدل شمس» في أقصى الجنوب الغربي، ومن مخفر «حارم» في الجهة الشمالية، حتى القوى المتاخمة للحدود الأردنية من جهة الجنوب، ثم من «طرطوس» غرباً وحتى بلدة «البوكمال» من جهة الشرق. كما يمكن القول أن جميع فئات الشعب وطوائفه شاركت في الثورات السورية، فقد ضمت هذه الثورات أبناء العائلات العريقة(مثل سلطان الأطرش، نسيب البكري، نزيه المؤيد العظم، ابراهيم هنانو، الشيخ صالح العلي، فائق العسلي، شوكت العائدي، الأمير عز الدين الجزائري)، وأبناء العائلات الفقيرة والمكافحة (مثل حسن الخراط في دمشق، ونجيب عويد في حلب، ومصطفى الخليلي في حوران، وحمود الحمادي في دير الزور). وكذلك شارك في هذه الثورات نفر كبير من الضباط القدامى (مثل فوزي القاوقجي، سعيد العاص، ابراهيم الشغوري، مصطفى وصفي السمان، صبري فريد البديوي، زكي الحلبي، رمضان شلاش، خير الدين اللبابيدي، صادق الداغستاني، زكي الدروبي ..)، ورجال الدين (الشيخ محمد الأشمر، الشيخ محمد حجّار، الشيخ مصطفى الخليلي...)، والأطباء (عبد الرحمن الشهبندر، أمين الرويحة، ابراهيم عز الدين..)ولكن السواد العام في هذه الثوارات جميعاً كان من أبناء الريف، والعمال. 8) الخطة التي استخدمها الثوار في عملياتهم: اتسمت الخطط العسكرية للثوارت بطابع (حرب العصابات)، مع الاستفادة من الحواجز الطبيعية ما أمكن كالجبال (جبل العرب، جبل عامل، جبال عكار، جبال المنطقة الساحلية، جبل الزاوية، جبل الأقرع)، والأحراش (غوطة دمشق، بساتين حمص وحماه، غابة الفرلق)، والأنهار (نهر العاصي، نهر الفرات، نهر الخابور)، ولم يكن استخدام الثوار أسلوب «الكّر والفرّ»في عملياتهم يعني أنهم تجنبوا المجابهة مع العدو في جميع الأحوال، فقد خاضوا كثيراً من المعارك المجابهة في عملياته يعني أنهم تجنبوا المجابهة مع العدو في جميع الأحوال، فقد خاضو كثيراً من المعارك المجابهة عندما كانت طبيعة الأرض، وعددهم وعدتهم، وشروط المعركة الأخرى، تسمح لهم بذلك، وعموماً يمكن القول بأن عمليات الثوار تستهدف: 1) مهاجمة المراكز العسكرية الفرنسية المنعزلة ومحاصرتها لجذب قوات العدو إليها، وبذلك يتم تشتيت القوات العسكرية وتفكيكها. 2) مهاجمة أرتال العدو أثناء تحركها مع التركيز على المؤخرات لمنع وصول الذخائر والتموين إلى قطعات الجيش الفرنسي من جهة، ومحاولة الحصول على بعض الغنائم التي يمكن الاستفادة منها في دعم الثورة بالذخائر والاسلحة من جهة ثانية. 3) شل قوات العدو وإضعافها أينما وجدت، وهذا يسمى«حرب الإجهاد أو الاستنزاف Guerre d.Harcelemeut » 4) تجنب القتال الثابت إذا كانت قوة العدو متفوقة بشكل ظاهر، أو كانت طبيعة الأرض منبسطة أو خالية من التضاريس، وذلك انسجاماً مع استراتيجية حرب العصابات. لقد كان الشعب العربي السوري واحداً من الشعوب التي دفعت أفدح الأثمان، وقدمت آلاف الضحايا، في سبيل الحرية والاستقلال، حيث حمل أبناء هذا الشعب السلاح ضد قوات الانتداب الفرنسي، منذ تشرين الثاني 1918 في المناطق الشمالية الغربية، والشمالية، والشرقية، والغربية، والجنوبية الغربية، وذلك قبل وقوع معركة ميسلون في 24 تموز 1920.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ثورة الشيخ صالح العلي

بدأت مقارعة الشيخ صالح العلي لقوات الانتداب الفرنسي منذ أن بدأت هذه بالانتشار، على طول الساحل السوري في تشرين الثاني 1918. ودامت ثورة الشيخ صالح في جبال المنطقة الساحلية حوالي أربع سنوات (حتى شهر تموز 1922)، وكانت أهم معاركها المشرفة: قرية سلمى، قرية ترتاح، الشيخ بدر، وادي الورور، بيدر غنام في النصف الثاني من شهر حزيران 1919، واحتلال قلعة المريقب في 21 تموز 1919، وهي التي سيجري تفصيلها: في 12 تموز 1919 قامت مجموعة من الوحدات الفرنسية، بقيادة الليوتنان كولونيل جان JEAN، وتضم سريتين من الرماة الجزائريين مع مدفع رشاش من عيار 65مم، باحتلال قلعة المريقب والتمركز فيها. ونظراً لما تتمتع به هذه القلعة من أهمية تعبوية، فقد صمم الشيخ صالح العلى انتزاعها من الفرنسيين، وإحلال قوة من الثوار مكانهم، فتوجه نحو القلعة بمجموعة لا يتجاوز عددها 200 مجاهد. ورغم أن عدد المجاهدين كان أقل من عدد أفراد الحامية فقد كانت نتيجة الهجوم الذي شنوه ضدها في 21 تموز اندحار الفرنسيين وانسحابهم من القلعة بعد أن سقط منهم ستة قتلى (أحدهم ضابط وهو الملازم تاهينيTAHENNY)، وأربعة وعشرون جريحاً بينهم ضابطان (وهما الملازم كيفر والملازم كاروKIEFFER ET CARREAU). وقد أتبع الشيخ صالح العلي ذلك بالهجوم على طرطوس في 20 شباط 1920، وبالاستيلاء على القدموس في 13 آذار 1920.

ثورة الدنادشة في المنطقة الوسطى

في أوائل كانون الأول 1919، اصطدم بعض أهالي بلدة تل كلخ مع رجال الحامية الفرنسية الموجودة هناك بسبب إصرار هؤلاء على رفع العلم الفرنسي على دار الحكومة، مدّعين أن هذه البلدة تتبع «المنطقة الغربية» التي وضعت تحت الإدارة الفرنسية، بينما أصر الأهالي على إبقاء العلم العربي، رمزاً لتبعيتهم إلى حكومة دمشق العربية. ولما أقام الفرنسيون مخفراً لهم في المدينة قام الأهالي بمهاجمته، وقتل معاون قائد المخفر الليوتنان بوسكيهBOUSQUET، وجرح قائد المخفر نفسه، الكابتن بيرناديهBERNADET (27)، ولم تتبع السلطة الفرنسية أسلوب المسالمة مع الأهالي بل هددتهم بضرب منازلهم بالمدفعية وحرقها، فحزم الأهالي أمرهم على التصدي، وشكلوا لجنة دفاع وطني تألفت من السادة عبد الله الكنج الدندشي، خالد الرستم، أحمد البرازي، سعد الدين الجندلي. وقابل بعض أعضاء هذه اللجنة قائد الحامية وطلبوا منه إنزال العلم الفرنسي عن دار الحكومة مقابل عدم رفع العلم العربي مكانه، وسكوتهم عن وجود المخفر الفرنسي في حدود بلدتهم، فرفض القائد الفرنسي هذا العرض بعنجهية، وسبّب رفضه اندلاع الثورة، وقد تمكن أهالي بلدة تل كلخ بمعونة بعض المجاهدين الذين قدموا إليهم من حمص، في هجوم شنوه على المخفر في 13 كانون الأول 1919، من قتل وجرح عدد كبير من أفراد المخفر، وكادوا يقبضون على جميع من بقي حياً منهم، لولا ورود نجدات فرنسية سريعة من مدينتي طرابلس وبيروت، إذ سيرت القيادة رتل نجدة أول من طرابلس، في 15/12/1919 بقيادة الكابتن «بوتي دمانجPETTI DEMANGE» ومعه سرية من الزواوة (والزواوة هم وحدة من الرماة الجزائريين في الجيش الفرنسي)، ورعيل من الأقليات، ولكن هذا الرتل لقي مقاومة شرسة وهو على الطريق بين طرابلس وتل كلخ فلم يتمكن من الوصول إلى هدفه، ولهذا أرسل رتل نجدة ثانٍ يتكون من كتيبة من المشاة، مُفرزة من (فوج الرماة الجزائريين الثاني والعشرين) بإمرة الكابتن بيرنارbernard، وقد جرى نقلها من بيروت إلى طرابلس بالجو، ومن ثم جرى زجها على محور طرابلس -تلكلخ، وتمكن عندها الرتلان بعد جهد مضنٍ، من فك الحصار عن تلكلخ في 17كانون الأول 1919 بينما انسحب الثوار من البلدة بعد أن تركوا خلفهم 16 شهيداً وعدداً من الجرحى. في صباح 20/2/1919، أتت خمس سيارات إلى البلدة تحمل حوالي 200 جندي فرنسي جديد، وذلك لأجل الانتقام من الوطنيين جزاءً لقتلهم جنديين فرنسيين في اليوم السابق، قرب محطة القطار، ولكن فشل هذه القوة أمام الوطنيين كان ذريعاً، وخاصة بعد مقتل أربعة ضباط من قادتها، ولهذا صممت القيادة الفرنسية العليا في بيروت على أن تضرب الثورة في تل كلخ قبل استفحال أمرها، فسيرت إليها حملة بقيادة الكولونيل نيجر NIGER، تضم ثلاث كتائب مشاة مدعومة بطائرتين وسبعة مدافع ميدان وخمسين خيالاً، ولما وصلت الحملة إلى مشارف تل كلخ في 2/12/1919 تصدّى لها الثوار الوطنيون وأوقفوها طيلة ثلاث ساعات خسر خلالها الفرنسيون عدداً ملحوظاً من القتلى والجرحى، قبل أن يتمكنوا أخيراً من دخول البلدة وفي 22/12/1919 زحفت سرية فرنسية لمهاجمة قرية (بيت حسن) القريبة من تل كلخ، فقابلها أهل القرية بإطلاق النار، وأسقطوا عشرين قتيلاً منها، فاضطر بقية أفراد السرية للعودة إلى تل كلخ حيث اصطحبوا نجدة وعادوا للهجوم على القرية التي كان سكانها قد أخلوها تحسباً من انتقام الفرنسيين. وقد دامت المناوشات بين أهالي منطقة تل كلخ والقوات الفرنسية ستة أشهر أخرى كانت الحرب فيها سجالاً بين الجانبين، وبلغ انزعاج السلطة الفرنسية منها إلى درجة أن الجنرال غورو ضمنها في الإنذار النهائي الذي وجهه إلى فيصل يوم 14 تموز 1920، كواحدة من «الأعمال العدائية» التي تشنها على قواته «عصابات ممولة من قبل حكومة دمشق»!

ثورة المنطقة الشمالية الغربية

بدأت الثورة في المنطقة الشمالية الغربية على شكل أعمال مسلحة قام بها السيد صبحي بركات وشقيقه ثريا بيك، وابن خالته عاصم بيك، وكانت أهم المعارك التي قادها هؤلاء هي معركة «السويدية» في شهر أيار 1919، التي تكبد فيها الفرنسيون خسائر فادحة بينما لم يسقط من المجاهدين إلا تسعة شهداء. وفي أوائل شهر كانون الثاني 1920 قام رتل فرنسي بتمشيط منطقة «جبل القصير» في أقصى شمالي سورية من جهة الغرب ثم عاد إلى أنطاكية، وقد أقام هذا الرتل مخفراً بقوة فصيلة مشاة معززة في قرية «الحمام» التي تبعد عن مدينة حلب بحدود ثلاثين كيلومتراً على طريق الإسكندرونة. ولم يمض أكثر من ثلاثة أيام على إقامة هذا المخفر حتى تعرض لهجوم عنيف من قبل جماعة من الثوار تعد حوالي 300 مقاتل بقيادة ثريا بيك والشيخ يوسف السعدون، وبعد مقاومة حامية المخفر لمدة 36 ساعة انتهى الحصار بمصرع رئيس المخفر الليوتنانلونلايLONLAY مع خمسة من جنوده، والقبض على بقية العناصر وسوقهم أسرى في 23 كانون الثاني 1920، وهذا ما اضطر قيادة المنطقة الغربية (الفرنسية) لتسيير حملة عسكرية ضخمة من أنطاكية، بقيادة الكابيتين ده رودهيلDE ROUDHILE، في محاولة لاسترجاع المخفر وهيبة فرنسا معاً. قامت الحملة من أنطاكية صباح 24/1/1920، وكانت تضم الوحدات التالية:

  • سرية من فوج الرماة الجزائريين السابع عشر.
  • سرية من فوج الرماة الجزائريين الثاني والعشرين.
  • فصيلتين من الرشاشات.

وقد آثر ثريا بيك - وهو ضابط سابق في الجيش العثماني - أن يخلي المخفر عند تقدم الحملة الفرنسية، ولذا وجد جند الحملة المخفر خالياً عند وصولهم إليه. وفي الساعة السادسة من صباح 25/1/1920 عاد ثريا بيك، وإلى جانبه الشيخ يوسف السعدون، فهاجما المخفر بقوة تعدّ 500 -600 مقاتل مزودين بعدة رشاشات ألمانية ولكن الفرنسيين كانوا قد حسبوا حسابهم لمثل هذا الأمر، وتمكنوا من صدّ هذا الهجوم الذي دام أكثر من أربع ساعات، وأسفر عن سقوط قتيلين وثمانية جرحى من حامية المخفر، أما الثوار فقد تمكنوا من الانسحاب بعد هذه المعركة، إلى داخل الأراضي التابعة لولاية حلب، ولم تهدأ الأحوال في المنطقة، ودامت عمليات الثوار في كرّ وفر إلى ما بعد سقوط حلب بيد الفرنسيين يوم 23/7/1920، وسيرت القيادة العسكرية الفرنسية ضدهم حملة ضخمة من حلب، بقيادة الكولونيل «ده بيوفر»، تمكنت خلال شهر كانون الأول 1920 من تهدئة الثورة في السنجق.

ثورة إبراهيم هنانو

قام الزعيم ابراهيم هنانو بإعلان الثورة ضد الفرنسيين رسمياً في أواسط شهر أيلول 1920، في بيان موجه إلى عموم أفراد الشعب للمشاركة في الثورة، وطلب فيه من قناصل الدول الأجنبية التدخل للحد من فظائع الفرنسيين في سورية. مختصر نداء إبراهيم هنانو بإعلان الثورة.

وبعد نشر هذا البيان بعدة أيام وصل هزاع أيوب، مبعوثاً من الشيخ صالح العلي إلى الزعيم هنانو، وعرض عليه باسم الشيخ التنسيق والتعاون بين الثورتين فرحب هنانو بذلك، واتفق مع رسول الشيخ على أن تقوم قوات الثورة في المنطقة الشمالية باحتلال بلدة (جسر الشغور) لكي تتصل الثورتان جغرافياً، وتستند كل ثورة في مجنبتها على أماكن نفوذ الثورة الأخرى

وتم تنفيذ الخطة فوراً، وتقدم هنانو باتجاه جسر الشغور، في أواخر شهر تشرين الثاني 1920، وتحت قيادته ثلاث سرايا من المجاهدين:

  • سرية مجاهدي منطقة حلب وكفرتخاريم بقيادة المجاهد نجيب عويد، وتضم 250 مجاهداً.
  • سرية مجاهدي منطقة القصير بقيادة الشيخ يوسف السعدون، وتضم 400 مجاهد.
  • سرية مجاهدي منطقة جبل صهيون بقيادة المجاهد عمر البيطار وتضم 150 مجاهداً، وهي مفرزة من قيادة الثورة في المنطقة الغربية - الساحلية (الشيخ صالح العلي)، لمعاونة قوات هنانو في الاستيلاء على جسر الشغور.

ولما وصلت هذه الحملة، منتصف ليلة 27/28 تشرين الثاني 1920، إلى «مزرعة الشغارنة»، التي تبعد حوالي 3كم عن مدينة جسر الشغور، تناهى لعناصر استخباراتها أن سرية من الجند الفرنسي ترابط في المزرعة المقابلة (مزرعة السيجري) وتأكد هذا عند صدور نيران غزيرة من هذه المزرعة باتجاه طليعة المجاهدين، ونظراً لمناعة استحكامات الفرنسيين في المزرعة، صمم هنانو، بناءً على نصيحة مستشاره العسكري إبراهيم الشغري (وهو من أبناء المنطقة)، أن يطوق السرية بين فكي كماشة فأوعز إلى يوسف السعدون بأن يلتف مع عناصره ويهاجم الموقع من الخلف، بينما يتولى بقية المجاهدين مهاجمته من الأمام. وقد تم تنفيذ هذه الخطة بإحكام، مما أجبر السرية الموجودة في المزرعة على التسليم، وكانت المعركة نصراً باهراً للمجاهدين حيث أسروا فصيلة فرنسية تضم ضابطاً و25 جندياً، بالإضافة لفصيلة رشاشات تابعة لفوج الرماة الجزائريين الثاني والعشرين، كما غنموا مدفعي رشاش وأربعين بغلاً وكمية من الأرزاق المحفوظة. واستسلمت حامية جسر الشغور، بعد هذه المعركة، دون قتال، لأن القسم الأكبر منها كان داخل مزرعة السيجري التي طوقها الوطنيون تماماً، ودخلت قوات المجاهدين إلى المدينة فاستقبلها الأهالي استقبال الأبطال، وهكذا أصبح الثوار يهددون مدينة إدلب ومنطقة الزاوية.

معركة العنابزة

معركة العنابزة (في منطقة الفرات):

في حزيران 1921 توجهت حملة عسكرية من حلب إلى دير الزور، بقيادة الليوتنان كولونيل « لوموانLE MOIGNE»، فاحتلتها وبقيت فيها شهراً كاملاً، ثم عادت إلى حلب في الشهر التالي، بعد أن تركت قسماً منها يضم حوالي 300 جندي كحامية في المدينة. ونظراً لتدخل رجال الحامية، وخاصة رئيسها الكابيتين ريشار في شؤون القبائل بشكل فظ، قام أفراد من هذه القبائل خاصة من أبناء عشيرة العقيدات وعشيرة العنابزة، بقيادة المجاهد تويني الجنيد. بمهاجمة مطار دير الزور، ليلة16/17 أيلول 1921، فأحرقوا إحدى الطائرات الفرنسية الجاثمة على أرض المطار، وقتلوا عدداً من الحراس، ثم نزلوا إلى المدينة وهاجموا المراكز الإدارية والأمنية التي كان يحتمي الفرنسيون فيها . ولم تسكت القيادة العسكرية الفرنسية في حلب عن هذه الضربة القاسية لنفوذ فرنسا وهيبتها، فسيرت حملة عسكرية كبيرة بقيادة الكولونيل «ده بيوفرDE BIEUVRE» من حلب باتجاه دير الزور، يوم 28 أيلول 1921. وقد ضمت هذه الحملة الوحدات العسكرية التالية:

  • من المشاة:

- كتيبة الرماة السنغاليين، من فوج الرماة السنغالي السابع عشر، بقيادة الكومندان بلاشيرBLACHERE. - كتيبة من فوج الرماة الجزائريين التاسع عشر بقيادة الكومندان بوسونBOSSON. - كتيبة من فوج الرماة الجزائريين الثاني والعشرين بقيادة الكومندان غي GUY.

  • من المدفعية:

بطاريتين بإمرة الكومندان لاتLATTES وتتألفان من: - بطارية عيار 75 مم بإمرة راندوRENDU. - بطارية عيار 65 مم بإمرة روغونROUGON.

  • من الخيالة:

مجموعة خيالة يقودها الكومندان فانج VING وتتألف من: - كوكبة من فوج الخيالة الخفيف السادس بقيادة آمانريشAMANRICH. - كوكبة من فوج السباهيين الحادي والعشرين بإمرة ده لامازDE LAMAZE. ـ رعيل رشاشات مفرز من فوج السباهيين الحادي والعشرين بإمرة أوتيشانAUTICHAMPS . ومن الوحدات الخاصة كان هناك فصيلة هندسة، ورعيل من الهجّانة ورعيل من الخيالة المتطوعة الشركس. ـ غادر هذا الرتل حلب يوم 28 أيلول 1921 متبعاً ضفة الفرات اليمنى، باتجاه دير الزور، واضطرت القبائل والعشائر القاطنة بين حلب ودير الزور لإبداء الطاعة إلى الكولونيل قائد الرتل، ما عدا جماعتين (فخذين) من قبيلة العقيدات هما «عشيرة البوخابور» النازلة على الضفة اليمنى للفرات بين دير الزور والميادين و «عشيرة البوبكر» النازلة على الضفة اليسرى لهذا النهر

وبعد بعض المناوشات بين الطرفين آثر شيوخ هاتين العشيرتين المسالمة، وسمحوا لقوات الحملة الفرنسية بالمرور عبر أراضيهم أو الاستقرار فيها، ولكن أبناء عمومة عشيرة البوخابور، وهم فخذ يسمّون «العنابزة» ويسكنون على الضفة اليسرى للفرات، لم يقبلوا بشروط هذا الاتفاق، فقاموا باجتياز الفرات إلى الضفة اليسرى وتمركزوا في قرية «أخشام» تحت قيادة رئيسهم عسّاف الشويحط، ونفر من فرسان العشيرة المعروفين مثل حمود الحمادي وصديقه عربيد الشحيتر (عرسان الشحيتر في بعض المصادر). وقد أراد الفرنسيون أن يكملوا احتلال الضفة اليسرى للنهر، بين دير الزور والميادين فاحتلوا أولاً «تل السن» ثم تقدموا باتجاه الجنوب الشرقي، واصطدموا بجماعة كبيرة من العنابزة الذين استبسلوا في الدفاع عن قريتهم وما حولها، إلى أن أمر قائد الرتل بتدخل المدفعية وسرب من الطائرات في قصف مواقع المجاهدين داخل القرية وخارجها، دون أن تتوصل الطائرات للقضاء على مقاومتهم بالرغم من إلقائها 1400 كغ من القنابل فوقهم، ويعترف الكولونيل ده بيوفر في التقرير الذي قدمه تحت رقم 915، إلى قائد الفرقة الثانية من جيش الشرق في حلب، عن حركات الرتل العسكرية يوم 24/10/1921، بأن شباب العنابزة المدافعين عن القرية «قد برهنوا عن ثبات جدير بالملاحظة، وأنهم امتازوا بشجاعة وجرأة لا شك فيهما»

وإثر القصف بالمدفعية والطيران والرشاشات لمدة قاربت خمس ساعات، واستشهاد قادة شباب العنابزة (عساف الشويحط، حمود الحمادي، عربيد الشحيتر) انسحب بقية المدافعين بعد أن كبدوا العدو خسائر فادحة، وأقر الكولونيل «ده بيوفر» قائد الرتل، في التقرير الذي رفعه إلى قيادة الفرقة، بمقتل أربعة ضباط (هم الملازمون: لوسياني، ميكيل، أوتيشتان، لياس)، وجرح خمسة (الكابيتين فافر، الكابيتين مارفان، والملازمون: سالان، بروتا، ليبس)، وبلغ عدد القتلى من الجنود 26 (3 فرنسيين و23 غير فرنسيين)، وعدد الجرحى 95 (6 فرنسيين و89 غير فرنسيين) ، وكانت الوحدتان الفرنسيتان اللتان تعرّضتا لأكبر نسبة من الخسائر هما سرية غزازياني، وكوكبة ده لاماز، وقد دُفنت جثث القتلى في قرية أخشام نفسها (لا تزال منطقة الدفن تسمى قبور السنغاليين)، وتقدر المصادر العربية خسائر القوات الفرنسية بأرقام أعلى بكثير من تلك التي أتت بها المصادر الفرنسية. 6) معركة بياندور (الجزيرة العليا): كان نفر من المواطنين القاطنين في أعلى الجزيرة قد استاؤوا من قائم مقام هذه الناحية بسبب تعاونه مع الفرنسيين وتنفيذه لأوامرهم، فقاموا باغتياله في شهر حزيران 1923، ولجأت السلطة الفرنسية لإقامة مخفر دائم في قرية بياندور (التابعة لمركز القحطانية حالياً)، رغم معارضة سكانها المحليين من عرب وأكراد لهذا الإجراء، وكان يشغل هذا المخفر، في أواسط شهر تموز 1923، رعيلان PELOTONS من الهجّانة الفرنسية، أحدهما بقيادة الليوتنان روبرتو ROBERTO والثاني بقيادة الليوتنان كاريرCARER، وكانت القيادة للضابط الأول، وفي 26 تموز وصل رعيل ثالث، بإمرة الليوتنان موريل MAUREL وقد اغتنم الليوتنان روبرتو فرصة وصول هذا الرعيل الإضافي لكي يقوم بتبديل رعيل الليوتنان كارير ولكي يقوم بجولة تفتيشية في جزيرة ابن عمرو، مصطحباً معه أفراد رعيل كارير، وكذلك الليوتنان روجارREGARD، ورشاشاً مع سدنته برئاسة السيرجان جوهونGOHON، بينما بقي الليوتنان موريل الذي وصل لتوه إلى المنطقة في بياندور مع رعيله، بالإضافة لرشاش مع سدنته برئاسة السيرجان لياندريLEANDRE وحوالي عشرين دركياً، أي أن عدد من بقي في بياندور كان 80 رجلاً تقريباً، مع رشاش. وفي 28 تموز 1923 تمت مهاجمة المخفر المذكور من قبل جماعة من الثوار تضم حوالي 500 خيال، قامت بتطويق المخفر ومحاولة إبادة عناصره، ودامت عملية التطويق يومي 28 و29، وسقط سدنة رشاش السرجان لياندري بين قتيل وجريح، وزاد الوضع سوءاً بالنسبة للجند المحاصرين قيام الثوار بالسيطرة على نبع الماء، وعدم وجود خزانات ماء إضافية ضمن المخفر، ولما حاول المدافعون اقتحام خط الثوار للتزود بالماء لم ينجحوا إلا بإملاء عدة أوعية صغيرة (زمزميات) بينما خسروا أربعة قتلى مقابل ذلك، وبعد ظهر يوم 29 تموز قرّر الملازم موريل الانسحاب من الموقع باتجاه تل ناصر، الذي يبعد حوالي 8 كم إلى جنوب بياندور، فكلّف هذا الانسحاب الرعيل المنسحب تسعة قتلى وخمسة عشر جريحاً ومفقوداً، وكان رتل روبرتو الذي وصل إلى جزيرة ابن عمرو، قد عاد فبات ليلة 29/30 تموز في وادي الرميلان، وسار باتجاه تل عبّاس فوصله الساعة 19,30 من مساء اليوم التالي. وهناك تعرّض لهجوم ضخم من جماعة من الثوار الخيالة، على ضفاف نهر الجرابي، مما أوقع الفوضى في صفوف الرتل، وخاصة بعد أن ذُعرت الجمال وحاولت الهرب، وفشل الملازمان كارير وروجار، والسرجان آدم، بتجميع الرتل من جديد، ولما حاول كارير شق طريق له ولمجموعته باتجاه رتل روبرتو لم ينجح إلا في التقدم لمسافة بسيطة ثم سقط قتيلاً، وأما روجار فقد تم القبض عليه، وقُتل عندما حاول المقاومة، وكذلك كانت نهاية السيرجان آدم الذي قُتل بعد مقاومة عنيفة، وحاول الليوتنان روبرتو عندئذ إنقاذ رعيل الليوتنان كارير، وذلك بتوجيه رمايات كثيفة من الرشاش على الثوار لتأمين انسحابه، ولكنه أهمل حيطته الذاتية فتمكن الثوار من مهاجمته من الخلف وإبادة رعيله، وقتل هو نفسه حين حاول الدفاع ببارودة أحد جنده القتلى، وقتل كذلك السيرجان برامّا BRAMMA بعده بقليل. وسقط من جراء المعركة جميع الفرنسيين والأفريقيين من أفراد الرعيلين وعددهم يفوق ستين ضابطاً وجندياً، وأما جنود الهجانة التسعون فقد سقط منهم 15 قتيلاً و3 جرحى، وهرب الباقون مع أفراد فصيلة الدرك، بعد أن سمح لهم المهاجمون بالهروب ، وانتهت هذه المعركة التي خطط لها وخاضها مواطنون عاديون من أبناء عشائر الشيتية بقيادة آل اليوسف، والحوّالة برئاسة الشيخ سلومي الحميد، وعشيرتي الراشد والبوعاصي، الذين تمكنوا من التغلب على مجموعة من الجند المدربين يفوق عددهم 150 مقاتلاً بينهم أربعة من الضباط وعشرة من صف الضباط.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

معركة الكفر

معركة الكفر بقيادة سلطان باشا الأطرش (21 تموز 1925): بعد أن قام ثوار جبل العرب بإحراق دار البعثة الفرنسية في بلدة صلخد، أمر الجنرال سول SOULE قائد المنطقة العسكرية الجنوبية التي تضم دمشق وحوران وجبل العرب، حامية السويداء، بتسيير حملة تأديبية إلى جنوب الجبل لتعيد هيبة السلطة الفرنسية من جهة، وللقبض على سلطان باشا الأطرش وجلبه مخفوراً إلى دمشق من جهة ثانية. وفي يوم 20 تموز 1925 تم تعيين حملة تضم 180 رجلاً (7 ضباط و173 جندياً وصف ضابط)، بقيادة الكابيتين نورمان NORMAND وهي تضم الوحدات التالية:

  • ) 111 جندياً من الفوج الثاني في (الفرقة السورية LA LEGION SYRIENNE)، بقيادة الليوتنان «هيلمجيزونHELME GUIZON».
  • ) 54 خيالاً من السباهيين من ملاك الفوج الثاني للسباهيين التوانسة، بإمرة الكابيتين «ماي MAILLE» ويساعده الليوتنان «كارييرCARRIERE».
  • ) ثمانية جنود خيالة من الكوكبة الدرزية بإمرة ضابط.
  • ) الطبيب الأول «فورنييهFOURNIER».
  • ) الضابط المترجم جوزيف صايغ.

ووصل هذا الرتل صباح 20 تموز إلى قرية (الكفر)، فقام بالتفتيش عليه هناك الكومندان «تومي مارتان TOMMMY MARTIN» حاكم جبل الدروز بالوكالة، ثم عاد هذا إلى السويداء في اليوم نفسه، فوجد هناك الطبيب «فيربوزييهVERBEIZIER»، وكلفه فوراً بالالتحاق برتل الكابيتين «نورمان» برفقة سيارة صحية. أقام الكابيتين نورمان مخيمه قرب نبع «الكفر»، ونقله بعد الظهر إلى أرض مجاورة مرتفعة نسبياً تسيطر على السهل المجاور لها، إلا أن هذه الأرض كانت مقسمة إلى عدة قطاعات، بينها جدران قليلة الارتفاع يمكن استخدامها كمساتر، وتم وضع الخيالة السباهيين في مكان، وجنود الفرقة السورية من المشاة في مكان ثان، ومركز القيادة مع بغال النقل وذخيرة الحملة في مكان ثالث. وفي صباح يوم 21 تموز 1925 مرّ الكابيتين الطيار «بواسونBOYSSON» بطائرته في طيران استطلاعي فوق طريق السويداء - الكفر - صلخد، ولم يسترع انتباهه ما يثير الريبة، فعاد وحطّ في مطار السويداء حوالي الساعة 10,30 من صباح ذلك اليوم، ويبدو أن سلطان الأطرش كان يتتبع الحملة منذ انطلاقها من السويداء، وبما أنه كان يعرف منطقة الكفر التي تمركزت فيها معرفة جيدة، قام بتقسيم المجاهدين الذين كانوا معه وفق طبيعة الأرض وحجم القوة المعادية وكيفية تمركزها، وكانت خطته الهجومية بسيطة ولكنها فعّالة، حيث قسم عناصره إلى ثلاث مفارز، مفرزة مشاة (رجّالة) ومفرزتي فرسان (خيالة)، وقد كلف سلطان مفرزة المشاة بالتسرب بحذر، والتقرب ما أمكن من الناحية الجنوبية الغربية للمعسكر، وهي منطقة وعرة يسهل الاحتماء بها، للقضاء على الجنود الذين سيحاولون اتخاذ أماكن مناسبة لهم للقتال فيها، وأما مفرزتا الخيالة فقد كلفهما بالتقدم من الشرق على جبهة واسعة بغية مهاجمة المخيم من الشمال الشرقي والجنوب الشرقي بالتتابع، وهي مناطق مفتوحة نسبياً وتسهل حركة الخيالة فيها. وفي الساعة 12.30 من يوم 21 تموز وبعد أن تناول الجنود الفرنسيون طعام الغداء فكّوا سروج خيولهم لإراحتها، وهجعوا في قيلولة قصيرة أيقظهم منها هجوم فجائي شرس شنّه عليهم حوالي 700 مجاهد (500 خيال و200 راجل) كمنوا خلف الجدران القصيرة وبدؤوا بإطلاق النار، وكان أول ما فعله الثوار هو السيطرة على الرشاش والاستيلاء عليه كغنيمة، بينما تم إسكات الرشاش الثاني في الجهة المقابلة. وقد أحس قائد الرتل بضغط الثوار على موقعه في الساعة الثانية بعد الظهر فطلب النجدة من الكومندان «تومي مارتان» فأرسل هذا له ثلاثة رشاشات آلية ورعيلاً من السباهيين كلّفه بتغطية انسحاب مفرزة الكابيتين نورمان بكاملها إذا لزم الأمر. وكان هجوم جماعة سلطان الأطرش على هذه المفرزة محكماً وعنيفاً بشكل لم يتمكن أفرادها من تنظيم أنفسهم في المعركة كما يجب، ونفدت الذخيرة خلال ساعة من القتال العنيف، وسقط الطبيبان «فورنييه»و«فيربوزييه» جريحين قبل الإجهاز عليهما بضربات السيوف والخناجر، وجرى الأمر نفسه للضابط المترجم جوزيف صايغ، وجُرح الكابيتين نورمان في فخذه الأيمن، ولما يئس من إمكانية متابعة المقاومة في ذلك المكان نفسه، أمر جنده بتركيب حرابهم ومحاولة شق طريق لهم، ولكن الانسحاب كان صعباً في تلك الظروف وبكثير من الصعوبة تمكنت مجموعة الضباط (الكابيتين نورمان - الكابيتين ماي – الليوتنان هيلمجيزون ـ الليوتنان كاريير)، ومعهم جماعة من السباهيين، من اللجوء إلى أرض مرتفعة نسبياً ومتابعة المقاومة لمدة عشرين دقيقة أخرى، قبل أن يتلقى الليوتن انهيلمجيزون رصاصة في رأسه، وأُجبر الباقون على محاولة التسلل والنجاة بأنفسهم، ولكن تم تطويقهم من جديد وسقطوا جميعاً بين قتيل وجريح أو مفقود ، وكانت الجماعة الوحيدة التي تمكنت من النجاة سليمة هي جماعة السيرجان «كابيولادشيCAPIOLADCHY» وكانت نجاتها بفعل الحظ، إذ كان أفرادها مكلفين بمهمة سخرة في قرية الكفر نفسها لما نشبت المعركة، فاستجار أفرادها بمختار القرية الذي أجارهم، ثم أطلق سراحهم لكي يذهبوا إلى السويداء ويخبروا قائد حاميتها بما حدث. ومن أصل تعداد رتل «نورمان» الذي كان يضم سبعة ضباط و173 جندياً لم يَعُدْ من المعركة سليماً إلا:

  • ) رقيبان و47 جندياً من أفراد الفرقة السورية منهم 13 جريحاً.
  • ) عريف فرنسي (دو كار DU CARRE) ومعه 17 جندياً من الخيالة السباهيين بينهم 6 جرحى.
  • ) رام من الرماة الشمال أفريقيين.

وقُتل الباقون جميعاً وهم 7 ضباط و62 جندياً من أفراد (الفرقة السورية LA LEGION SYRIENNE)، و36 جندياً من السباهيين (بينهم ثمانية صف ضباط من الفرنسيين) وسائق سيارة فرنسي (المجموع 106 قتلى). وسقط من الثوار حوالي عشرين شهيداً كان على رأسهم مصطفى الأطرش، شقيق سلطان وإسماعيل الأطرش نجل جاد الله الأطرش، ونصار البربور، وشكيب غزالة. وتعتبر معركة الكفر(21 تموز 1925) مثلاً ناجحاً عن الإغارة الحربية النموذجية، فقد توفّرت عوامل النجاح من:

  • ) التحضير الجيد.
  • ) معرفة أرض المعركة مسبقاً بصورة دقيقة.
  • ) المهارة في استخدام الأرض من حيث التضاريس والسواتر.
  • ) السرعة والفعالية في التنفيذ.
  • ) بسالة المنفذين في أدائهم لمهامهم.
  • ) التنسيق الجيد بين مختلف العناصر القائمة بالإغارة وقيادتها.

معركة المزرعة

معركة المزرعة (2/3آب 1925):

أثار المفوّض السامي الجنرال ساراي نبأ النتيجة التي انتهت إليها حملة الكابيتين «نورمان» (في الكفر) وزاد استياؤه حين سمع بمحاصرة الثوار لقلعة السويداء، التي لجأت إليها حامية هذه المدينة عقب المعركة، فأمر أحد مساعديه الكبار الجنرال ميشو MICHAUO بتشكيل حملة ضخمة والتوجه بأقصى سرعة إلى الجبل لفك الحصار عن قلعة السويداء، وإعادة هيبة الحكومة الفرنسية في المنطقة، وضمت هذه الحملة: ثلاثة أفواج مشاة، وكتيبة مدفعية ميدان من عيار 75 مم، وكتيبة مدفعية جبلية عيار 65 مم، وكوكبتين معززتين من الفرسان وسرية دبابات خفيفة، ومفرزة إدارية، فأصبح تعداد الحملة في حدود 3000 رجل تقريباً. وتألفت مقدمة هذه الحملة من «كتيبة سيارة Bataillon de marche» بقيادة «لوانيه LOYNET» والسرية الأولى من فوج الرماة الجزائريين الحادي والعشرين التي يقودها «كابيلCABEL»، وسرية سنغالية وسرية من الفرقة السورية يقودها «لوغاي LE GAY» وسرية أخرى (السرية الثانية) من فوج الرماة الجزائريين الحادي والعشرين بقيادة الكابيتين «جيرهاديGERHADY» ورعيل رشاشات بإمرة الليوتنان «غاسيهGASQUET». وقد أعطى الجنرال ميشو إلى المقدمة أمراً بالتحرك إلى قرية (بصر الحرير) لاحتلال الجسر الكائن هناك قبل أن يعمد الثوار إلى تدميره فيعوقوا وصول قلب الحملة إلى السويداء. وتحرّكت المقدمة لتنفيذ مهمتها بعد ظهر 30 تموز 1925، وأمر ميشو بقية وحدات الحملة بعدم التحرك إلا على بعد معين من المقدمة، بشكل يضمن لها الأمن والحيطة، ووصلت المقدمة إلى قرية (بصر الحرير) في مساء اليوم نفسه فقام بمهاجمتها في الساعة 21,30 عدد كبير من الثوار طوقوا معسكرها طيلة الليل، وتضاعفت قوة الهجوم عليها عند الفجر، فتعرضت فصيلة الرشاش التي يقودها الليوتنان«سيكالديCECCALDI» لهجوم عنيف انتهى بمصرع هذا الأخير وجميع أفراد الزمرة التي كانت تعمل على الرشاش، وفي الساعة الحادية عشرة ليلاً، هاجمت مجموعة أخرى من الثوار (حوالي 200 مجاهد خيال) سرية «غابيلGABEL»، إلا أن أفراد السرية تصدوا لها بالحراب فاضطرت للانسحاب وبلغت خسائر الفرنسيين في موقعة (بصر الحرير) ثمانية قتلى أحدهم ضابط، وخمسة عشر جريحاً بينهم ضابطان. ولما وصل قلب الحملة إلى قرية (الدور) قابلها الثوار بهجمات مفاجئة عنيفة مما عرقل سيرها وأخّرها حتى يوم 2 آب فاستأنفت سيرها باتجاه موقع المزرعة، الذي يبعد عن السويداء حوالي 17 كم وقام سلطان الأطرش عندئذ بإبقاء قوة ضئيلة نسبياً لمتابعة حصار قلعة السويداء، وأمر بقية رجال مجموعته (حوالي 1000 مجاهد بينهم 300 خيال) بالتوجه لضرب الرتل المتقدم باتجاه السويداء بمجرد وصوله إلى موقع المزرعة.

ولتنفيذ هذه المهمة جيداً وزع سلطان جملة المجاهدين الذين معه إلى مفرزتين: 1) مفرزة المشاة: ومهمتها احتلال الهضاب الصخرية الموجودة شمالي المزرعة بغية قطع الطريق أمام الرتل الفرنسي، ومنعه من الوصول إلى هذه القرية التي تتمتع بأهمية تعبوية بارزة. 2) مفرزة الفرسان: وقد تم حشدها حول قرية (الدور) لمهاجمة مؤخرة الرتل الفرنسي، والاستيلاء على قافلة المؤن والذخيرة، وذلك عندما يصبح الرتل في الأرض المكشوفة الكائنة حول نبع المزرعة. ونفذ الثوار هذه الخطة بدقة، حيث هاجم قسم منهم مؤخرة الرتل عندما وصل إلى المزرعة في ليلة 2/3/آب 1925 فأبادوا بعض وحداته بينما فر أغلب أفراد الوحدات الأخرى. وفي الوقت نفسه تعرضت مقدمة الحملة وجناحها الأيسر لنيران المجاهدين المشاة المرابطين على طول الطريق العام، في المناطق الصخرية المحاذية له من جهة الشمال، وفي يوم 3 آب أصبحت الحملة تحت رحمة المجاهدين الذين أحاطوا بها من كل اتجاه، وخاصة بعد انضمام جماعة مجاهدي المقرن الشمالي التي أبلى أفرادها البلاء الحسن، وطيلة يوم 3/8/1925 كان عدد المجاهدين بازدياد، فقد هب شباب القرى المجاورة وكهولها إلى ساحة المعركة للهجوم على جند الفرنسيين وكانوا يحملون ما تيسر لهم من الأسلحة النارية (البواريد)، والبيضاء (السيوف والخناجر)، وحتى مناجل الحصاد؟ أباد الثوار عبر هذه الحملة كتيبة فرنسية كاملة (وهي كتيبة أوجاكAUJAC) التي خسرت أكثر من عشرة ضباط فرنسيين (الكومندان سودوا، الكابيتين فور، الليوتنان بيستاني، الليوتنان بيلو، الليوتنان بيجولو، الليوتنان تشيرفر...). وبحلول المساء كان الجنرال ميشو قد فقد سلطته تماماً على قواته المبعثرة المفككة، فأعطى الأمر بالانسحاب ليلة 3/4 آب تاركاً في ساحة المعركة حوالي 1000 قتيل. وقد أقرت المصادر الرسمية الفرنسية بما يقارب هذا الرقم من الخسائر، فذكرت أن عدد القتلى كان 51، وعدد الجرحى 361، وعدد المفقودين 460 أي أن جملة الخسائر كانت 872 (39 ضابطاً و833 جندياً) بين قتيل وجريح ومفقود. كذلك فقد خسر الفرنسيون عتاداً حربياً هاماً منه مدفع 105 مم، ومدفع 75 مم، ومدفعان 65 مم، وعدد من البنادق بلغ ألفي بندقية، وكمية كبيرة من الذخيرة، وهذا ما حمل بعض المصادر الفرنسية على القول بأن معركة المزرعة هي أكبر كارثة تعرضت لها القوات الفرنسية العاملة في سورية طيلة أيام الثورة السورية. وقد خسر الوطنيون بالمقابل حوالي 150 شهيداً. وقامت المصفحات الفرنسية في يوم 3 آب 1925 بمحاولات يائسة لتأمين الاتصال بين وحدات حملة ميشو أو تموينها بما تحتاجه من الإمدادات ولكن الثوار تصدوا لها ومنعوها من تنفيذ مهامها وأنزلوا بها أفدح الخسائر، فكانوا يختبئون خلف الجرود بعد أن يضعوا سدوداً من الأحجار في طريق المصفحات فإذا توقفت هذه ونزل سدنتها منها لإزالة الأحجار انقض عليهم المجاهدون فأبادوهم، ومن ظلوا ضمن المصفحات كانوا يلاقون المصير نفسه، حيث كان الثوار يتسللون باتجاهها ويهاجمونها من الزوايا الميتة، ويدخلون فوهات بنادقهم من كواها ثم يطلقونها على السدنة فيقضوا عليهم، وقد تمكن الثوار في ذلك اليوم (3 آب 1925) من قتل الليوتنان غاسكيهGASQUET، مع سدنة خمس مصفحات: ثلاثة منها تابعة للكوكبة الثامنة عشرة، والاثنتان الأخريان للكوكبة الثامنة والعشرين. وكان لمعركة المزرعة نتائج هامة في مجرى الثورة السورية، فقد زادت من معنويات الثوار في جبل العرب، وقوّت تسليحهم بما كسبوه من غنائم، إضافة إلى أنها دفعت قيادة الثورة لمحاولة إيجاد واجهة سياسية لها، للاهتمام بالأمور المدنية والأمور السياسية خارج الجبل. وهكذا عمد سلطان باشا الأطرش، بعد تحقيقه هذا النصر، إلى الاتصال بنفر من الوطنيين في دمشق، وعلى رأسهم عبد الرحمن الشهبندر ونزيه المؤيد العظم لنقل الثورة إلى دمشق، ولوضع خطط موحدة للدفاع عن حقوق البلاد والوقوف في وجه المحتل الأجنبي بالتعاون بين زعماء النضال السياسي وقادة الكفاح المسلح، كما نادى الشعب السوري بكامله للثورة ببيان أصدره يوم 23 آب 1925

احتلال حاصبيا وحصار راشيا

بعد أن اطمأن الثوار أوائل تشرين الثاني 1925 إلى أن الخطر قد زال مؤقتاً عن مجدل شمس صمّموا على استعادة القرى اللبنانية المجاورة من الفرنسيين، وخاصة بعد أن وصلتهم رسائل من وجوه هذه القرى يطلبون فيها إنقاذهم من الاحتلال الفرنسي. وسارت لهذه الغاية حملة من المجاهدين برئاسة حمزة الدرويش، فاحتلت قرية (حاصبيا) فعلاً يوم 9 تشرين الثاني 1925 دون أية خسائر، ولكنها فقدت أربعة شهداء عند احتلالها لقرية كوكبا في اليوم التالي (10/11/1925)، وقام المجاهدون، بعد ذلك باحتلال (برغز) و (مرجعيون) في 15 تشرين الثاني، مما أجبر الفرنسيين على الانسحاب إلى النبطية بعد سقوط حوالي 30 قتيلاً منهم. وبعد احتلال هذه القرى أراد الثوار الوطنيون احتلال قلعة (راشيا)، ليتمكنوا بعدها من التقدم إلى سهل البقاع لاحتلال رياق وقطع خط الاتصال الحديدي بين دمشق وحلب من جهة، ودمشق وبيروت من جهة ثانية، فزحفوا باتجاه بلدة راشيا ووصلوها يوم 19/11/1925. كانت حامية راشيا الفرنسية تحت قيادة الكابيتين «جراجينيه GRANGER» ومكونة من الوحدات التالية: 1) الكوكبة الرابعة من الفرقة الأجنبية الأولى بإمرة «الكابيتن لاندريوLANDRIAU». 2) الكوكبة الرابعة من فوج السباهيينSPAHIS الثاني عشر بإمرة «الكابيتين غرومايرفييل–GROS - MAYREVIELLE». 3) رعيل رشاشات من فوج السباهيين الثاني عشر بإمرة «الليوتن انغارديGARDY». 4) مائة دركي محلي بإمرة «الليوتنان تينيهTINI». وفي 19 تشرين الثاني أمر قائد الحامية بإرسال رعيل من رجال الدرك المحلي كأدلاء، فتعرض هذا الرعيل للاشتباك مع مفرزة متقدمة من الثوار، وخسر قتيلين، كما أصيب ثلاثة من أفراده بجراح بليغة، وهذا ما جعل قائد الحامية يرسل رعيلاً من السباهيين بإمرة الليوتنان «غينارGUINARD»، ومعه بضعة أفراد من رجال الدرك، لنجدة الرعيل الأول، وجرى تطويق الرعيل الأخير، وفقد رجال الدرك قائدهم (الليوتنان تينيه)، ولم يتمكنوا من العودة إلى القلعة إلا بشق الأنفس، وتوقف قائد الحامية بعد ذلك عن إرسال مفارز الاستطلاع وأمر جملة أفراد الحامية باللجوء إلى القلعة، بعد أن وصلته تعليمات مشدّدة بلزوم الدفاع عن بلدة راشيا مهما كان الثمن، وقام بتحصين القلعة وإحاطتها بالأسلاك الشائكة، وتحسين استحكاماتها، ولم يتورع عن هدم كثير من بيوت البلدة لأنها كانت تقف في طريق مرمى أسلحتها المستقيمة. وفي يوم 20 تشرين الثاني تعرضت الحامية لرمايات كثيفة من بعض بيوت القرية ومن المرتفعات المجاورة، فتم إقفال أبواب القلعة، ولجأ أفراد الدرك المحلي، الذين كانوا يرابطون فيها إلى مخفر (الحمّارة) على طريق دمشق، وبدأ الثوار بالتقدم نحو قلعة راشيا اعتباراً من صباح 21 تشرين الثاني 1925، بعد أن قطعوا جميع طرق المواصلات والاتصالات عنها، فاضطر قائد حاميتها لاستخدام سرب من حمام الزاجل لإيصال رسائله إلى القيادة العسكرية الفرنسية في بيروت. ولقي الثوار صعوبات كبيرة أثناء التقدم باتجاه أسوار القلعة بسبب سيطرة الأسوار على الأراضي المحيطة بها، بالنظر والرمي معاً، حتى مسافة 500 متر تقريباً ودفع كثير منهم حياته ثمناً لمحاولة الوصول إلى باب القلعة أو أسوارها وبلغت خسائر الفرنسيين في اليوم الأول من الحصار أربعة قتلى وخمسة عشر جريحاً. وفي صباح 22/11/1925 شدد المجاهدون الضغط على القلعة المحاصرة وقام نفر منهم بربط سلّمين إلى بعضهما للارتقاء إلى أعلى السور، بينما حاول نفر آخر منهم كسر باب القلعة والدخول منه. وتمكّن أحد المجاهدين من جندلة «الكابيتين جرانجيه» قائد الحامية، فاستلم الكابيتين «غرومايرفييل» قيادتها وأمر باللجوء إلى برج القلعة الحصين والدفاع المستميت عنه، وفي يوم 23 تشرين الثاني كثّف الثوار الهجوم وتمكنوا من الدخول جزئياً إلى القلعة، واحتلال القصر الذي في داخلها مرتين متواليتين. ولكن المدافعين تمكنوا من إخراجهم بعد هجوم معاكس عنيف شنّوه عليهم بالحراب، ومع ذلك بقي الثوار المهاجمون يحتلون القصر بعد أن أجبروا المدافعين عنه، بإمرة «الليوتنان ده مدرانو» على الجلاء واللجوء إلى البرج، حوالي الساعة الثامنة والنصف من صباح ذلك اليوم، بعد أن أصيب قائدهم بجرح بليغ. وحاول الثوار أن يقتحموا الباب الرئيسي للقلعة فلم يفلحوا نظراً للمقاومة العنيفة التي كانت تؤمنها مجموعة من رجال الفرقة الأجنبية بإمرة «الأجيدان شيف كازو» فاستخدم الثوار عندئذ نفقاً سرياً يؤدي إلى داخل القلعة دلّهم عليه واحد من أهالي القرية، إلا أن الثوار تعرضوا عند الخروج من النفق لرماية أحد الرشاشات الموجهة إلى مخرجه وقام الليوتنان ديفاري، ومعه مجموعة من رجال الفرقة الأجنبية بالهجوم على النفق والبيت المتصل به واحتلاله، إلا أن مقتل «الأجيدان شيف كازو» حوالي الساعة العاشرة صباحاً زعزع معنويات المدافعين من جديد. وعاد الثوار فسيطروا على الوضع تماماً حوالي الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم 21/11 وكادت القلعة أن تسقط تماماً بأيديهم لولا ورود نجدة من الطائرات الفرنسية قصفت الثوار بالقنابل، وألقت رسالة إلى الحامية تفيد بقرب وصول النجدات، إلا أن الرسالة سقطت خارج القلعة، وقد تمكن الثوار من الاطلاع على فحواها وفي الساعة الثامنة مساء وصل من جزّين رتل النجدة الأول، وهو فوج السباهيين السادس، بقيادة «لوبيز LOPEZ» ومعه فصيلة مدفعية، وانطلقت في الوقت نفسه نجدة أخرى من رياق. وفي يوم 24/11/1925 خفت حدة الهجوم بعد وصول النجدة الثانية، التي تألفت من الكتيبة الحادية والعشرين من رماة جزائريين بقيادة الكومندان «لوانيه LOYNET»واضطر الثوار المهاجمون للانسحاب من القلعة إلى القرية، ومنها نحو الشرق الجهة الوحيدة التي بقيت مفتوحة أمامهم، بعد تطويق النجدات الفرنسية للقلعة من الجهات الثلاث الأخرى، وفي الساعة 12,30 من اليوم ذاته دخلت كوكبة من فوج السباهيين السادس بقيادة الكابيتين «ستوكليهSTOKLE» إلى القلعة وفكت الحصار عنها نهائياً، بعد أن فقدت حاميتها نصف عديدها تقريباً، ونفقت خيولها جميعاً بسبب الرمايات المتبادلة بين الطرفين. وأما الثوار فقد خسروا حوالي مائة شهيد، إضافة إلى ثلاثة أمثال هذا العدد من أبناء القرى المسالمين الذين أعدمهم الفرنسيون بعد انسحاب الثوار بتهمة تقديم العون إلى هؤلاء، وتدعي بعض المصادر الفرنسية أن عدد الثوار الوطنيين الذين حاصروا راشيا بلغ 4000 رجل (علماً بأن عددهم لم يصل إلى نصف هذا الرقم) وتحدد عدد قتلاهم بـ 400 ، وهكذا انتهت معركة حصار راشيا، التي تجمع المصادر العربية والفرنسية على الإشادة بها.

ثورة دمشق والغوطتين

كانت الثورة في منطقة دمشق والغوطتين قد بلغت أواسط تموز 1926 درجة من القوة والتنظيم أجبرت القيادة الفرنسية على الاحتماء ضمن أسوار مدينة دمشق، وعدم مغادرتها إلى خارجها إلا ضمن حملات كبيرة، إلا أنه في 16 تموز 1926، بعد أن تلقت القيادة الفرنسية في دمشق نجدات عسكرية كبيرة من المغرب وفرنسا نفسها، صممت على ضرب الثوار المتمركزين في بعض نواحي الغوطة فوجهت خمسة أرتال عسكرية ضخمة أشاعت أنها ذاهبة في مهمات خارجية إلى حلب وحمص واللاذقية ودير الزور، ولكنها عادت فجأة للتقدم باتجاه دمشق يوم 19/7/1926، بعد أن أغلقت جميع المنافذ المؤدية إلى المنطقة وقد أعطي لكل رتل من هذه الأرتال الخمسة قطاع محدد يتقدم ضمنه بحيث تغطي في جملة وحداتها دائرة كاملة تشمل كل الغوطة ثم تلتقي في مدينة دمشق. وهذه الأرتال الخمسة هي: • الرتل الأول: بقيادة الكولونيل «غولتGOULT» وقد أعطيت له مهمة التقدم إلى المدينة من جهتها الشمالية - الشرقية، وضم الوحدات التالية: كتيبتين من الرماة الأفريقيين وكوكبة سباهيين (خيالة مغاربة) وبطارية مدافع 75مم. • الرتل الثاني: بقيادة الليوتنان كولونيل «ماسييه MASSIET» وقد أعطيت له مهمة التقدم إلى المدنية من الناحية الشرقية، وضم الوحدات التالية: كتيبة من فوج الرماة الأفريقيين الخامس والستين، وكوكبتين من السباهيين، وكوكبتي حرس سيّار GARDE DE MARCHE وخمس كوكبات أقليات (من فرسان الشركس) بإمرة الكابيتين كوليه، وقد انقسم هذا الرتل لأسباب فنية وتعبوية إلى رتلين فرعيين: o الرتل أ : بقيادة الليوتنان كولونيل «ماسييه» نفسه واشتمل على نصف فوج من الرماة الأفريقيين، وعلى كوكبات الأقليات الخمس. o الرتل ب: بقيادة الليوتنان كولونيل «فانج VING»، الذي سبق له أن شارك في قمع الثورات في المنطقة الشرقية (معركة أخشام)، والمنطقة الوسطى (ثورة الموالي)، وشمل هذا الرتل بقية الوحدات التي ضمها الرتل الثاني: • الرتل الثالث: بقيادة الكولونيل «غودوGOUDOT» وتقدم إلى المدينة من جهتها الجنوبية الشرقية، واشتمل على الكتيبتين الثانية والثالثة من فوج الرماة الأفريقيين الخامس والستين وفصيل رشاشات 65 مم. • الرتل الرابع: بقيادة الكومندان «دنيس DENIS»، وقد توجه إلى المدينة من الجنوب الغربي، واشتمل على الكتيبة الرابعة من فوج الرماة الخامس والستين، وكوكبة سباهيين، وبطارية مدافع عيار 80 مم. • الرتل الخامس: بقيادة الليوتنان كولونيل «كوكوناسCAUCANAS» وتقدم إلى المدينة من جهة الشمال، واحتوى كتيبتين من الرماة، وكوكبة أقليات شركسية وفصيلة رشاشات 65 مم. تمركزت هذه الأرتال الخمسة في قواعد انطلاقها مساء 18 تموز ثم بدأت بالتقدم باتجاه دمشق صباح اليوم التالي، وتعرضت في طريقها لأعمال مقاومة مسلحة متفرقة، أما الرتل الثاني وخاصة الرتل (ب) الذي يقوده «فانج VING» فقد انطلق من أوتايا صباح 20 تموز، وأخذ لنفسه جبهة بعرض 5كم «لتطهيرها من الثوار» كما يذكر الأمر اليومي الذي تلقاه. وتقع هذه الجبهة في قلب بساتين الغوطة (الزور). وفي الساعة 10.30 صباحاً وصل الرتل إلى (كفر بطنا) التي أخلاها الثوار وكمنوا في قرية (عين ترما) والبساتين المحيطة بها. وقد حاول الليوتنان كولونيل فانج الوصول بقوات رتله عندئذ إلى (عين ترما)، لكنه جوبه بنيران غزيرة سقط بنتيجتها الليوتنان «كورسونCOURSON» قتيلاً ولما حاول الليوتنان «إيجارتيلرEGARTELER» إنقاذه أصيب بثلاث رصاصات جندلته، فأرسل فانج مفرزة ارتباط بإمرة الكابورال «كريسكيهCRISQUET» إلى القائد العام للرتل، الكولونيل ماسييه، لإعلامه بما جرى ولطلب النجدة منه، ولم يقدر لهذه المفرزة أن تصل إلى مركز قيادة الرتل لأنها أبيدت في طريقها ولم ينج منها أحد، وفطن قائد الرتل العام إلى وجود كمين من الثوار في المنطقة، وذلك حين مرت طائرة فرنسية يقودها الليوتنان «دوازليهDOISLAY» والسرجان «غريسرGREISSER» في سماء المنطقة فأسقطها المجاهدون على مقربة من (عين ترما). وفي هذا الوقت دفع الليوتنان كولونيل «فانج» بمقدمة رتله إلى الأمام لتحديد أماكن حشود الثوار حول هذه القرية فأوقف المجاهدون (بإمرة فوزي القاوقجي) بنيرانهم جنود هذه المقدمة واضطروها للتراجع فقد جوبهت بنيران انصبّت عليها من داخل القرية وخارجها، واضطر قائدها «ده رونسرايDE RONSERAY» لاتخاذ الوضعية الدفاعية بقوة لا يزيد عدد أفرادها عن ثلاثين جندياً، وأما الكوكبة التي كان يقودها الكابيتين «سيروSEROUX» فقد تمكنت من الالتحاق بقيادة الرتل في الساعة 12.15 ، بعد تعرضها لبعض الخسائر، وأعطى قائد الرتل الليوتنان «فانج» عندئذ أمراً للكوكبة الموجودة في (شبعا) بأن تأتي لنجدة الكوكبة المشتبكة في (كفر بطنا)، لكن الثوار فطنوا لهذه الحركة، وأجبروا هذه الكوكبة على أن تنحرف إلى الجانب الشمالي من هذه القرية، وهذا ما أوقع الوحدات التابعة لهذا الرتل في حالة فوضى، بعد أن انعدم كل اتصال أو ارتباط بينها، وبعث قائد الرتل عندئذ فصيلة ارتباط لإيجاد نوع من الاتصال بين وحدات رتله، ولكن هذه المحاولة لم تنجح بتأثير ضغط الثوار. وقام الثوار، حوالي الساعة 13.00 من ذلك اليوم، بالانتقال من حالة الدفاع إلى الهجوم، فانقضوا على قرية (كفر بطنا)، لإبادة الوحدة التي كان يقودها الكابيتين «رونسراي» داخلها، فاضطر الكولونيل «فانج» عندئذ لاستلام قيادة الوحدة بنفسه بعد سقوط قائدها قتيلاً، وما لبث فانج أن سقط قتيلاً بدوره حوالي الساعة 13.30 من اليوم نفسه، فاستلم القيادة مكانه الكومندان «ده بيانكورDE BAILLENCOURT» وأمر الجنود باستخدام بيوت القرية معاقل لهم، فقام الثوار بمهاجمة هذه البيوت والاشتباك مع الجنود بالقنابل اليدوية والسلاح الأبيض، وبالأيدي أحياناً، وقضي على مجموع أفراد الكوكبات الثلاث التي كان يتألف منها رتل الكولونيل «فانج» عدا ثلاث مفارز صغيرة تمركزت في معصرة زيت، والثانية في دار سكن، والثالثة في مئذنة مسجد القرية. وفي صباح يوم 21 تموز1926 لم يبق مع الجندي الواحد من أفراد هذه المفارز الثلاث إلا 40 طلقة، إلى أن جاءت طائرة استطلاع أخبرت القيادة بالأمر، فسيرت نجدة سريعة إلى (كفربطنا) بإمرة قائد الرتل الثالث، الكولونيل «غودوGOUDOT» الذي كان متوقفاً عند تخوم قرية (يلدا) منتظراً الإذن له بالدخول إلى مدينة دمشق بعد إتمام مهمته. وقد سقط من الفرنسيين خلال معركة ( كفربطنا) وما جاورها ما يفوق مائة قتيل ومائتي جريح، إلا أن المصادر الفرنسية لا تقر إلا بـ 72 قتيلاً (بينهم أربعة ضباط) و26 جريحاً (بينهم أربعة ضباط أيضاً) ، بينما خسر الثوار 17 شهيداً فقط، وقد كانت هذه المعركة ناجحة في جميع المقاييس، ولهذا لا يزال يذكرها المجاهدون القدامى، من أبناء المنطقة، بكل فخر.

النتائج التي أدت إليها الثورات السورية

لقد اقترنت السنوات العشر التي قضاها الشعب العربي السوري في الكفاح المسلح ضد جيوش الانتداب بنتائج خطيرة سواء من الناحية العسكرية، أو الاقتصادية أو الاجتماعية، أو السياسية، أو القومية:

1) النتائج العسكرية: حشد الفرنسيون في المشرق ( سورية ولبنان) قوات عسكرية وصل عددها في وقت ما إلى 70.000 جندي، منها 20.000 جندي فرنسي (من المتروبول)، والبقية الباقية من جنود المستعمرات (سينيغال، ملاغاش، شمال إفريقيا، هنود صينيون) وقد خسر الجيش الفرنسي من جراء الثورات السورية، ما ينوف عن 15000 جندي، وقدرت هذه الخسائر في السنوات الخمس الأولى (من 1919 وحتى 1924) 9000 جندي و250 ضابطاً، كما ورد في خطاب الجنرال ويغان، في حفلة إزاحة الستار عن النصب التذكاري لقتلى جيش الشرق الفرنسي، الذي جرى بمدينة بيروت في شهر تموز 1924. كما أن الجنرال ساراي اعترف بأنه قامت خلال 1922 فقط، وفي سورية وحدها «خمس وثلاثون ثورة دفن فيها 5 آلاف جندي فرنسي» وأما خسائر الفرنسيين أثناء الثورة السورية الكبرى (1925 - 1927) فبلغت 2000 جندي وضابط في منطقة جبل العرب، و1000 جندي وضابط في منطقة دمشق والغوطتين، و1500 جندي وضابط في المناطق الأخرى (المنطقة الوسطى، القلمون، الجولان، وادي التيم، حوران). ـ بلغت خسائر المجاهدين حوالي 10.000 شهيد، منهم 6000 أثناء أحداث الثورة السورية الكبرى، بين شهيد في ساحة الوغى، وقتيل تحت قصف المدفعية والطائرات، وكذلك من جرى إعدامهم بعد محاكمات صورية أو بدون محاكمة، ويذكر أمين سعيد أنه «يقدر عدد الذين ماتوا أو قتلوا بسبب الثورة، أو بسبب أعمال الحريق والتدمير، من النساء والأطفال والشيوخ والرجال بخمسة عشر ألفاً، يُضاف إليهم مثلهم استشهدوا في الحروب والمعارك التي دارت مع الجيش الفرنساوي ». 2) النتائج الاقتصادية: استدعت القوات الضخمة التي حشدتها فرنسا في سورية نفقات باهظة لم يدفعها المواطن الفرنسي وإنما البلاد السورية نفسها عن طريق العملة الورقية (الليرة السورية LA LIVRE SYRIENNE) التي فُرض التعامل بها، وكانت تمتص تدريجياً النقود الذهبية الموجودة بوفرة في البلاد، والتي نقصت كميتها، بين عامي 1920 و1928، إلى 40% عما كانت عليه عام1919، ولا يمكن تقدير الخسائر العينية التي لحقت بسورية نتيجة الثورة بالمال، وخاصة خسائر مدينة دمشق التي ضمت بعض التحف الأثرية في جامع السنانية وقصر العظم وعدة قصور قديمة في حي الميدان والشاغور، وأصاب الحريق الناجم عن قصف أحياء بكاملها أحياناً، كما حدث في حي (زقاق سيدي عامود) الذي أصبح يحمل منذ ذلك اليوم اسم (الحريقة)، وبهذا الصدد يقول أمين سعيد: «يقدر ما خسرته سورية مالياً في الثورة بخمسة ملايين جنيه، بما في ذلك أثمان الدور والمنازل التي احترقت ودُمرت في دمشق وحماة، وكان بعضها يحتوي على غالي التحف والنفائس مع الأسواق التي نُهبت». وأصاب الأرياف السورية أيضاً ما أصاب مدينتي دمشق وحماة: ففي العمليات التي شنتها القوات الفرنسية ضد ثوار الغوطة، في شهر تموز 1926 تم حرق بيادر وأشجار وأرزاق، ومصادرة الحيوانات في 112 قرية، وفي دراسة غير منشورة عن أوضاع الثورة السورية الكبرى، في أواخر أيامها (1927)، يقدر فوزي القاوقجي أن ثمن البيوت والأرزاق والغلال التي تهدمت أو تعطلت بما لا يقل عن 30 مليون جنيه. وكانت الخسائر فادحة في جبل العرب، فخلت بعض القرى من سكانها نهائياً نتيجة لتدميرها أو حرقها، وغابت أسماء قرى أخرى كثيرة كانت موجودة في الجبل ذلك الوقت من المعاجم الجغرافية المستخدمة اليوم! 3) النتائج الاجتماعية: تركت الخسائر المادية التي حاقت بالمواطنين السوريين آثاراً هامة في المجتمع العربي السوري، وأولها ازدياد النقمة على الغرب ومدنيته الزائفة، وتمسك الشعب بتقاليده وقيمه والعودة إلى التراث. يضاف إلى ذلك اضطرار نفر كبير من أهالي الغوطة والأرياف لهجرها واللجوء إلى المدن للعيش فيها، مما يخل جزئياً في التركيبة الديموغرافية للشعب العربي السوري 4) النتائج الوطنية والقومية: كانت الثورة محكاً أظهر المعدن الحقيقي للزعماء الوطنيين، الذين خاضوا غمار الثورة فعلاً، وتجلّى ذلك بوضوح في الانتحابات التي جرت عام 1928 وما بعدها، وجعل هذا المواطن يشعر بأهميته كفرد في البناء الوطني الكامل. ويضاف إلى ذلك أن الثورة قد زادت من ترابط أبناء مختلف المناطق السورية بعضهم مع بعض، بأداء ضريبة الدم من أبناء كل المناطق، ومثال ذلك أن دم الشهداء من أبناء جبل العرب سال على أبواب دمشق، ودم الدمشقيين الذي انساح بين صخور الجبل، خلقا رابطة أبدية بين أبناء الجبل وبين إخوانهم في دمشق الشام، وقس على ذلك في شتى المناطق السورية الأخرى. وزادت الثورة من التآلف بين أبناء الطائفة المسيحية وإخوانهم المسلمين، وشارك الجميع مسلمين ومسيحيين في الكفاح المسلح ضد الفرنسيين، وعاشوا معاً في السراء والضراء، وكانت حماية المتطوعين المسلمين للأحياء المسيحية في دمشق، بعد تخلي الفرنسيين عنها، برهاناً للمسيحيين على مصداقية الأخوة التي تجمهم بالمسلمين. وقد ظهر مثيل للترابط بين المواطنين داخل الأراضي السورية ما يضاهيه بين السوريين في المهاجر (وخاصة في الامريكيتين) وبين أخوانهم في الوطن الأم، وقدم المغتربون دعماً مادياً ومعنوياً للثورة والثوار. ويلاحظ أن الوعي القومي العربي قد ازداد بازدياد الارتباط بين سورية والبلاد العربية الأخرى. 5) النتائج الخارجية والدولية: كانت للثورات السورية آثار بالغة الأهمية في مجال السياسة الخارجية و الدولية، ومن ذلك:

  • إسماع صوت سورية عالياً بين كواليس عصبة الأمم في جنيف، وذلك عن طريق الصحافة الدولية النظيفة وبما قدمه وفد (المؤتمر السوري - الفلسطيني) الذي كان يرأسه الأمير ميشيل لطف الله من دعم وخدمات، وقد عمل وفد هذا المؤتمر بتعاون وثيق مع الوفد السوري غير الرسمي، الذي كان يضم إحسان الجابري وشكيب أرسلان في مقر العصبة.
  • أجبرت الثورة الحكومة الفرنسية على تعيين مفوضين ساميين مدنيين (ده جوفنيب ـ بونسو - ده مارتيل) بدلاً من القادة العسكريين (غورو - ويغان - ساراي)، وكان لهذا تأثيره في تبديل طريقة الإدارة من (الإدارة العسكرية) إلى (الإدارة المدنية).

وكانت الثورة السورية سبباً في تنشيط أعمال الأحزاب اليسارية الفرنسية التي أخذت تهاجم الرأسمالية والاستعمار بكل عنف، ولا أدل على ذلك أفضل من قول الكاتب الفرنسي «فوشيه» في كتابه «سورية ولبنان»: «إن في سورية الآن عملية انتقام للماضي الأسود، ففظائع الحرب العالمية، وقتل الجماعات، وإتلاف المواسم، وإطلاق المدافع على دمشق والقرى المجاورة لها، وأعمال السلب والنهب وغير ذلك من الأعمال الرهيبة، قد أوجدت لدى الشعب السوري تصميماً على إثبات وجوده، إن الناس قد تلين قناتهم للقوة العسكرية، ولكن الثورة تظل كامنة في صدورهم، ولا أجد لفظة تعبر عن حالة الدمشقيين النفسية إلا لفظة (الحنق)، ويدل ذلك على أن خضوعهم المكرهين عليه، لا يلبث حين تواتيه الظروف، أن يتحول إلى ثورة عارمة، وقد نالهم القنوط من وجود أي مخرج ينقذهم من موقفهم المؤلم».

المعاهدة الفرنسية ـ السورية (1936 ـ 1941)

دامت أحداث الإضراب الخمسيني منذ الثامن من كانون الثاني وحتى الخامس والعشرين من شباط 1936، وذهب ضحيتها عدد كبير من الشهداء والجرحى ، ولما لم تعد سياسة زج الزعماء الوطنيين في السجون والمعتقلات تجدي فتيلاً، اضطر المفوض السامي الفرنسي داميان دي مارتل للرضوخ لمطالب الوطنيين فأقال حكومة الشيخ تاج الدين الحسني في 24 شباط 1936، وعين محلها وزارة انتقالية حيادية برئاسة السيد عطا الأيوبي، وفي أول آذار استدعى رئيس الكتلة الوطنية هاشم الأتاسي للتباحث معه في بيروت وأثناء المقابلة قدم له الأتاسي المطالب التالية: 1) إعادة دستور الجمعية التأسيسية طليقاً من كل قيد. 2) إلغاء نظام الانتداب بعد ثبوت فشله بالتجارب المتكررة وإعلان استقلال سورية، وعقد معاهدة مع فرنسا تحدد علاقات البلدين أسوة بمعاهدة العراق وبريطانيا الأخيرة. 3) إعلان وحدة الوطن المجزأ حتى تتمكن الأمة من جمع قواها وتوجيهها في سبيل الإنعاش العام، وتخفيف النفقات الباهظة التي أوجدتها التجزئة، والتي كادت تقضي على البقية الباقية من ثروة البلاد. 4) إعادة المبعدين السياسيين حتى يشاركوا أمتهم بجهودها نحو الاستقلال، ومعاقبة المسؤولين الحقيقيين عن الحوادث الأخيرة الدامية، وإطلاق سراح المسجونين والمعتقلين بسببها»، ووعد دي مارتيل بتنفيذ بعض الطلبات التي تقدم بها الأتاسي في القريب العاجل، مثل طلب إطلاق المبعدين السياسيين لأنها من اختصاصه، وأما بالنسبة لبقية الطلبات مثل إلغاء الانتداب وعقد معاهدة، فهي من اختصاص الحكومة الفرنسية المركزية، وأنه سيقترح على حكومته استقبال وفد سوري للبحث فيها جميعاً، فلاقى الاقتراح تجاوباً وقبولاً من الأتاسي، وبعد عودته إلى دمشق أصدر الأتاسي ـ باسم الكتلة الوطنية التي يرأسها ـ بياناً إلى الشعب السوري يعلمه فيه بمجريات الأمور، وكان هذا البيان مقدمة لعودة الأمور إلى الهدوء، ونفذ المفوض السامي وعوده للأتاسي فأصدر أمره بإطلاق سراح المسجونين الوطنيين وإعادة المنفيين في 8 آذار 1936. وصدر مرسوم عن رئيس الجمهورية السورية، يقضي بتشكيل الوفد السوري المكلف بالتفاوض مع الحكومة الفرنسية برئاسة السيد هاشم الأتاسي، وعضوية كل من فارس الخوري، جميل مردم، سعد الله الجابري ممثلين عن الكتلة الوطنية، ومصطفى الشهابي، إدمون حمصي ممثلين عن الحكومة، ونعيم أنطاكي سكرتيراً، والقائم مقام أحمد اللحام (أحد ضباط الجيش العربي سابقاً) خبيراً ومستشاراً عسكرياً، وفي 21 آذار 1936 استقل الوفد القطار إلى باريس فوصلها في 26 من الشهر نفسه، وتولى شكري القوتلي رئاسة (الكتلة الوطنية ) نيابة عن هاشم الأتاسي خلال فترة غيابه في باريس وبدأ الوفد السوري عملية التفاوض مع الوفد الفرنسي في الرابع من نيسان 1936، وقد تألف هذا من: روبير دوكيه (كان سكرتيراً للجنرال غورو ثم مندوباً عنه في دمشق)، شوفلر (كان مندوباً للمفوض السامي في دمشق ثم حاكماً لجبل العلويين)، سان كنتان (رئيس ضباط الاستخبارات الفرنسية في الشرق)، باستيد (من موظفي الخارجية الفرنسية). واغتنم الوفد السوري عطلة عيد الفصح بين العاشر والثالث عشر من نيسان 1936 للذهاب إلى جنيف فقابل شكيب أرسلان (سكرتير اللجنة السورية الفلسطينية)، وعبد الرحمن الشهبندر (رئيس حزب الشعب)، ورياض الصلح (السياسي اللبناني المعروف) ، وعاد الوفد بعد ذلك إلى باريس لمتابعة التفاوض. وكانت العقبة الأساسية الأولى التي اختلف عليها الطرفان هي قضية توحيد الأراضي، فقد أصرّ الجانب السوري المفاوض على وحدة الأراضي السورية بالشكل التي كانت عليه في عهد العثمانيين (أي إعادة منطقة جبل العلويين وجبل الدروز وسنجق الإسكندرونة والأقضية الأربعة السورية التي تم إلحاقها بدولة لبنان الكبير من قبل الجنرال غورو)، واعتبار هذه الأراضي جزءاً لا يتجزأ من الجمهورية السورية التي يفاوضون باسمها، ولم يُحل هذا الخلاف إلا بعد وصول حكومة (الجبهة الشعبية le front populaire) برئاسة المسيو ليون بلوم إلى الحكم أوائل حزيران 1936، وساهم تعيين (فيينو vienot) على رأس الوفد المفاوض الفرنسي في وصول الطرفين المتفاوضين إلى حل وسط يقضي بقيام دولتين مستقلتين في المنطقة (سورية ولبنان)، وأن يبقى لبنان ضمن حدوده الراهنة، مقابل موافقة الوفد الفرنسي على إعادة توحيد إقليمي جبل الدروز وجبل العلويين مع سورية، وأما بالنسبة لسنجق الإسكندرونة فقد أقرت فرنسا بتبعيته لسورية، ولكن بشرط أن يكون له «وضع خاص» يتفق عليه فيما بعد. وكانت العقبة الثانية أمام نجاح المفاوضات هي المتعلقة بـ (قوات المشرق الخاصة TROUPES SPECIALES DU LEVANT) التي كان يفترض أن تصبح (القوات السورية الخاصة) بعد توقيع المعاهدة، وأصرّ الوفد السوري على استعادة القوات فوراً نظراً لأن نفقاتها كانت من الموازنة السورية طيلة السنوات العشر الأخيرة، هذا في حين كان الجانب الفرنسي يرغب بإبقائها تحت قيادة ضباط فرنسيين خلال فترة معينة يمكن بعدها تسليمها إلى الحكومة السورية بعد توقيع اتفاق عسكري معها. ودامت المفاوضات بين الجانبين إلى أوائل شهر أيلول 1936 حيث توصلا لصياغة مشروع معاهدة مقبول من كليهما، وقد تم التوقيع على المشروع بالأحرف الأولى من قبل هاشم الأتاسي ممثلاً عن الحكومة السورية، وفيينو والمفوض السامي دي مارتيل ممثلين عن الحكومة الفرنسية، وجرى ذلك خلال حفل رسمي في مبنى وزارة الخارجية الفرنسية في 9 أيلول 1936، وتقرر أن يُعرض مشروع المعاهدة على مجلس النواب السوري، الذي سيُنتخب بصورة حرة للتصديق الرسمي. وتمت الدعوة إلى انتخاب المجلس النيابي السوري بمرسوم صدر في التاسع من تشرين الثاني 1936 وفازت الكتلة الوطنية بأغلبية المقاعد في المجلس الجديد وأتبع دي مارتيل ذلك بإصدار قرار في 2 كانون الأول 1936 ألحق به جبل الدروز بسورية، وتلا ذلك إصدار قرار آخر في الخامس من الشهر نفسه يقضي بإلحاق جبل العلويين أيضاً ، تنفيذاً لنص المعاهدة وبعدها استقال محمد علي العابد من رئاسة الجمهورية، فاجتمع المجلس النيابي الجديد وانتخب في الجلسة الأولى في 21/12/1936 السيد فارس الخوري رئيساً له، وانتخب في اليوم التالي هاشم الأتاسي رئيساً جديداً للجمهورية السورية، فكلف الأتاسي جميل مردم بتشكيل الحكومة. وصادق المجلس النيابي المنتخب بالإجماع على المعاهدة السورية - الفرنسية في جلسة 27/12/1936، كما صادقت عليها الحكومة السورية الجديدة، وحملت المصادقة تواقيع رئيس الحكومة جميل مردم، ووزير الخارجية سعد الله الجابري، ووزير الدفاع شكري القوتلي، وبعد أن أبرم رئيس الجمهورية نص المعاهدة في نسختيه العربية والفرنسية، تم إرسال النسختين إلى الحكومة الفرنسية عن طريق المفوض دي مارتيل، الذي وقع عليها بدوره، إلا أن هذه الحكومة احتفظت بالنسختين ولم تُعد أيّ منهما إلى الحكومة السورية، كما يقضي العرف الدولي في شأن المعاهدات. عرض أحكام المعاهدة: تألفت المعاهدة الفرنسية السورية من ثماني عشرة وثيقة: نص المعاهدة، واتفاق عسكري، وخمسة بروتوكولات، وإحدى عشرة مراسلة ، وها هو ملخص لأحكام النص والاتفاق العسكري الملحق به: أ‌- فيما يتعلق بنص المعاهدة فإنه يتكون من ديباجة وتسع مواد، وأهم أحكامه: 1) تعترف فرنسا بسورية كأمة مستقلة وعليها تهيئة جميع الشروط لقبولها عضواً في (عصبة الأمم) ضمن مهلة لا تتجاوز ثلاث سنوات (الديباجة). 2) تنشأ بين الدولتين علاقة صداقة وتحالف بعد زوال الانتداب، على أساس الحرية التامة والسيادة والاستقلال (الديباجة). 3) يسود بين فرنسا وسورية سلم وصداقة دائمان (المادة 1). 4) تتبادل الدولتان التمثيل الدبلوماسي، وتتشاوران مسبقاً في كل أمر يتعلق بالسياسة الخارجية ويكون من شأنه أن يمس بمصالحهما المشتركة (المادة 2). 5) في يوم زوال الانتداب يتخذ الطرفان المتعاقدان التدابير اللازمة لنقل الحقوق والواجبات الناجمة عن جميع المعاهدات التي عقدتها فرنسا باسم سورية أثناء فترة الانتداب إلى مسؤولية الحكومة السورية (المادة 3). 6) إذا حدث خلاف بين سورية ودولة أخرى وكان من شأنه إحداث خطر بقطع العلاقات مع تلك الدولة تتداول الحكومتان لتسوية الخلاف بالطرق السلمية وفقاً لأحكام ميثاق عصبة الأمم أو أي اتفاق دولي آخر ينطبق على مثل هذه الحالة (المادة 4/ف1). 7) إذا تطور مثل هذا الخلاف إلى نزاع مسلح منذراً بخطر حرب محدق يتداول الطرفان المتعاقدان لاتخاذ تدابير الدفاع الضرورية باعتبارهما حليفين. وتنحصر معونة الحكومة السورية في هذه الحالة على تقديم التسهيلات الضرورية بالمواصلات البرية والبحرية والجوية إلى الحكومة الفرنسية (المادة4/ف2). 8) إن مسؤولية حفظ النظام في الأراضي السورية والدفاع عنها هي مسؤولية تقع على الحكومة السورية، وتنحصر مسؤولية الحكومة الفرنسية في هذا المجال على تقديم مساعدتها العسكرية إلى سورية خلال مدة المعاهدة حسب أحكام الاتفاق العسكري الملحق (المادة5). 9) مدة المعاهدة خمس وعشرون سنة، ولا يمكن تعديلها أو تجديدها إلا بناء على طلب أحد الطرفين ـ أو كلاهما ـ بعد انقضاء عشرين سنة على بدء تطبيقها (المادة 6). 10) تبرم المعاهدة، ويتم تبادل صكوك الإبرام بأسرع ما يمكن، وتبلغ إلى عصبة الأمم. وتوضع هذه المعاهدة موضع التطبيق مع الاتفاقات والعقود الملحقة بها يوم قبول سورية في عصبة الأمم (المادة 7). 11) حالما توضع هذه المعاهدة موضع العمل تسقط عن الحكومة الفرنسية المسؤوليات والواجبات المترتبة عليها فيما يتعلق بسورية، سواء من جراء مقررات دولية أو من أعمال عصبة الأمم، وما تبقى من هذه المسؤوليات والواجبات ينتقل حكماً وتلقائياً إلى الحكومة السورية (المادة 8). 12) كتبت هذه المعاهدة بالفرنسية والعربية، وكلا النصين رسمي ويُعوّل على النص الفرنسي عند حدوث اختلاف (المادة 9/ف1)، وإذا حصل اختلاف بشأن تفسير هذه المعاهدة أو تطبيقها، ولم يمكن حسمه نهائياً عن طريق المفاوضات المباشرة يلجأ الطرفان المتعاقدان إلى أصول المصالحة والتحكيم المنصوص عليها في صك عصبة الأمم (المادة 9/ف2). ب‌- أما بشأن الاتفاق العسكري الملحق بالمعاهدة فإنه ضم ثماني مواد، وأهم أحكامه هي: 1) إن الحكومة السورية بحلولها محل السلطات الفرنسية تأخذ على مسؤوليتها القوى العسكرية القائمة (قوات الشرق الخاصة) مع تكاليفها وواجباتها. والحد الأدنى الذي يجب أن تكون عليه هذه القوات هو (فرقة مشاة) و (لواء خيالة) والمصالح التابعة لهما. 2) تتعهد الحكومة الفرنسية بأن تمنح الحكومة السورية التسهيلات التالية بشرط أن تتحمل الحكومة السورية نفقات هذه التسهيلات: - وضع بعثة عسكرية تعليمية فرنسية لتعليم الجيش والدرك والبحرية والطيران في سورية، وتتعهد الحكومة السورية في مقابل ذلك بأن لا تستخدم سوى الفرنسيين بصفة معلمين واختصاصيين في المجالات العسكرية.ويجوز لبعض هؤلاء المعلمين الفرنسيين استلام قيادة فعلية في القوى العسكرية السورية بشكل مؤقت إذا طلبت ذلك الحكومة السورية رسمياً من رئيس البعثة العسكرية الفرنسية. - للحكومة السورية الحق في إرسال بعثات إلى المدارس ومراكز التعليم والقطعات الفرنسية، وللحكومة السورية الحق بإرسال بعثات عسكرية إلى غير فرنسا في حال عدم توفر الاختصاص المطلوب دراسته أو التدرب عليه. 3) تسهيلاً لتنفيذ واجبات التحالف تتخذ الحكومة السورية لقواها المسلحة سلاحاً وعُدداً من الطراز نفسه المستخدم في القوات المسلحة الفرنسية. 4) تتعهد الحكومة السورية بوضع قاعدتين جويتين لا تبعدان أكثر من 40 كم عن المدن الكبرى ولا مانع مؤقتاً أن تكون هاتان القاعدتان هما قاعدتا المزة والنيرب. 5) يحق للحكومة الفرنسية ولمدة لا تتجاوز خمس سنوات من بدء تطبيق المعاهدة، أن تستبقي جنوداً فرنسيين في منطقتي (جبل الدروز) و (جبل العلويين)، ومن الواضح أن استبقاء الجنود الفرنسيين في مختلف هذه النقاط لا يفيد معنى الاحتلال ولا يمس بحقوق السيادة السورية.6) تمنح الحكومة السورية كل ما يمكن من التسهيلات اللازمة لتموين القوى الفرنسية وتعليمها وتنقلاتها ومواصلاتها، وهذه التسهيلات تشمل استعمال الطرق والسكك الحديدية وطرق الملاحة والمرافئ والأرصفة والمطارات وسطوح المياه وحق الطيران فوق الأراضي واستعمال شبكات البرق والهاتف واللاسلكي. تقيد الحكومة السورية بنص المعاهدة: نظراً لموافقة وتصديق الجميع فإن المفوض السامي الفرنسي وقع النص عند تسليمه إليه لإحالته إلى الحكومة الفرنسية، في أواخر شهر كانون الأول 1936، فقد اعتبرت الحكومة السورية أن المعاهدة أصبحت ملزمة للجانبين، منذ أول عام 1937، دون حاجة لإجراءات أخرى، وأخذت الحكومة تمارس حقوقها وتنفيذ التزاماتها الواردة في أحكام المعاهدة. وكان تمسك الحكومة السورية بنفاد المعاهدة أمراً سليماً ذلك لأن (المحضر النهائي LE PROCESVERBAL) الموقع عليه من رئيسي الوفدين، في 9 أيلول 1936، كان يقضي بوجوب تصديق المعاهدة من (مجلس النواب السوري) ولكنه لا يشير إطلاقاً إلى وجوب تصديقها من (الجمعية الوطنية الفرنسية L,ASSEMBLEE NATIONALE)، ولذا كان اعتماد الحكومة الفرنسية للنص يكفي لنفاده دون حاجة للتصديق عليه من السلطة التشريعية الفرنسية، يضاف إلى ذلك أن إخضاع سورية للانتداب لم يكن أصلاً وفقاً لقانون من الجمعية الوطنية الفرنسية، وإنما بموجب «إعلان أو تصريح DECLARATION» من الحكومة الفرنسية، ولهذا كان يكفي صدور إعلان معاكس برفع الانتداب عنها كي يزول الانتداب. وقد وافقت الحكومة السورية على المعاهدة، وصدّقتها رسمياً واعتبرت نفسها مرتبطة بها، منذ 27/12/1936، وأصبح من حقها، منذ ذلك التاريخ ممارسة الحقوق والالتزامات التي اعترفت لها المعاهدة، وكان من الحقوق التي مارستها الحكومة السورية، كحكومة لبلد مستقل، إصدارها لبعض التشريعات السورية (التي كانت من صلاحيات المفوض السامي حتى ذلك الوقت) بواسطة «مراسيم تشريعية» ، ومثال ذلك مرسوم في السابع من كانون الثاني 1937 يقضي بتعيين مظهر رسلان محافظاً على اللاذقية، ومرسوم آخر يقضي بتعيين نسيب البكري محافظاً على جبل الدروز، ويدلّ هذان المرسومان على أن الحكومة السورية المركزية استعادت سلطتها الولائية على هاتين المنطقتين اللتين كانتا مستقلتين عنها قبل المعاهدة، وفي 7 نيسان 1937 حمل رئيس الوزراء جميل مردم بك، رسالة من باريس تقضي بالعفو عن الزعماء السوريين المسجونين والمنفيين إلى خارج القطر، كما تم إطلاق سراح المسجونين والمنفيين داخل القطر في 12 أيار 1937، وسُمح للمنفيين الخارجين (ومنهم شكيب أرسلان، عبد الرحمن الشهبندر، سلطان الأطرش، إحسان الجابري) بالعودة إلى أرض الوطن. وأثارت تركيا في هذه الآونة قضية سنجق الإسكندرونة وطلبت من الحكومة الفرنسية عدم التصديق على المعاهدة إلا بعد تسوية هذه القضية وحملت رسالة رئيس الحكومة الفرنسية إلى سفير تركيا في باريس، مايفيد أن الحكومة الفرنسية لن تنسى «مصالح تركيا في السنجق» عند تصديق المعاهدة. ولم تكتف الحكومة التركية بهذا الجواب، فأثارت القضية في عصبة الأمم، وطلبت إلى «لجنة الانتداب» فيها عدم التصديق على إنهاء الانتداب الفرنسي في سورية إلا بعد تسوية مطالبها في سنجق الاسكندرونة ووافقت الحكومة الفرنسية على جميع هذه الخطوات أو تغاضت عنها «لكي تضمن وقوف تركيا على الحياد في الحرب العالمية المقبلة». وفي هذه الفترة تم عرض مشروع المعاهدة الفرنسية - السورية على الجمعية الوطنية، فأحيل إلى «لجنة الشؤون الخارجية» فيها لدراسته، فاقترحت هذه الامتناع عن تصديقه حفاظاً على مصالح فرنسا في الشرق إذا قامت حرب عالمية جديدة، وقبلت الحكومة الفرنسية قرار الجمعية الوطنية، وحاولت التملص من التزاماتها تجاه سورية فسحبت داميان دي مارتيل كمفوض سام على سورية ولبنان، وعيّنت مكانه أحد غلاة اليمينيين غابرييل بيو GABRIEL PUAUX، مع تعليمات واضحة بطي المعاهدة. وصل المفوض السامي الجديد إلى بيروت في الأسبوع الأول من عام 1939، وصرح بأن حكومته قد عدلت عن تصديق المعاهدة، وأنها ستعود لتطبيق سياسة الانتداب، وبذلت الحكومة السورية جهدها لتجنب الاصطدام مع المفوض السامي الجديد فجمّدت من تلقاء نفسها الصلاحيات التشريعية التي كانت تمارسها في شكل «مراسيم تشريعية» ولم يُجدِ هذا شيئاً، فقد عَمَدَ المفوض السامي إلى إصدار قرار استعاد فيه الإشراف على الأمن في منطقة اللاذقية، كما وضع وزارتي الدفاع والخارجية تحت الإدارة الفرنسية المباشرة، فدعا هذا حكومة نصوح البخاري لتقديم استقالتها إلى رئيس الجمهورية في 15 أيار 1939. وفعل رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي الشيء نفسه حيث قدّم استقالته إلى مجلس النواب السوري في 7 تموز 1939، وردّ المفوض السامي على ذلك بحل مجلس النواب، وتعليق أحكام الدستور وتولى بنفسه رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، كما كلف بهيج الخطيب برئاسة «مجلس مديرين» يتولى الإدارة العامة في البلاد بموجب القرار 146/ل.ر تاريخ 8 تموز 1939. ومنذ أن أعلنت فرنسا وبريطانيا الحرب على ألمانيا، في 2/9/1939، أصاب البلاد السورية وبال كبير بعد أن جُعلت مركزاً للصراع البريطاني - الألماني - الفرنسي، وقد فرض المفوض السامي حالة الحصار (الطوارئ) وأقام المحاكم العسكرية لمحاكمة الوطنيين السوريين عشوائياً والحكم عليهم بالنفي أو بالسجن وجرى نهب خيرات البلاد الزراعية باسم «الجهد الحربي» وأصبح المواطن السوري مضطراً لأكل رغيف الشعير أو الذرة الصفراء لأن رغيف القمح كان امتيازاً للجنود الفرنسيين والمدنيين العاملين في خدمة فرنسا حصراً. ووضع حداً لهذا الجو الرهيب اكتساح الجيوش الألمانية للأراضي الفرنسية في 17 حزيران 1940 ووقوع الجزء الأكبر من الأراضي الفرنسية - بما فيه العاصمة باريس - تحت الاحتلال الألماني، وأعقب ذلك توقيع الهدنة الفرنسية - الألمانية في 22 حزيران، ومغادرة الماريشال بيتان باريس إلى مدينة فيشي التي أصبحت مقراً للحكومة الفرنسية المتعاونة مع الألمان، وقد ثار الجنرال شارل ديغول على هذه الاتفاقية المذلة، والتحق ببريطانيا وأعلن من إذاعة لندن إنشاء حكومة فرنسا الحرة. وظلت السلطات الفرنسية المنتدبة في سورية ولبنان موالية للحكم الفرنسي المركزي، الذي اتخذ من مدينة فيشي عاصمة له، وخلق هذا جواً من العداء مع الحكومة البريطانية التي أيّدت الجنرال ديغول، وهذا ما فعله قادتها العسكريون والسياسيون الموجودون في كل من فلسطين وشرقي الأردن والعراق. وعمل المفوض السامي الفرنسي غابرييل بيو على اتخاذ موقف مراوغ فأيّد الفرنسيين الفيشين رسمياً، ولكنه أخذ يراسل الفرنسيين الأحرار في لندن والجزائر سراً، ودعا هذا الموقف حكومة الماريشال بيتان في فيشي لعزله في 24 تشرين الثاني 1940، وعينت مكانه ضابطاً موالياً لها هو الجنرال «دنتز DENTZ». ونظراً لازدياد الصراع البريطاني - الألماني - الفرنسي على المنطقة حاول الفرنسيون الموالون لحكومة فيشي استمالة الشعب السوري إلى جانبهم، وقام مفوضهم السامي الجنرال دنتز بصرف مجلس المديرين وتشكيل حكومة سورية جديدة برئاسة خالد العظم باشرت عملها في الثالث من نيسان 1941، وقام بتعيين (مجلس شورى مؤقت) لاستشارته في أمر القوانين المراد سنّها، انتظاراً لإجراء انتخابات جديدة وقيام مجلس نيابي في المستقبل القريب. ولم تُمهل الأحداث المتلاحقة الجنرال دنتز للقيام بأية إنجازات في هذا المجال فقد حشدت القيادة البريطانية (والديغولية) في الشرق مجموعة ضخمة من القوات الإنكليزية والأسترالية والهندية والفرنسية (الحرة) على حدود سورية ولبنان لاحتلالها ووضع حد لإدارة فيشي، وهي الإدارة التي هيأت لتسلل النفوذ الألماني إلى سورية (وخاصة خلال ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق) وتقدمت القوات الحليفة المحتشدة تحت قيادة الجنرال البريطاني «ويلسون»، ودخلت سورية ولبنان في الثامن من حزيران 1941. وألقت مجموعة من الطائرات الحليفة، فوق المدن السورية واللبنانية الكبرى آلاف المنشورات التي تحمل توقيع الجنرال «كاترو CATROUX» قائد الفرنسيين الأحرار العاملين مع القوات الزاحفة نحو سورية ولبنان، وتضمنت هذه المنشورات اعتراف الجنرال كاترو بأنه دخل مع قواته هذين البلدين لإيصالهما إلى ممارسة الاستقلال الفعلي في أقرب الآجال. وفي اليوم نفسه وجّه الجنرال ديغول إلى جميل مردم بك، الرئيس السابق للحكومة السورية والمقيم عندئذ في القاهرة، برقية تشير إلى أن نائبه في الشرق، الجنرال كاترو سيذيع بياناً حاز على موافقته مسبقاً يعترف فيه باستقلال سورية، ويأمل من السيد مردم أن يتعاون مع الجنرال كاترو في ذلك ، ودعم السفير البريطاني في القاهرة، مايلز لمبسون، ذلك بتصريح يعترف فيه باسم الحكومة البريطانية بمضمون بيان كاترو، ويقول فيه: «وقد فوّضتني حكومة صاحب الجلالة البريطانية في المملكة المتحدة أن أصرح بأنها تؤيد ضمان الاستقلال الذي أعطاه الجنرال كاترو بالنيابة عن الجنرال ديغول لسورية ولبنان وتشترك فيه» ، وسعت سلطات فيشي في سورية ولبنان التي كانت ترقب ما يجري إعداده والتحضير له في فلسطين والأردن إلى الاستعداد للمواجهة، فقامت بتقديم بعض القوات من حمص إلى إزرع يوم 29 أيار 1941، وجرى نشرها في اليوم التالي على محور الجوخدار - خسفين - فيق - كفر حارب، كما جرى حشد قوات أخرى في منطقة درعا للدفاع عن محور الشيخ مسكين - دمشق ، وحصلت المواجهة بين الطرفين على المحورين.


بواكير الاستقلال (8 حزيران 1941 ـ 17 آب 1943)

في الفترة الواقعة بين 8 حزيران و12 تموز 1941 دارت معارك عنيفة بين القوات الموالية لفيشي في سورية ولبنان، بقيادة الجنرال دنتز والقوات الحليفة البريطانية والفرنسية الحرة بقيادة الجنرال ويلسون، ويعاونه الجنرال كاترو، وكانت نتيجتها انتصار القوات الحليفة على قوات فيشي، وطردها من هذين البلدين والحلول محلها فيهما، استناداً لأحكام اتفاقية عكا الموقعة بين الطرفين المتحاربين في 13/7/1941. وبعد استقرار القوات الحليفة في سورية ولبنان، أتى الجنرال ديغول بزيارة إلى سورية، وألقى خطاباً سياسياً في الجامعة السورية (جامعة دمشق حالياً) في 29 تموز 1941، وقد وردت في هذا الخطاب العبارة التالية: «إننا نؤكد، نحن الفرنسيين، أن ما مرّت به بلادكم وما تزال، من أهوال ومصائب، هو مدعاة أكيدة للنصر، ونؤكد أن عهداً جديداً لسورية سيكون، وقد حان الوقت لإنهاء الانتداب والسعي سوياً لوضع الأسس النظامية التي تضمن حريتكم».

ويشكل خطاب ديغول تراجعاً عن المنشور الذي وقعه الجنرال كاترو، فقد تحدث عن (إنهاء الانتداب) و (الحرية) لكنه لم يتحدث عن «الاستقلال L,INDEPENDANCE» بصريح العبارة، ولذا فإن الأوساط الوطنية استقبلت خطاب ديغول بحذر وتشكيك، وعادت للتحرك، ومن أجل ذلك صمّم كاترو (الذي خبر سورية طيلة ربع قرن) على تهدئة الخواطر وامتصاص النقمة، فارتأى إصدار قرار رسمي يعترف فيه، بصفته ممثلاً مطلق الصلاحية للجنرال ديغول، باستقلال سورية الناجز، وذلك بأن يعيد بعض مظاهر الحكم الدستوري إلى البلد، واستمزج رأي الشيخ تاج الدين الحسني، في 12 أيلول 1941، بشأن تعيينه رئيساً لدولة سورية، وبعد أن قبل الشيخ تاج المهمة أصدر كاترو قرار تعيينه في السادس عشر من الشهر نفسه، وأتبعه بقرار آخر يعيد توحيد جبل الدروز وجبل العلويين بالوطن الأم، ويلغي قرار فصلهما الذي أصدره غابرييل بيو.

وقد أصدر الشيخ تاج الدين الحسني، في 20 أيلول، مرسوماً بتكليف حسن الحكيم بتشكيل الحكومة السورية الجديدة، التي حلّت محل حكومة خالد العظم المستقيلة، وحوت الحكومة الجديدة حقيبة للخارجية وأخرى للدفاع ، ومع أن هذه الخطوات جاءت للتدليل على تمتع سورية بالاستقلال التام إلا أن الأوساط الوطنية ظلّت تشكك بحقيقة النوايا الفرنسية، وهذا ما دفع كاترو إلى أن يقوم بالاتفاق مع الشيخ تاج الدين بتنظيم حفل بروتوكولي في 27 أيلول 1941، يُصدر فيه إعلاناً بمنح الاستقلال الناجز لسورية، وجاء في الإعلان المذكور مايلي: «... وتتمتع الدولة السورية بالحقوق والميزات التي تتمتع بها الدول المستقلة ذات السيادة، ولا تخضع هذه الحقوق والميزات إلا للقيود التي تفرضها حالة الحرب الحاضرة وأمن البلاد وسلامة الجيوش المتحالفة (...) وحيث إن سورية قد دخلت في الحياة الدولية فإنها تنتقل إليها طبعاً الحقوق والواجبات المعقودة باسمها. ويحق لسورية أن تعين ممثلين سياسيين لها في البلدان التي ترى أن مصالحها تقتضي هذا التمثيل، أما في سائر البلدان الأخرى فإن سلطات فرنسا الحرة تقدم المساعدة لتأمين الدفاع عن حقوق سورية ومصالحها العامة وحماية التبعية السورية فيها. ويحق للدولة السورية أن تشكل قواتها العسكرية الوطنية، وتقدم لها فرنسا الحرة مؤازرتها التامة لذلك، لقد تعهدت بريطانيا مراراً بأن تعترف باستقلال سورية، وستتدخل فرنسا الحرة دون إبطاء لدى سائر الدول الحليفة أو الصديقة لتعترف باستقلال الدولة السورية». وفي رد رئيس الدولة الحسني على التصريح أكد على أن الحلفاء «يَفُونَ بعهودهم دائماً» وركز على النقاط التي تتعلق بأن التصريح الفرنسي يشكل إعلاناً رسمياً باعتراف الحلفاء باستقلال سورية. وإثر الانتهاء من الاحتفال أذاع حسن الحكيم، رئيس الوزراء (بيان الحكومة السورية) الموجه إلى الشعب والذي يقول فيه «أعلن فخامة الجنرال كاترو باسم فرنسا الحرة بالاتفاق مع حليفتها بريطانيا العظمى، تصريح 27 أيلول 1941 فصدق الحلفاء وعودهم لسورية واعترفوا باستقلالها وسيادتها اعترافاً صريحاً قاطعاً، فأصبحت منذ هذا التاريخ دولة مستقلة ذات سيادة (...) وقد كان في هذا التصريح بإعلان سورية دولة مستقلة ذات سيادة فوراً، ودون انتظار فترة الانتقال المحفوفة بالمكاره والأخطار مجال تظهر فيه كفاءة السوريين لممارسة هذا الحق، كما أنه أقر للشعب السوري سيادته القومية في الداخل والخارج، فالتشريع بعد اليوم لا يصدر إلا عن الحكومة السورية، ولسورية الحق في تأسيس قواها الوطنية عندما تجد من مواردها المالية واستعداد أبنائها ما يكفل لها نجاح هذا العمل المقدس. وسنمارس السيادة الخارجية فوراً فنوفد ممثلين سياسيين إلى البلاد الشقيقة والمجاورة، ويتسع نطاق هذا التمثيل السياسي جرياً مع المقدرة المالية والحاجة السياسية. ولا يسعنا إلا إعلان غبطتنا بما تم بشأن محافظتي اللاذقية وجبل الدروز، والترحيب بإخواننا الذين جمعت بيننا وبينهم سياسة عادلة مُحقة لأماني البلاد، ونحن على يقين بأن الصلات بين سورية ولبنان ستطبع دوماً بطابع الأخوة والإخلاص، وأن قضاياهما ستُحل بروح من الثقة المتبادلة والشعور بالمصلحة المشتركة». وقد وجه رئيس الحكومة السورية بعد ذلك رسالة رسمية إلى كاترو تحوي عدداً من المطالب، ومنها نقل إدارات الجمرك والأمن العام، والهجرة والجوازات والعشائر إلى مسؤولية الحكومة السورية وإلغاء وظائف ضباط الاستخبارات وخفض عدد المستشارين الفرنسيين في دوائر الدولة، وربط الرقابة على الصحف والمطبوعات بحكومته، وإلغاء الاتفاق الخاص باستثمار الخط الحديدي الحجازي باعتباره وقفاً إسلامياً، وجملة من المطالب المشروعة الأخرى، ولم يستجب كاترو لهذه المطالب واكتفى بإعطاء الحكومة السورية صلاحيات إصدار جوازات السفر للمواطنين السوريين (دون قضايا الهجرة). ورغم إخفاق الحكيم في انتزاع كامل الصلاحيات فقد اتسم عهده بالاستقرار الداخلي والانفتاح الخارجي، وأدى هذا إلى قيام علاقات مع الخارج في إطار محدود، واعترفت خمس دول باستقلال سورية هي المملكة المصرية، والمملكة العربية السعودية، وبريطانيا العظمى، واليونان وبلجيكا ، وحين فشلت محاولات الحكيم من أجل دفع الجنرال كاترو لتسليم بعض الإدارات، التي لا تحمل طابعاً عسكرياً، إلى حكومته اضطر لتقديم استقالته في 11 نيسان 1942. وترأس الحكومة الجديدة حسني البرازي، وما لبثت هذه الحكومة أن اصطدمت بالعقبات ذاتها التي اصطدمت بها الحكومة السابقة فانصرفت إلى الأمور الشكلية التي تُثبت - ولو ظاهرياً - أن البلد قد نال الاستقلال التام، ومن ذلك إصدار أعداد مُذهبة من (الجريدة الرسمية) تحوي وثائق إعلان الاستقلال. ومع تزايد ضغط التيار الوطني اضطرت الوزارة لتقديم استقالتها في 8 كانون الثاني 1943. وكلف جميل الإلشي بتشكيل حكومة جديدة، ولكن بعد أسبوع من تشكيلها توفي رئيس الدولة، الشيخ تاج الدين الحسني فجأة، في 17 كانون الثاني 1943، ووقعت البلاد في أزمة فراغ دستوري من جديد. وعمد كاترو في 25 آذار 1943 إلى إعادة العمل بدستور عام 1930، في كل من سورية ولبنان، وقام بتعيين عطا الله الأيوبي رئيساً للحكومة السورية ورئيساً للدولة بالوكالة ، وأعلنت حكومة الأيوبي عن قرب إجراء انتخابات تشريعية، وجرت هذه الانتخابات فعلاً في 7 تموز 1943، وعادت (الكتلة الوطنية) في تركيبها الجديد، برئاسة شكري القوتلي، للعب دورها السياسي، وحصلت على أغلب المقاعد في المجلس النيابي المنتخب. وفي 17 آب 1943 اجتمع هذا المجلس وانتخب فارس الخوري رئيساً له، كما انتخب شكري القوتلي رئيساً دستورياً للجمهورية، وابتدأت سورية منذ هذا التاريخ عهد استقلالها الفعلي.

تحقيق الاستقلال الفعلي (1943 ـ 1945)

تحقيق الاستقلال الفعلي (1943 ـ 1945): قام شكري القوتلي رئيس الجمهورية المنتخب في يوم 19 آب 1943 بتكليف سعد الله الجابري بتشكيل الوزارة الجديدة، وفور تشكيل هذه الحكومة دخلت البلاد في دور جديد من النضال لاستكمال الاستقلال والسيادة، وذلك باستلام الصلاحيات التي تمارسها السلطات الفرنسية باسمها، وتوصلت الحكومة إلى توقيع اتفاقية مع المفوض السامي الفرنسي، في 22 كانون الأول 1943، لنقل المصالح المشتركة وموظفيها إلى سورية ولبنان، مع حق التشريع فيها وإدارتها بدون قيد أو شرط، على أن يبدأ التنفيذ في أول السنة الجديدة وعبر اتفاقات خاصة. ووقع الاتفاقية عن الجانب الفرنسي الجنرال كاترو، وعن الجانب السوري سعد الله الجابري رئيس الوزراء، وجميل مردم بك وزير الخارجية، وخالد العظم وزير المالية، كما وقعها عن الجانب اللبناني رياض الصلح رئيس الوزراء، وسليم تقلا وزير الخارجية، وجرى نقل المصالح المشتركة بالفعل باتفاقات خاصة كان أولها (اتفاق تسليم إدارة الجمارك) في 3 كانون الثاني 1944، وآخرها (اتفاق تسليم رقابة السكك الحديدية والموانئ) في 5 حزيران 1944، وبلغ مجموع عدد الإدارات والمصالح التي تم تسليمها عشرين إدارة ومصلحة. المصالح المسلمة للحكومة السورية عام 1944.

وقامت وزارة الخارجية، بعد التوصل إلى الاتفاقية، بإبلاغ حكومات الدول الأخرى مباشرتها الفعلية لسلطاتها، داعية إياها للاعتراف بالجمهورية السورية بعد أن استكملت سيادتها، واستجابت للدعوة تسع دول، قبل نهاية 1944، وتبادل بعضها التمثيل الدبلوماسي معها، ومنها الدول الأربعة الكبرى، حيث اعترفت الولايات المتحدة الامريكية بسورية في 25 تموز 1944، وقدم أول وزير مفوض لها أوراق اعتماده إلى رئيس الجمهورية السورية في 16 تشرين الثاني 1944، كما اعترف بها الاتحاد السوفييتي وقدم اول وزير مفوض له أوراق اعتماده في 36 تشرين الأول 1944، واعترفت الصين الوطنية بها في 27 تشرين الثاني 1944، ومع أن بريطانيا كانت قد اعترفت باستقلال سورية منذ 1941، إلا أن أول وزير مفوض لها في سورية لم يقدم أوراق اعتماده إلا في 23 كانون الأول 1944. وساد الهدوء أجواء العلاقات السورية الفرنسية إلى أن جاء الجنرال «بينيه BEYNET» مفوضاً سامياً جديداً على سورية ولبنان، فعاد إلى التعامل مع سورية بعقلية الانتداب، وهو أمر دعا الحكومة السورية لاتخاذ سياسة الحذر والترقب، وخاصة بعد أن تناقلت وسائل الإعلام العالمية تصريحات بعض رجال الحكومة الفرنسية المؤقتة، ومنها تصريح وزير خارجيتها، جورج بيدو، في 3 شباط 1945، أمام مجلس الوزراء، وتفيد جميعاً بأن فرنسا «تعتبر نفسها هي المسؤولة عن المحافظة على النظام في دول المشرق» ، كما أدلى وزير الدولة البريطاني، المستر ريتشارد، في مجلس العموم، في 14 شباط 1945، ببيان ذكر فيه أن الحكومة البريطانية «أيدت بيان الحكومة الفرنسية الخاص باستقلال سورية ولبنان» واستدرك قائلاً: «ولا أعتقد أن موافقتنا على البيان الفرنسي ينطوي على معنى الضمان بالذات». وكان أشد ما تخشاه الحكومة السورية الجديدة، برئاسة فارس الخوري، نتيجة لهذه التصريحات المقلقة، أن يقلب الحلفاء لها ظهر المجن في نهاية الحرب العالمية الثانية كما سبق لهم أن فعلوا في نهاية الحرب العالمية الأولى، ولم يمنع هذا التوجس الحكومة السورية من تأييد قضية الحلفاء، فاستصدرت المرسوم التشريعي رقم 201 في 26 شباط 1945، المتضمن إعلان سورية الحرب على دولتي المحور (ألمانيا واليابان). ولم يكن هدف هذا الإعلان، في حقيقة الأمر، شجب مواقف هاتين الدولتين فحسب، وإنما كان دافعه الرغبة في الاشتراك في منظمة (هيئة الأمم المتحدة)، التي أعلن بأنها ستضم الدول الصديقة للحلفاء، التي سبق ان أعلنت الحرب على دول المحور، أو ستعلنها قبل الأول من آذار 1945،وقامت الولايات المتحدة الامريكية بالنيابة عن الأمم المتحد جميعاً في 35 آذار 1945ـ بتوجيه الدعوة إلى الحكومة السورية لحضور مؤتمر سان فرانسيسكو، المكلف بوضع ميثاق هيئة الأمم المتحدة، فأرسلت الحكومة السورية وفداً برئاسة فارس الخوري، وعضوية نعيم الأنطاكي وناظم القدسي وفريد زين الدين، وتوجه الوفد في 12 نيسان 1945 إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأسهم بشكل إيجابي في جلسات ومناقشات مؤتمر سان فرانسيسكو، التي انتهت بوضع الميثاق في 25 حزيران 1945. وكانت السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، قد شهدت نشاطاً عربياً مكثفاً، بعد أن دفعت أحداث هذه الحرب الدول العربية لتوحيد كلمتها والدفاع عن مصالحها المشتركة، وقد تولت الحكومة المصرية، اعتماداً على تصريح أنطوني إيدن ، وزير الخارجية البريطاني، أمام مجلس العموم في 24 شباط 1943 دعوة الدول العربية المستقلة (المملكة المتوكلية اليمنية، المملكة العربية السعودية، المملكة العراقية، المملكة الأردنية الهاشمية، الجمهورية السورية، الجمهورية اللبنانية) للتفاوض بخصوص إنشاء جامعة الدول العربية، وجرت المرحلة الأولى من المفاوضات في الإسكندرية، وانتهت في 7 تشرين الأول 1944 إلى توقيع «بروتوكول الإسكندرية»، الخاص بإنشاء جامعة الدول العربية، وجرى التوقيع على ميثاق الجامعة رسمياً في 22 آذار 1945، من قبل ممثلي ملوك ورؤساء الدول العربية السبع ؟ ويمكن القول أن سورية، بعد أن أصبحت عضواً مؤسساً في (جامعة الدول العربية) و (هيئة الأمم المتحدة)، وبعد تبادلها التمثيل الدبلوماسي مع حوالي عشر دول عربية وأجنبية، أصبح استقلالها أمراً واقعاً لا مجال للمنازعة فيه.

قضية القطعات الخاصة

قضية القطعات الخاصة: يُقصد بالقطعات الخاصة «قوات الشرق الخاصة» "LES TROUPES SPECIALES DU LEVANT" وهي قوات عسكرية تم إنشاؤها بموجب قرار المفوض السامي رقم 3045 في 20 آذار 1930،وكانت تتألف من متطوعين سوريين ولبنانيين بقيادة ضباط أغلبهم من الفرنسيين. ولابد من التمييز، مبدئياً، بين تشكيلين عسكريين وجدا في المشرق أثناء الانتداب، وهما: «جيش المشرق L'ARMEE DU LEVANT» و«الوحدات العسكرية المحلية LES TROUPES INDIGENES». 1) فجيش المشرق A.F.L.: هو جيش فرنسي بالكامل يتبع وزارة الحربية في باريس، وكان قائد هذا الجيش هو المفوض السامي نفسه حين كان المفوض جنرالاً (غورو، فيجان، ساراي) ثم استقلت قيادته حين أصبح المفوض السامي من المدنيين (ده جوفنيل ـ بونسو ، ده مارتيل)، وقد استلم قيادته الجنرال «غاملان GAMELIN»، ومن بعده الجنرال «هانتزيجر HUNTZIGER»، وكان ضباط هذا الجيش في غالبيتهم من الفرنسيين، وأما جنوده فكانوا من الفرنسيين أو من أبناء المستعمرات الآسيوية (تونكينيين، هنود صينيين)، والأفريقيين (مالاغاش، سينغاليين، شمال أفريقيين). 2) الوحدات العسكرية المحلية LES TROUPES INDIGENES: وقد تم تشكيلها من المتطوعين المحليين، وتأطيرها من قبل ضباط وصف ضباط فرنسيين، وهي ملحقة بجيش المشرق الفرنسي A.F.L، ولكنها مستقلة عنه من حيث تشكيلها أو أطرها وموازنتها، وقد أخذت هذه الوحدات أسماء عديدة كان آخرها «القطعات الخاصة» او «قطعات الشرق الخاصة». وهي التي كانت الحكومتان السورية واللبنانية تطالبان باستلامها، منذ عام 1936.

إنشاء قطعات الشرق الخاصة: تم إنشاء هذه القطعات بموجب القرار الصادر عن المفوض السامي برقم 3045 يوم 20 آذار 1930، وقد احتوى هذا القرار نظام هذه القطعات وعملها وحقوق الضباط والأفراد العاملين فيها. وأهم تبديل جاء به هذا النظام، على التشكيلات العسكرية المحلية المتقدمة، هو أنه اشترط أن يكون العسكريون المتطوعون فيها من أبناء البلد حصراً، بحيث لم يعد يقبل غيرهم كما كان الحال سابقاً. يضاف إلى ذلك أن الأطر الفرنسية العاملة في هذه القطعات، من ضباط وصف ضباط، لم تعد تشكل أغلبية تتفوق على عدد الأطر المحلية من خريجي الكلية العسكرية في حمص، ومدرسة صف الضباط في رياق. وها هي أهم الأحكام المتعلقة بقطعات الشرق الخاصة كما تضمنها قرار المفوض السامي المشار إليه أعلاه: 1) التطوع: اشترط القرار أن يكون المتطوع من سكان الأراضي الخاضعة للانتداب الفرنسي، وأن يكون عمره 18 سنة على الأقل و38 على الأكثر. ويكون التطوع لمدة سنة أو سنتين أو ثلاث أو أربع سنوات، ولا يمكن لمن قُبل عقد تطوعه أن يسرح من الخدمة إلا في إحدى الحالات التالية: - إذا كانت حالته الصحية أو البدنية لا تسمح له بمتابعة الخدمة في القوات الخاصة. - إذا ارتكب خطأ جسيماً أثناء الخدمة، مثل رفض الأوامر أو التطاول على الرؤساء، أو قام بتصرف لا انضباطي.

- إذا طلب المتطوع تسريحه وكان طلبه مسوغاً ووجيهاً، علماً بأنه يحق للقيادة رفض طلبه لمصلحة الخدمة، فإذا ترك العسكري المتطوع الخدمة في هذه الحالة فإنه يُعد «فاراً من الخدمة العسكرية DESER- TEUR». - يسرح العسكريون من غير الضباط حكماً عند بلوغهم السن القانونية وهي الأعمار التالية: 40 سنة للأفراد (جنود وعرفاء)، و42 سنة للرقباء والرقباء الأولين (سيرجان وسيرجان شيف)، 45 سنة للمساعدين والمساعدين الأولين (آجودان وآجودان شيف). 2) الترقية: تتم الترقية إلى مختلف رتب الأفراد (جندي أول، عريف، رقيب) بقرار من قائد القطعة أو رئيس المصلحة، وأما الترقية إلى الرتب الأعلى فتتم بقرار من السلطة العسكرية العليا المتمثلة بقائد جيش الشرق. وليست الترقية حقاً مكتسباً للعسكري، بل هي تتم بالانتقاء وحسب المراكز الشاغرة في ملاك كل رتبة، وأما بالنسبة لترقية الضباط فقد صنف القرار الضباط ضمن ملاكين: الملاك العادي، وملاك الاحتياط. آ) بالنسبة للملاك العادي أو الفعلي: يؤخذ الملازمون في الملاك العادي (الخدمة الفعلية) من الفئات التالية:

  • خريجو المدرسة الحربية في دمشق.
  • الملازمون أو الملازمون الأولون في ملاك الاحتياط الذين قضوا سنتين من الخدمة على الأقل.
  • المساعدون أو المساعدون الأولون الحائزون على شهادة دورة (آمر فصيلة)، والذين قضوا 8 سنوات في الخدمة.

- يمكن الترفيع في الرتب الأخرى بالانتقاء، وضمن شرط قضاء مدة الخدمة الكافية، وذلك في سلسلة رتب الضباط: سوليوتنان (ملازم) ـ ليوتنان (ملازم أول) ـ كابيتين (نقيب) ـ كومندان (رائد) ـ ليوتنان كولونيل (مقدم) ـ كولونيل (عقيد)، ولا يوجد ملاك لأعلى من رتبة كولونيل (عقيد) في «قوات الشرق الخاصة». ب) بالنسبة لملاك الاحتياط: يؤخذ الملازمون في ملاك الاحتياط من الفئات التالية: - من المساعدين أو المساعدين الأولين الذين قضوا 8 سنوات في الخدمة. - من الرتباء الحائزين على شهادة (آمر فصيلة) بعد أن يقضوا 6 سنوات في الخدمة. - من الرتباء مهما كانت رتبتهم وعدد سنوات خدمتهم إذا قاموا بعمل باهر أو أظهروا شجاعة نادرة. - يمكن الترفيع في ملاك الضباط الاحتياط إلى رتبة سوليوتنان (ملازم) ـ ليوتنان (ملازم أول) ـ كابيتين (نقيب) وإذا تساوت الرتب بين ضباط من الملاكين فتكون القيادة للضباط من الملاك العادي (الفعلي أو العامل ACTIF). وبالنسبة لجميع الضباط، من الملاكين معاً، تعتبر رتبة الضابط ملكاً له، لا يفقدها ولا تنزع منه إلا بموجب حكم قضائي صادر عن محكمة عسكرية أصولية يقضي بعزله او بتجريده منها. 3 ) التقاعد: يحدد سن التقاعد للضباط على الشكل التالي: 50 سنة للملازم والملازم الأول ، 52 سنة للنقيب ، 54 سنة للرائد ، 56 سنة للمقدم ، 58 سنة للعقيد. واستناداً لأحكام هذا النظام تطوع عدد من المواطنين السوريين واللبنانيين في القطعات الخاصة، وزاد عدد الضباط وصف الضباط المحليين في هذه القطعات إلى حد زاد فيه على عدد الضباط الفرنسيين فيها، وفي عام 1935 سمحت القيادة الفرنسية لأول مرة لضابط سوري (الكابيتين عبد الله عطفة) باستلام قيادة فوج في هذه القطعات. والحقيقة أن القيادة الفرنسية ظلت تنظر بعين الشك والحذر نحو ولاء الضباط السوريين لها، كما أنها بقيت تخشى من قيام جيش سوري قوي، ويظهر ذلك من فحوى الرسالة التي وجهها المسيو «شوفر SHOFFER» حاكم جبل العلويين، في أوائل الثلاثينيات، إلى وزارة الخارجية الفرنسية والتي يقول فيها: «إن الجيش السوري الذي تدين غالبيته بالإسلام سيكون جيشاً وطنياً بلا ريب، وبالتالي سوف لن يقبل بالانتداب، إلا إذا كانت مدة الانتداب قصيرة بقدر الإمكان، ولهذا فإن تشكيل مثل هذا الجيش يجب ألا يكون من مهامنا، إن مصلحة الدولة القائمة بالانتداب (أي فرنسا) ليست في تنمية مؤسسة عسكرية اضطررنا لإنشائها (بموجب نظام الانتداب)، ولا في إرضاء طموحات ساهمنا في خلقها! وإنني أنظر بخشية إلى عملية إنشاء جيش سوري يبدو بالنسبة لي خطراً تاماً على الانتداب، وكحاكم لجبل العلويين أنظر بعين القلق لنفقات الموازنة التي يمكن أن يجرها هذا المشروع الذي أعارضه بقدر استطاعتي». وهذه الرسالة تبين لماذا ظلت قوات الشرق الخاصة ضعيفة في العدد والعُدد حتى 1936. وفي أول كانون الثاني 1936 كانت «قوات الشرق الخاصة» تتألف من الوحدات التالية: 10 كتائب مشاة، 23 سرية (كوكبة) خيالة خفيفة، 4 بطاريات مدفعية جبلية أو محمولة أو مقطورة، 3 سرايا صحراوية خفيفة (هجانة أو مصفحات)، سريتان للنقل (واحدة على الحيوانات والثانية بالسيارات)، 3 سرايا هندسة (اللغامون، برقيون، عمال سكك حديدية)، فصيلتا مصفحات، ست فصائل خدمات في مختلف المصالح. وقد ارتفع تعداد هذه القوات إلى 14000 جندي، وارتفع فيهم عدد الضباط المحليين عام 1936 إلى 201 ضابط، بينما انخفض عدد الضباط الفرنسيين فيهم من 141 ضابطاً إلى 100 ضابط، كما انخفض عدد الرتباء الفرنسيين من 295 إلى 278 رتيباً.

حرب فلسطين 1948

تنظيم الجيش السوري (1945 ـ 1947)

بدأ تنظيم الجيش السوري على أسس جديدة، بمجرد استلامه من سلطات الانتداب، حيث أصدرت قيادة الأركان الحربية الأمر رقم 55/3 في 29آب 1945، الذي قضى بتقسيم الأراضي السورية إلى ثلاث مناطق رئيسة:

المنطقة الجنوبية: مركزها دمشق، وتتبعها منطقة السويداء وكذلك منطقة حمص وحماة. المنطقة الشمالية: مركزها حلب، وتتبعها منطقة اللاذقية. المنطقة الشرقية: مركزها دير الزور، وتتبعها منطقة الحسكة. وقد قُسمت هذه المناطق الثلاث الكبرى إلى مناطق ثانوية أخذت الأرقام التالية: 1- المنطقة الجنوبية: وتضم المنطقة الأولى في دمشق، وتحتوي على القيادة العامة، والمنطقة الثانية في السويداء، والمنطقة الثالثة في حمص وحماة. 2- المنطقة الشمالية، وتضم المنطقة الرابعة في حلب، والمنطقة الخامسة في اللاذقية. 3- المنطقة الشرقية: وتضم المنطقة السادسة في دير الزور، والمنطقة السابعة وتشمل الحسكة والقامشلي والرقة. وقضى هذا الأمر بأن يأخذ (الفوج الثامن) تسمية (الفوج الخامس) اعتباراً من أول أيلول 1945، وأن يجتمع كل فوجي مشاة في تشكيل لواء واحد بحيث أصبح هناك: اللواء الأول ومركزه دمشق، اللواء الثاني ومركزه حلب، اللواء الثالث ومركزه دير الزور، وعُزز كل لواء بفوج ميكانيكي وفوج مدفعية.

وقد اشتمل الأمر الإداري رقم 55/3 في 29/8/1945 تشكيلات الجيش السوري بكاملها، الواجبة التطبيق اعتباراً من أول أيلول 1945، بما في ذلك تشكيلات وملاكات رئاسة الأركان والمكاتب التابعة لها (الشعبة الأولى، الشعبة الثانية، الشعبة الثالثة، الشعبة الرابعة)، وقلم الأوراق، ودائرة الإحصاء.

 كما حدد هذا الأمر الإداري الهام أسماء قادة وضباط الألوية الثلاثة، والأفواج الستة التابعة لها الأمر الإداري رقم 3/55 في 29/8/1945

وبالإضافة لهذه التشكيلات التي تتبع تشكيلات أعلى منها كان هناك وحدات عسكرية مرتبطة بالقيادة العامة (الأركان) مباشرة وأهمها: سرية المقر العام، سرية المخابرات (الإشارة)، سرية الميرة واللوازم، سرية الانشاءات، سرية النقل بالسيارات، سرية الصحة والمستشفيات، ومقرها جميعاً دمشق، وسربا طيران أحدهما في مطار المزة العسكري (قرب دمشق) والثاني في قاعدة النيرب الجوية (قرب حلب) والكلية العسكرية في حمص ويتبعها كتيبة خيّالة نظامية (لتدريب الطلاب) وسرية خدمات. وبالإضافة إلى هذه التشكيلات التي تعتمد على «اللواء» كوحدة أساسية، صدر أمر إداري آخر، في 1/10/1945، قضى بتوسيع قوى البادية بحيث تصبح السرايا الثلاث (التي كانت موجودة في زمن الانتداب) ثلاثة أفواج، وأن تنضم هذه الأفواج الثلاثة في تشكيلة واحدة باسم (لواء البادية) تكون قيادته في دمشق، بينما تكون قيادة الأفواج على النحو التالي:

الفوج الأول: مركزه في بلدة الضمير، ومهمته حراسة الجزء الجنوبي من بادية الشام.

الفوج الثاني: مركز في بلدة تدمر، ومنطقة عمله هي الجزء الأوسط من بادية الشام حتى بلدة «السخنة». الفوج الثالث: مركزه في مدينة دير الزور، ومنطقة عمله هي الجزء الشمالي الشرقي من بادية الشام والجزيرة. وكان كل فوج من هذه الأفواج الثلاثة يتكون من أربع سرايا: سرية قيادة، وسرية مصفحات، وسرية هجّانة، وسرية مختلطة، والأخيرة كانت تضم عناصر محمولة بالمصفحات وعناصر أخرى على الجمال.


تنظيم الجيش السوري (1945 ـ 1947)

بدأ تنظيم الجيش السوري على أسس جديدة، بمجرد استلامه من سلطات الانتداب، حيث أصدرت قيادة الأركان الحربية الأمر رقم 55/3 في 29آب 1945، الذي قضى بتقسيم الأراضي السورية إلى ثلاث مناطق رئيسة:

المنطقة الجنوبية: مركزها دمشق، وتتبعها منطقة السويداء وكذلك منطقة حمص وحماة. المنطقة الشمالية: مركزها حلب، وتتبعها منطقة اللاذقية. المنطقة الشرقية: مركزها دير الزور، وتتبعها منطقة الحسكة. وقد قُسمت هذه المناطق الثلاث الكبرى إلى مناطق ثانوية أخذت الأرقام التالية: 1- المنطقة الجنوبية: وتضم المنطقة الأولى في دمشق، وتحتوي على القيادة العامة، والمنطقة الثانية في السويداء، والمنطقة الثالثة في حمص وحماة. 2- المنطقة الشمالية، وتضم المنطقة الرابعة في حلب، والمنطقة الخامسة في اللاذقية. 3- المنطقة الشرقية: وتضم المنطقة السادسة في دير الزور، والمنطقة السابعة وتشمل الحسكة والقامشلي والرقة. وقضى هذا الأمر بأن يأخذ (الفوج الثامن) تسمية (الفوج الخامس) اعتباراً من أول أيلول 1945، وأن يجتمع كل فوجي مشاة في تشكيل لواء واحد بحيث أصبح هناك: اللواء الأول ومركزه دمشق، اللواء الثاني ومركزه حلب، اللواء الثالث ومركزه دير الزور، وعُزز كل لواء بفوج ميكانيكي وفوج مدفعية.


وقد اشتمل الأمر الإداري رقم 55/3 في 29/8/1945 تشكيلات الجيش السوري بكاملها، الواجبة التطبيق اعتباراً من أول أيلول 1945، بما في ذلك تشكيلات وملاكات رئاسة الأركان والمكاتب التابعة لها (الشعبة الأولى، الشعبة الثانية، الشعبة الثالثة، الشعبة الرابعة)، وقلم الأوراق، ودائرة الإحصاء.


 كما حدد هذا الأمر الإداري الهام أسماء قادة وضباط الألوية الثلاثة، والأفواج الستة التابعة لها الأمر الإداري رقم 3/55 في 29/8/1945

وبالإضافة لهذه التشكيلات التي تتبع تشكيلات أعلى منها كان هناك وحدات عسكرية مرتبطة بالقيادة العامة (الأركان) مباشرة وأهمها: سرية المقر العام، سرية المخابرات (الإشارة)، سرية الميرة واللوازم، سرية الانشاءات، سرية النقل بالسيارات، سرية الصحة والمستشفيات، ومقرها جميعاً دمشق، وسربا طيران أحدهما في مطار المزة العسكري (قرب دمشق) والثاني في قاعدة النيرب الجوية (قرب حلب) والكلية العسكرية في حمص ويتبعها كتيبة خيّالة نظامية (لتدريب الطلاب) وسرية خدمات. وبالإضافة إلى هذه التشكيلات التي تعتمد على «اللواء» كوحدة أساسية، صدر أمر إداري آخر، في 1/10/1945، قضى بتوسيع قوى البادية بحيث تصبح السرايا الثلاث (التي كانت موجودة في زمن الانتداب) ثلاثة أفواج، وأن تنضم هذه الأفواج الثلاثة في تشكيلة واحدة باسم (لواء البادية) تكون قيادته في دمشق، بينما تكون قيادة الأفواج على النحو التالي:

الفوج الأول: مركزه في بلدة الضمير، ومهمته حراسة الجزء الجنوبي من بادية الشام.

الفوج الثاني: مركز في بلدة تدمر، ومنطقة عمله هي الجزء الأوسط من بادية الشام حتى بلدة «السخنة». الفوج الثالث: مركزه في مدينة دير الزور، ومنطقة عمله هي الجزء الشمالي الشرقي من بادية الشام والجزيرة. وكان كل فوج من هذه الأفواج الثلاثة يتكون من أربع سرايا: سرية قيادة، وسرية مصفحات، وسرية هجّانة، وسرية مختلطة، والأخيرة كانت تضم عناصر محمولة بالمصفحات وعناصر أخرى على الجمال.


وكان هناك سرية هجانة مستقلة، مركزها في مدينة حلب، ومهمتها مراقبة العشائر البدوية في هذه المحافظة. وفي شهر تشرين الثاني 1945 تابعت القيادة مهمة تنظيم وزارة الدفاع فاستصدرت المرسومين رقم 1239 و 1240، في الرابع منه، وينص الأول على تعيين الزعيم تحسين العنبري رئيساً للغرفة العسكرية في وزارة الدفاع، والثاني على تعيين أحمد اللحام مديراً عاماً لها. وفي 12 تشرين الثاني 1945 صدر المرسوم رقم 1271، الذي حدّد ملاك الجيش السوري في تشكيله الجديد وفق الجدول التالي:

الرتب القطعات النظامية القطعات غير النظامية المجموع
الضباط 474 112 586
الرتباء 834 466 1300
العرفاء 834 401 1235
جندي أول 1400 665 2065
جندي 5100 2400 7500
المجموع 8642 4044 12686

وقد وقع على هذا المرسوم الرئيس شكري القوتلي، ورئيس مجلس الوزراء سعد الله الجابري، الذي كان وزيراً للدفاع في الوقت نفسه، وهو يتبنى جملة من الأرقام التفصيلية قدّمتها (مديرية مصلحة الميرة واللوازم) في وزارة الدفاع بتاريخ 21 /10/1945. أما سبب هبوط عدد أفراد القطعات الخاصة من 21000 رجل في زمن الفرنسيين إلى 12686 في زمن الحكم الوطني، فيمكن أن يعزى إلى أن الرقم الأول يشمل وحدات «القناصة اللبنانيين LES CHASSEURS LIBANAIS»، هذا إضافة إلى أن الحكومة السورية قامت بتسريح جميع الضباط والرتباء والأفراد الذين ترددوا في الالتحاق بالقوات الوطنية، أو تأخروا في ذلك إلى ما بعد 30/6/1945، وقد استصدرت الحكومة القانون رقم 199 تاريخ 19/9/1945، الذي يمنح كلا من وزير الدفاع، ورئيس الأركان، والسلطات العسكرية التي يعينها وزير الدفاع، صلاحيات معينة في هذا المجال من حيث التعيين وتعديل الأوضاع والتسريح بالنسبة لجميع الرتب. وفي محاولة من القيادة لاستكمال تدريب وحدات الجيش في النواحي التي تنقصها، وخاصة في مجال المخابرات (الإشارة)، استصدرت عدداً من المراسيم لإيفاد بعثات من الضباط والرتباء والجنود إلى (مدرسة المخابرات للشرق الأوسط) في مصر، وكان أول هذه المراسيم برقم 1273 بتاريخ 12 تشرين الثاني 1945، وبالنسبة لتدعيم مؤسسات الصحة العسكرية بشكل خاص جرى الإعلان عن مسابقة لانتقاء عدد من الأطباء العسكريين والتعاقد معهم. وفي بداية عام 1946 أعيد النظر في تشكيل ألوية الجيش الثلاثة وأصبح كل منها يضم وحدات دعم ثقيلة، وبشكل عام يمكن القول إن كل لواء أصبح يتشكل من: أركان اللواء، سرية مقر، فوجين من المشاة، فوج مدفعية، فوج ميكانيكي من الدبابات أو المصفحات، ويرتبط بكل لواء كتيبة أو أكثر من كتائب الفرسان الخفيفة الموجودة على الحدود ضمن منطقة عمل اللواء نفسه. وإنّ عدول القيادة من اعتماد «الفوج» كوحدة تكتيكية أولى إلى اعتماد «اللواء» هو أن اللواء يستطيع في الميدان أن يؤمن تآزر عدد من الصنوف (مشاة ومدفعية ومدرعات) لأداء مهمة واحدة وغاية واحدة، وهذا يمكّن قائد كل لواء من إعطاء أوامر سريعة وشفهية ومباشرة، عند الضرورة، لأداء مهمات مستعجلة (تكليف المدفعية برمايات إيقاف، أو تكليف المدرعات بدعم هجوم المشاة..) وإن من ميزات هذا التشكيل الجديد أن تعتاد قطعات الصنوف المختلفة من مشاة ومدفعية ومدرعات وهندسة واتصالات، وكذلك قادتها، على العمل المشترك، وعلى التعاون في العمليات العسكرية المشتركة بين جميع الصنوف. وتابعت القيادة، اعتباراً من شهر شباط 1946، مهمة إرسال بعثات تدريبية للضباط إلى فلسطين ومصر، فاستناداً للقرار رقم 253 في 30 نيسان 1946 أوفدت دفعة من كبار الضباط بمهمة رسمية إلى فلسطين، للتدرب في قيادات الجيش البريطاني هناك، (شملت هذه الدفعة: العقيد عبد الوهاب الحكيم، والمقدمين: توفيق الدوخي، أنور محمود، حمود الأطرش، طالب الداغستاني، والرؤساء: زهير سنجقدار، سعيد حبي، عبد الرحمن مردم، مأمون بيطار، أمير شلاش، عزيز عبد الكريم، والملازم الأول نصر الله نادري، وقد لحقت بهم دفعة ثانية شملت الزعيم عبد الله عطفة، والمقدمين جميل برهاني وحسام الدين عابدين، والرئيسين صبحي عبارة وجميل رمضان، والملازمين الأولين عمر قارصلي وسليم شطا)، وقد تضمن برنامج تدريب هؤلاء الضباط دورة مكثّفة لمدة ثلاثة أسابيع تشمل الشؤون التالية: إدارة وإعاشة الألوية وتأمين احتياجاتها، كيفية اتخاذ القرارات الإدارية والحربية من قبل قائد القطعة، استعمال أجهزة اللاسلكي، الصحة العسكرية والنظافة العامة، الوقاية من الأمراض أثناء الحركات، المناورات الحربية من مستوى لواء، بدون قوات أولاً، ثم مع القوات، علاقة الجيش بالسلطات المدنية، تدريبات عامة مثل: التمرين بالسلاح، قيادة السيارات، قراءة الخرائط، استعمال البوصلة، قراءة البرقيات الموجزة، أعمال الاستكشاف وكتابة تقارير عنها، واجبات القائد حيال جنوده، الانضباط في المعسكرات.. وبعد انتهاء فترة التدريب قامت البعثات بزيارة مدينة القدس، ثم عادت من هناك إلى دمشق عن طريق الناقورة - بيروت - دمشق. وفي 25 أيار 1946 تقدّم الزعيم عبدالله عطفه، رئيس الأركان العامة، بتقرير وافٍ إلى وزارة الدفاع، برقم208/5/3، يشرح فيه تعداد الجيش السوري بالتفصيل، وأسلحته، وتجهيزاته، وعتاده، وألبسة الجند، وروحهم المعنوية... ويقترح فيه: «أن تؤلّف أركان حربية مختلطة من جيوش الدول العربية، وتحت إشراف مجلس الجامعة العربية، لدرس القوانين والأنظمة في الدول العربية والدول الغربية على ضوء أحدث المعلومات ونتائج الحرب الأخيرة، لوضع أسس موحدة لهذه الجيوش ودراسة إمكانيات البلاد العربية بخصوص تأمين كل ما تحتاجه هذه الجيوش من أسلحة وذخيرة وتجهيزات وملبوسات، وإمكان تشييد مصانع تموّن هذه الجيوش على أساس الاستغناء عن البلاد الأجنبية تدريجياً لكي لا نكون دوماً تحت رحمة حكوماتها، خاصة ما يتعلق بالسلاح والذخيرة» تقرير الزعيم عبد الله عطفه رئيس الأركان عن الجيش ثم ينتهي التقرير إلى القول: «صفوة القول إن المعنويات قوية بحماس الأفراد الفطري، ونجاح القضية السورية الذي أدى إلى جلاء الأجنبي عن البلاد، إلا أنها ضعيفة من وجهات الثقة بالنفس وبالسلاح والماديات، وإن القوة العددية لهي وليدة الماديات فإذا صلُحت صلح الباقي، ويمكن التأكيد بأنه في حالة تأمين الوجهة المادية للحصول على ما ينقص الجيش من أسلحة وتجهيزات ومعدّات، وإعطاء العسكريين الحد الأدنى مما يحتاجونه في حياتهم المادية لكي يتمكنوا من حفظ كرامتهم يمكن أن نتوصل بجيشنا إلى أقرب حد من الكمال النسبي» ويتبين من التقرير أن تجهيز وتسليح الجيش لم يكن في المستوى المطلوب الذي ترضى عنه القيادة، وهذا ما دعاها إلى إرسال نفر من الضباط لشراء أسلحة وسيارات وتجهيزات من مخلفات جيوش الحلفاء في مصر، بالرغم من أن هذه المخلفات كانت مستعملة وشبه بالية، ولم تأل القيادة العسكرية جهداً في سبيل استكمال النواقص من حيث التسليح والتجهيز والتدريب ضمن الإمكانيات المتاحة لها: 1) ففي مجال استكمال الملاك: استصدرت القيادة المرسوم التشريعي رقم 49 تاريخ 16 تشرين الأول 1946 ، الذي ألغى القانون رقم 190 الصادر في 26 أيار 1945، والقانون 199 الصادر في 19 أيلول 1945(وهما يتعلقان بتنظيم وزارة الدفاع) ونظم الوزارة تنظيماً جديداً فقسم إدارتها المركزية إلى ثلاث عشرة مديرية ودائرة هي: (الغرفة العسكرية - الأركان العامة - مديرية الطيران - مديرية البحرية - مديرية التموين والصيانة - مديرية العينة والمستودعات - مديرية الصحة العسكرية - مديرية العدلية والقضاء العسكري - دائرة التفتيش والمراقبة - دائرة السجل والإحصاء - دائرة التجنيد العام - مديرية المحاسبة - الديوان)، وفصّل القانون في واجبات كل مديرية من هذه المديريات وأساس عملها واتصالها مع المديريات الأخرى . ملاك وزارة الدفاع الوطني بموجب المرسوم التشريعي رقم 74 لعام 1947

2) وفي مجال التنظيم : عيّنت القيادة لجنة خاصة برئاسة أحمد اللحام، أمين عام وزارة الدفاع، لاستكمال التنظيم على مستوى إدارات الوزارة ومديرياتها. 3) وفي مجال التدريب تعاقدت القيادة مع نفر من الخبراء والأخصائيين للإشراف على تدريب الجيش، في المجالات التي لا يوجد فيها مدربون سوريون مختصون مثل مجالات الطيران، وهندسة الطيران، واللاسلكي، والأرصاد الجوية(قرار وزارة الدفاع رقم 232 تاريخ 22 شباط 1947 يأذن بالتعاقد مع المهندس الميكانيكي حسن السيد إسماعيل - مصري الجنسية)، وقامت القيادة إضافة إلى ذلك بإيفاد بعثات من الضباط وصف الضباط إلى كل من الولايات المتحدة (القرار الوزاري رقم 760 في 9/9/1947 يقضي بإيفاد بعثة عسكرية إلى الولايات المتحدة الأمريكية للتدرّب والتخصص في ميكانيك وهياكل الطائرات - الجريدة الرسمية لعام 1947ـ ص1758)،وبريطانيا(القرار الوزاري رقم 4467 في 28/3/1947 يقضي بإيفاد عشرة طلاب ضباط إلى كلية «ساندهيرست» العسكرية الملكية البريطانية لتلقي علومهم العسكرية الأساسية هناك لمدة سنتين - الجريدة الرسمية لعام 1947 ـ ص802)، ومصر (المرسوم رقم 831 في 11/8/1947، يقضي بإيفاد عدد من صف الضباط إلى مصر للتدرب على محركات الطائرات، المستودعات، التصوير الجوي، أسلحة الطيران، المظلات، الطيران الآلي والأرضي اللاسلكي - الجريدة الرسمية لعام 1947 ـ ص1615)،وتضمن التدريب في بعض الأحيان اتباع دورات أركان عليا، كما هو الحال في بعثة الضباط التي توجهت إلى العراق، حيث شملت دراستهم في (كلية الأركان العراقية): • الأنظمة والقوانين في العراق، وتشكيلات الأركان. • تشكيلات مختلف وحدات الجيش العراقي وملاكاتها. • أنظمة وأساليب التفتيش في القطعات العسكرية (المرسوم رقم 690 في 5/7/1947 القاضي بإيفاد أربعة ضباط سوريين إلى كلية الأركان العراقية لمدة سنتين - الجريدة الرسمية عام 1947 ـ ص1235)، وإضافة إلى البعثات قامت المدارس والكليات العسكرية السورية بواجبها في هذا المجل حيث خرّجت (الكلية العسكرية) في حمص دورة من الضباط في الشهر الأخير من عام 1947، كما خرّجت (مدرسة الأخصائيين) دورتين من صف الضباط. 4) وأما في مجال التسليح: فلم يكن بالجودة المطلوبة ولا بالكمية اللازمة، واقتصر على الأسلحة التالية: أ ـ بالنسبة لوحدات المشاة: كانت أسلحة المشاة الفردية من البنادق الفرنسية عيار 8 مم طراز 1892، أو عيار 8 مم طراز 7/15، أو من البنادق عيار 7.5 مم طراز 1935. وأما بالنسبة لأسلحة المشاة الجماعية فكانت الرشيش إف، إم F.M عياره 7,5 مم طراز 1924، والرشاش هوتشكيس عيار 8 مم طراز 1916، والهاون 60 مم و81 مم ضمن أسلحة المرافقة، وتوفّر في بعض الأحيان مدافع م/د عيار 25 مم طراز 1935، وبعض الألغام الإنكليزية في فصيلة الهندسة، وعدد من الرمانات اليدوية الدفاعية والهجومية. ب ـ بالنسبة لوحدات المدرعات: كانت هذه الوحدات تضم في عام 1947، وبحسب التدرج في الثقل: 1 ـ مصفحات طراز «دودج» مسلحة برشيش. 2 ـ مجنزرات (ت - 16) عددها ثلاث، ووزنها طن واحد. 3 ـ مصفحات مارمون الإنكليزية مسلحة بمدفع عيار 37 مم قصير، وبرشاش عيار 7,5مم. 4 ـ دبابات فرنسية، من طراز رينو، عددها تسع دبابات، وسلاحها متنوع. ج ـ بالنسبة لوحدات المدفعية: بعد استلام وحدات المدفعية في القطعات الخاصة من الفرنسيين، تم تشكيل فوجين من مدفعية الميدان عيار 75 مم، تمركز الفوج الأول في ثكنة الجبخانة في دمشق (مقابل فندق الميريديان حالياً)، بقيادة الرئيس عزيز عبد الكريم، وانتقل هذا الفوج إلى ثكنة القابون أواخر عام 1946، وبقيت «مديرية التسليح» في ثكنة الجبخانة، وتمركز الفوج الثاني في حلب بقيادة الرئيس آرام قره مانوكيان، وكان يشمل بطاريتين فقط، بعكس الفوج الأول الذي شمل ثلاث بطاريات، وقد حوى هذان الفوجان 24 مدفعاً من عيار 75 مم نموذج 1897، مع وحدة نارية تضم 100 قنبلة للمدفع الواحد، وفي أواخر 1947 تم تشكيل فوجي مدفعية جديدين مسلحين بمدافع أثقل وأحداث: الفوج 35 سُلِّح بمدافع عيار 105 مم ألمانية، والفوج 36 سُلّح بمدافع من عيار 105 مم فرنسية طويلة، وبالإضافة لذلك كان هناك فصيل مدافع جبلية من عيار 105مم قصير يضم مدفعين فقط. وسعت القيادة العسكرية لزيادة تسليح الجيش وعُدده خلال عام 1947، استعداداً لحرب فلسطين التي كانت تُنذر بالوقوع، فأرسلت «لجان شراء» إلى تشيكوسلوفاكيا وإيطاليا وتركيا، وحقق بعض هذه اللجان مشتريات معقولة نسبياً، إلا أن بعضها الآخر انتهى إلى فشل ذريع لأسباب مختلفة. وأما بالنسبة للتعبئة البشرية فقد قامت القيادة العسكرية السورية بثلاثة تدابير في هذا المجال: 1) دعوة بعض الضباط وصف الضباط المُسرحين والمتقاعدين والمستقيلين إلى الخدمة من جديدالقرار رقم 788 في 12/10/1947، الصادر عن وزارة الدفاع الوطني، يتعلق بإعادة بعض العسكريين من غير الضباط إلى الخدمة (الجريدة الرسمية لعام 1947 ـ ص1904). 2) إيقاف تسريح الضباط وصف الضباط والجنود، بما في ذلك أولئك الذين بلغوا سن التقاعد، فقد نص القرار رقم 792 في 16 تشرين الثاني 1947 على ما يلي: «توقف التسريحات في الجيش اعتباراً من تاريخ تبليغ هذا الأمر، وتحتفظ قطعات الجيش ومصالحه وإداراته بكافة العسكريين الذين انتهت عقودهم أو تقرّرت إحالتهم على التقاعد أو قدّموا طلباً للاستقالة وتنظم لهم عقود تطوع عادية تسمح بتمديد خدماتهم لمدة ستة أشهر على الأقل». 3) فرض الخدمة الإلزامية (نظام خدمة العلم) لمدة سنة واحدة مبدئياً، بنص القانون رقم 356 تاريخ 15 كانون الأول 1947 ، وبتاريخ 12 نيسان 1948 صدر القانون رقم 874، المنظم لأعمال مديرية التجنيد العامة وشعبها وصاحب ذلك استدعاء عدد كبير من ضباط التجنيد القُدامى للخدمة، ممن سبق لهم العمل كضباط تجنيد في الجيشين العثماني والعربي الفيصلي، للقيام بأعمال سوق المكلفين، كلٌ في منطقته، وشعبة تجنيده التي يتبع لها، وكانت أول قرعة سيقت للخدمة الإلزامية هي مواليد عام 1929، وكان تعدادها 45029 مكلفاً، سيق منهم 20911 للخدمة، وأما الباقون فلم يساقوا لأسباب مختلفة منها التأجيل الدراسي، والتأجيل الإداري، والموانع الصحية، والإعالة، ودفع البدل في الحالات التي يسمح بها القانون، وقد خلقت الخدمة العسكرية الإلزامية نوعاً من الانصهار والتوحد بين مختلف المجندين، من شتى أنحاء سورية، فكانت مدرسة حقيقية لأبناء الجيل الواحد، قوّت من الشعور الوطني، وزادته تماسكاً وزخماً، وظهر ذلك واضحاً منذ بداية الخمسينيات. تأسيس سلاح الطيران السوري: صدر قرار وزاري يقضي بتأسيس سلاح الطيران السوري اعتباراً من 16 تشرين الأول 1946، وتم إلحاقه مبدئياً برئاسة الأركان العامة وقد عيّن لقيادة هذا السلاح في بداية الأمر ضابط غير طيار هو العقيد عبد الوهاب الحكيم، ويعاونه الرئيس محمد صفا، وقد أتبعت الإدارات التالية بسلاح الطيران بعد تأسيسه: 1) مدرسة الطيران: كان مركزها أولاً في مطار المزة العسكري، وكان مديرها ومدربوها من الأشقاء المصريين الذين تم التعاقد معهم، ثم جرى تطعيمهم بنفر من المدربين الأوروبيين والأمريكيين قبل تخريج الدفعة الأولى من الطيارين السوريين. 2) الورشات العامة: كان يرأسها المهندس محمود الرفاعي ويعاونه المهندسان السوريان مهيب حجار وعلي الدالاتي، ومعهم المهندس المصري عبد المجيد عمر، وقد ضم إلى هذه الورشات منذ إنشاء السلاح مجموعة من ضباط الصف الذين تخرجوا من (مدرسة رياق) الجوية في زمن الانتداب الفرنسي. 3) مصلحة الأرصاد الجوية واللاسلكي: تم إسناد رئاستها، بموجب القرار الوزاري رقم 175 في الأول من شباط 1947 إلى الخبير محمد شفيق الصفدي، ثم استلم رئاستها الملازم سعاد كمال، ويعاونه الملازم لؤي شطي. 4) المستودعات الفنية: بإدارة الوكيل حكمت رحمون، الذي تخرج من (مدرسة رياق) الجوية. 5) سرية الخدمات: كان يرأسها الملازم الأول محمود شوكت. 6) قسم المستوصف: برئاسة الطبيب الدكتور عزت الصيرفي. وقد أدت مدرسة الطيران مهمتها بسرعة، وتخرجت أول دفعة من الطيارين الفنيين السوريين فيها بتاريخ 28 شباط 1948، وقد ضمت الدفعة ثمانية ضباط هم: الملازم الأول عصام مريود، والملازمون: طلعت عبد القادر، عمر صفر، وديع مقعبري، فهمي سلطان، راشد كيلاني، سهيل طايع، مختار سمان ، وجرى توزيع هؤلاء الضباط بعد تخرجهم كما يلي:

الملازم الأول عصام مريود قائداً لسرب القتال الأول الذي يتكون من 12 طائرة هارفارد من طراز A.T.6. الملازم راشد كيلاني قائداً لسرب القتال الثاني، الذي ضم السرب الأول 12 طائرة هارفارد أيضاً. الملازم طلعت عبد القادر قائداً لسرب طائرات النقل، وهو يتكون من ثلاث طائرات داكوتا طراز DC-3، وهي من مخلفات شركة الطيران السورية المساهمة، التي جرى تصفية ممتلكاتها بسبب خسارتها، وقد أصبحت هذه الطائرات الثلاث نواة لأسطول مؤسسة الطيران السورية. الملازمون عمر صفر، وديع مقعبري، فريد حيدر: اتبعوا دورة (مدرب طيار) لكي يقوموا بالتدريب في مدرسة الطيران بعد ذلك. ـ بالإضافة لهذه الطائرات التابعة لسربي القتال (هارفارد A.T.6)، وسرب النقل (داكوتا DC3)، كان هناك عدد من طائرات التدريب التابعة لمدرسة الطيران من طراز (بايبركاب) أو (تايجرمون) بالنسبة لطائرات التدريب الخفيفة، وكذلك نماذج وحيدة من طائرات (فيرتشايلد، بروكتور، أوكسفورد) ذات المحركين لغايات التدريب في مدرسة الطيران حصراً، فقد عُقدت في هذه المدرسة دورة ثانية لتخريج الطيارين، وكان من بين أفرادها الملازمان موفق تيناوي وعوني خنشت. ولمّا ضاق مطار المزة في دمشق عن استيعاب الحركة الجوية المتزايدة من طيران حربي، أو عسكري تدريبي، أو مدني تجاري، جرى نقل مدرسة الطيران منه إلى قاعدة النيرب في حلب، وتم تكليف الملازم الطيار عمر صفر بمهام إدارة القاعدة الجوية والمدرسة معاً، كما تمّ تعيين الملازم وديع مقعبري معاوناً له، والملازم فريد حيدر مدرباً في المدرسة. وعندما استشهد الملازم عمر صفر بحادث جوي يوم 14 أيار 1949، عُيّن راشد كيلاني مكانه مديراً لمدرسة الطيران وأوفد وديع مقعبري إلى فرنسا لاتباع دورة ملاحة جوية. تأسيس سلاح البحرية: في النصف الأخير من عام 1948 تم تأسيس القوى البحرية، وقام بالتشكيل الملازم الأول نزار غزال، وكانت عبارة عن مخافر منتشرة على طول الساحل السوري أخذت في بداية الأمر اسم «حرس الشواطئ»، وجرى ربطها بقيادة المنطقة الساحلية في اللاذقية.

أحداث ومجريات القضية الفلسطينية

لجامعة العربية تقرر دخول القوات العربية المسلحة إلى فلسطين: تابعت جامعة الدول العربية بقلق المسار الذي أخذته القضية الفلسطينية في كواليس هيئة الأمم المتحدة، و(لجنة التحقيق) الدولية التي شكلتها (تألفت «لجنة التحقيق» من الدول التالية: السويد، بيرو، أوروغواي، غواتيمالا، هولندا، استراليا، كندا، تشيكوسلوفاكيا، يوغسلافيا، الهند، إيران)، فدعت الدول السبع الأعضاء في الجامعة إلى مؤتمر لبحث الإجراءات الواجب اتخاذها في حال صدور قرار عن الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين وانسحاب القوات البريطانية منها كما تدل التوقعات. وتم عقد المؤتمر في عاليه (لبنان) يوم 7 تشرين الأول عام 1947، بعد تقديم تقرير لجنة التحقيق إلى الجمعية العامة لهيئة الأمم. وبعد أن استعرض مؤتمر عاليه المقترحات التي قدمتها لجنة التحقيق قرر أنها تمس حقوق عرب فلسطين، بل وحقوق الدول العربية المحيطة بها أيضاً، لذا فمن واجب الدول الأعضاء في الجامعة المبادرة لتقديم المساعدات المادية والمعنوية إلى سكان فلسطين العرب لتقويتهم وإعدادهم لمقاومة المخطط الصهيوني، والدفاع عن أنفسهم وممتلكاتهم ووطنهم. وقرر مجلس الجامعة تشكيل لجنة عسكرية برئاسة اللواء إسماعيل صفوت، ومعه نفر من الضباط الآخرين، من سورية ولبنان والأردن والعراق، وأن يكون مقر هذه اللجنة دمشق، وعقدت اللجنة عدة اجتماعات خلال النصف الثاني من شهر تشرين الاول 1947، واقترحت على الحكومات العربية تشكيل قوات عسكرية غير نظامية تقوم بالجهاد إلى جانب العرب الفلسطينيين فوراً، وحشد الجيوش العربية النظامية على حدود فلسطين، وتشكيل قيادة عسكرية موحدة لهذه الجيوش. وفي التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني 1947، صدر قرار الجمعية العامة رقم 181، القاضي بتقسيم فلسطين بأغلبية 33 دولة ضد 14 وامتناع عشر دول عن التصويت بينها صوت بريطانيا القائمة بالانتداب. الدول التي وافقت على تقسيم فلسطين، والدول التي رفضت ذلك

الدول التي أيدت المشروع 1 ـ استراليا 18 ـ هولندة

2 ـ بلجيكيا 19 ـ نيوزيلندة 3 ـ بوليفيا 20 ـ نيكاراغوة 4 ـ برازيل 21 ـ النرويج

5 ـ روسيا البيضاء 22 ـ بانامة 6 ـ كندة 23 ـ بارغواي 7 ـ كوستاريكا 24 ـ بيرو

8 ـ تشيكوسلوفاكيا 25 الفيليبين

9 ـ دومنيك 26 ـ بولندة

10 ـ دانمارك 27 ـ السويد 11 ـ إيكوادور 28 ـ أوكرانية 12 ـ فرنسة 29 ـ اتحاد جنوب إفريقية 13 ـ غواتيمالة 30 ـ روسية 14 ـ هايتي 31 ـ الولايات المتحدة 15 ـ ايسلندة 32 ـ فنزويلا 16 ـ ليبيرية 33 ـ أراغواي 17 ـ لوكسمبورغ الدول التي رفضت المشروع 1 ـ أفغانستان 2 ـ كوبا 3 ـ مصر 4 ـ اليونان 5 ـ الهند 6 ـ إيران 7 ـ العراق

8 ـ لبنان 9 ـ الباكستان 10 ـ المملكة العربية السعودية 11 ـ سورية 12 ـ تركيا 13 ـ اليمن 14 يوغسلافيا الدول التي وقفت على الحياد 1 ـ أرجنتين 2 ـ شيلي 3 ـ الصين 4 ـ كولومبيا 5 ـ سلفادور 6 ـ أثيوبية 7 ـ هندوراس 8 ـ المكسيك 9 ـ سيام (غائبة) 10 ـ بريطانيا ويقضي هذا القرار بتقسيم فلسطين إلى دولتين، ومنطقة توضع تحت الإدارة الدولية، وذلك على النحو التالي: 1) دولة عربية: بمساحة 12 ألف كم2، وتضم قسماً ساحلياً يمتد من أشدود إلى الحدود المصرية، وآخر داخلياً يحوي الجليل الغربي، ومنطقة نابلس الجبلية، ولواء الخليل، وجبل القدس، وغور الأردن الجنوبي، وهي تضم المدن التالية: عكا، الناصرة، نابلس، جنين، طولكرم، قطاع بيت لحم، معظم قطاع اللد والرملة، الخليل، بئر السبع، غزة. 2) دولة يهودية: وتتألف من الجليل الشرقي (صفد، طبريا) ومرج بن عامر، والقسم الأوسط من السهل الساحلي بين حيفا في الشمال وأشدود في الجنوب، والجزء المحاذي للبحر الميت من قطاع الخليل ، والجزء الجنوبي من صحراء النقب.

3) منطقة القدس: وتوضع تحت الوصاية الدولية، حيث تتولى الأمم المتحدة الوصاية عليها لمدة عشر سنوات تعيد بعدها النظر في أمرها، ويطلب من جميع الدول أن تتنازل عن حقها في الامتيازات والحصانات الأجنبية التي كانت تتمتع بها من قبل، وتمتد هذه المنطقة من قرية أبو ديس شرقاً وحتى قرية عين كارم غرباً، ومن قرية شعفاط في الشمال وحتى مدينة بيت لحم في الجنوب. لقد رفض العرب قرار التقسيم لأنه ينتزع منهم جزءاً من أراضيهم، بينما قبله اليهود لأنه يعطيهم حقاً لم يكونوا يملكونه شرعاً! وقد أثار مندوب سورية، فارس الخوري، عدة نقاط قانونية تطعن في صحة هذا القرار ومصداقيته والنتائج التي انتهي إليها: فإذا كان عدد الدول التي وافقت عليه هو33 دولة (من أصل 57) فإن عدد الدول التي رفضت الموافقة عليه أو امتنعت عن التصويت هو 24 دولة تمثل من حيث عدد سكانها ثلثي سكان العالم، بينما الدول التي أقرت التقسيم ـ بالرغم من أغلبيتها العددية لا تمثّل إلا ثلث سكان العالم، ومن جهة ثانية فإنه ليس من صلاحيات هيئة الأمم المتحدة إنشاء الدول الجديدة لأن هذا الحق ملك لسكانها حصراً، خاصة أن الوضع القانوني الدولي لفلسطين كان وضع «الدولة المنتدب عليها UN ETAT SOUS MANDAT» لذا كان من المفروض أن يؤدي الانتداب إلى «الاستقلال» أو إلى «الوضع تحت وصاية الأمم المتحدة» وليس إلى التقسيم! وفي 8 كانون الأول 1947 عقد مجلس جامعة الدول العربية في القاهرة اجتماعاً حضره رؤساء الحكومات العربية السبع الأعضاء في الجامعة (مصر وسورية والعراق ولبنان والأردن والسعودية واليمن)، كما حضره عبد الرحمن عزام، الأمين العام لجامعة الدول العربية، ومندوب عن (الهيئة العربية العليا لشعب فلسطين)، بحثوا فيه القضية الفلسطينية على ضوء القرار الذي أصدرته هيئة الأمم بتقسيم فلسطين وأعلنوا في نتيجته أن التقسيم باطل من أساسه، وأنهم قرروا: 1) اتخاذ التدابير الحازمة الكفيلة بإحباط مشروع التقسيم الظالم، ونصرة حق العرب، ومجابهة كل الاحتمالات الممكنة. 2) تزويد (اللجنة العسكرية) المنبثقة عن اجتماع مجلس جامعة الدول العربية في عاليه، في 7 تشرين الأول 1947، بعشرة آلاف بندقية، مع ذخيرة لا تقل عن خمسمائة خرطوشة لكل بندقية، على أن تقدم ذلك حكومات مصر وسورية والعراق والأردن ولبنان. 3) تزويد (اللجنة العسكرية) بما لا يقل عن 3000 متطوع من الدول المشاركة في الاجتماع، بمعدل 500 متطوع من كل دولة، وأن تتكفل كل دولة بلوازم متطوعيها، وأن يلتحق هؤلاء بالمعسكرات التي تعينها لهم اللجنة، في الأراضي السورية والأردنية، قبل منتصف كانون الثاني 1948. وقد أطلق على قوات المتطوعين هذه اسم (قوات الإنقاذ)، ثم (جيش الإنقاذ) اعتباراً من أول كانون الثاني 1948. وفي أواسط نيسان 1948، ومع اقتراب تاريخ انسحاب القوات البريطانية عن فلسطين كما حددته الحكومة البريطانية وهو 14 أيار 1948 وبعد أن تبين أن قوات (جيش الإنقاذ) ليست كافية للوقوف في وجه العصابات الصهيونية (شتيرن، الهاغاناه، البالماخ، أرغون...) التي تفوقها في العدة والعدد، وأيضاً بسبب تزايد العمل الإرهابي الصهيوني، وعجز القوات المحلية عن الصمود، قررت القيادات السياسية العربية إدخال الجيوش النظامية إلى فلسطين، وعقد مؤتمر في عمان في 23 نيسان 1948، لهذه الغاية، برئاسة عبد الله ملك الأردن، وبحضور الأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق، وعبد الرحمن عزام أمين عام جامعة الدول العربية، وقد مثل سورية رئيس وزرائها جميل مردم بك كما مثل لبنان رئيس وزرائها رياض الصلح. وقد شارك في هذا المؤتمر أغلب وزراء الخارجية والدفاع في البلدان العربية الأعضاء، وانتهى إلى المقررات التالية: 1) أن تشترك جميع الدول الأعضاء بالجامعة في العمليات العسكرية في فلسطين. 2) يتلقى كل جيش عربي التعليمات اللازمة لحصر أعماله في منطقة معينة تحددها « اللجنة العسكرية في دمشق». 3) يشرف على تنسيق العمليات الحربية، التي ستخوضها الجيوش العربية في فلسطين، قيادة عربية عليا موحدة. 4) يُقطع البترول العراقي عن مرفأ حيفا. 5) يُكلف رؤساء أركان الجيوش العربية بتنفيذ الشق العسكري من هذه المقررات. وفي 30 نيسان 1948 عقد رؤساء الأركان العرب اجتماعاً في بلدة (الزرقاء) الأردنية، وبحثوا في حجم القوات الضرورية لتحرير فلسطين فوجدوا أن ذلك يتطلب إعداد ست فرق عسكرية عربية تدعمها ستة أسراب من الطيران الحربي المقاتل، وذلك لخرق الحدود الفلسطينية من جميع الجهات للقيام بعملية التحرير، وأجمعوا على تكليف اللواء نور الدين محمود (العراقي الجنسية) للقيام بمهمة القائد العام للجيوش العربية التي ستدخل فلسطين، ونظراً لعدم توفر القوات المذكورة تم عقد اجتماع ثان لرؤساء الأركان في دمشق، وتم خلاله اعتماد خطة عمليات حربية وعملية قدمّها الزعيم عبد الله عطفة، رئيس الأركان العامة في الجيش السوري، ولكن هذه الخطة تم تبديلها بعد إسناد القيادة العامة الموحدة إلى الملك عبد الله، الذي قرر أن تبدأ الجيوش العربية زحفها في وقت واحد، وأن تعبر الحدود الفلسطينية في مساء 15 أيار 1948، بعد أن يتم انسحاب القوات البريطانية منها في 14 أيار. ب) تأسيس جيش الإنقاذ: نشأت فكرة (جيش الإنقاذ) في الربع الأخير من عام 1947، إثر اجتماع مجلس جامعة الدول العربية في عاليه بناء على اقتراح قدمه بعض الزعماء السياسيين الفلسطينيين (عزة دروزة، معين الماضي، صبحي الخضرا...) إلى شكري القوتلي رئيس الجمهورية السورية، ووضع مؤتمر القاهرة، الذي عُقد أواخر عام 1947، قواعد تمويل قوات هذا الجيش بالسلاح والمال، والعدد الذي يجب أن تقدمه كل دولة من المتطوعين، وعين لقيادة هذا الجيش الفريق طه باشا الهاشمي، تحت تسمية (المفتش العام لجيش الإنقاذ)، يعاونه اللواء الركن إسماعيل صفوت، ومجموعة من الضباط المعاونين، واختارت القيادة ضاحية (قدسيا) قرب دمشق، لكي تكون مركزاً لقيادة الجيش المذكور. وقد اتخذت الحكومة السورية جميع الترتيبات الضرورية للوفاء بالتزاماتها السياسية والعسكرية والمالية لقوات المتطوعين التي شكلت هذا الجيش، وجمعت وزارة الدفاع أكثر من سبعة آلاف بندقية، وعدداً كبيراً من الرشاشات والهاونات والقنابل اليدوية، ومليوني طلقة، من القطعات المتمركزة في دير الزور والجزيرة وحلب ودمشق، وخزنت هذه الأسلحة والمعدات والذخائر، اعتباراً من شهر كانون الأول 1947، في مستودعات المزة قرب دمشق. وفتحت القيادة باب التطوع للعسكريين والمدنيين العرب، وكان أغلب المتطوعين من سورية التي قدمت 2000 من أصل 5000 متطوع، وأتى بعدها المتطوعون الفلسطينيون (1500 متطوع)، ثم من العراق (1000) متطوع، ومن بقية الدول العربية (500 متطوع)، وتمّ تدريب كتائب المتطوعين في معسكرات قطنا السورية (3000 متطوع)، وفي إحدى القواعد العسكرية الأردنية (2000 متطوع)، ثم جرى زجها جميعاً في فلسطين، لكي تعمل إلى جانب المجاهدين الفلسطينيين في الدفاع عن أراضيهم وبيوتهم وقراهم. وفي الشهر الثالث من عام 1948 كانت قوات جيش الإنقاذ تتألف من مجموعتين: مجموعة المنطقة الوسطى: بقيادة العقيد فوزي القاوقجي (من لبنان) وتتألف من سبعة أفواج: 1) فوج اليرموك الأول: قاده المقدم محمد صفا (من سورية) ودخل فلسطين في 22 كانون الثاني 1948، واتخذ مركزاً له في المنطقة الوسطى من فلسطين، ما بين مدينتي جنين وبيسان، وخاض عدة معارك أهمها (معركة الزراعة)، ثم انتقل إلى الجليل في أوائل حزيران 1948، بعد دخول الجيوش العربية النظامية إلى فلسطين. 2) فوج الحسين: قاده الرئيس الأول (الرائد) محمود الهندي (من سورية)، ودخل إلى منطقة المثلث، ولكن ظروفاً معينة حصلت فاستدعت إعفاء قيادته وتوزيع سراياه على الأفواج الأخرى. 3) فوج القادسية: بقيادة المقدم مهدي صالح العاني (من العراق)، دخل فلسطين في شباط 1948، وشارك في معارك (مشمار هاعيميك، باب الواد، والقدس)، ثم أعيد تنظيمه ودمجه بفوج أجنادين. 4) فوج أجنادين: قاده الرئيس ميشيل العيسى (من فلسطين) وقد اشترك في معارك (ترشيحا، يافا، باب الواد)، ثم انتقل إلى الشمال. 5) فوج حطين: قاده الرئيس (النقيب) مدلول عباس (من العراق) ودخل فلسطين في شهر آذار 1948، وتمركز في منطقة طوباس، شاركت سراياه في معارك مشمار هاعيميك والقدس، بداية، ثم انتقل إلى الشمال في أوائل حزيران 1948، حيث تحمل عبء القتال منفرداً في جهات الشجرة والناصرة، وهذا ما عرضه لخسائر فادحة. 6) فوج اليرموك الثالث: قاده الرئيس الأول (الرائد) عبد الحميد الراوي (من العراق) دخل منطقة القدس ورام الله في نيسان 1948، واشترك في معركتي باب الواد والقدس. 7) فوج العراق: قاده المقدم عادل نجم الدين (من العراق) دخل يافا في شهر شباط 1948، وبقي فيها حتى نيسان من العام نفسه. مجموعة المنطقة الشمالية: كان يقودها المقدم أديب الشيشكلي نفسه، ومجال عمله الميداني في المنطقة الشمالية، ودخل هذا الفوج إلى فلسطين عن طريق لبنان في 23 كانون الثاني 1948، وفي شهر شباط من العام نفسه توزعت سراياه على المناطق: • سرية صفد بقيادة الملازم الأول إميل جميعان (أردني). • سرية عكا بقيادة الملازم عدنان مراد (سوري). • سرية المالكية بقيادة الملازم فتحي أتاسي (سوري). • سرية الصفصاف بقيادة الملازم الأول محمد جديد غريب (سوري استشهد). 2) فوج جبل العرب: بقيادة الرئيس الأول (الرائد) شكيب وهاب، وتمركز في منطقة (شفا عمرو) قرب الناصرة. 3) مجموعة المدفعية: مفرزة من قيادة الجيش السوري، وتشمل بطارية بقيادة الرئيس مأمون البيطار، تمركزت بين مرج ابن عامر واللطرون، وكانت تضم فصيلتين، الأولى بقيادة الملازم الأول فائز القصري، والثانية بقيادة الملازم الأول وديع نعمة، وهذا بالإضافة لفصيلة مدفعية ثالثة مستقلة تمركزت في منطقة الجليل. 4) المفارز المستقلة: إلى جانب القوات التي يقودها الشيشكلي وُجدت بعض المفارز المستقلة المرتبطة بهذه القوات تعبوياً وهي: المفرزة العراقية بقيادة الملازم حسين عبد اللطيف، المفرزة الحموية بقيادة الملازم صلاح الشيشكلي ويعاونه الملازم شفيق العبيسي (استشهد)، المفرزة الشركسية بقيادة الملازم جلال برقوق، المفرزة الإدلبية بقيادة الرئيس عبد الغفار، المفرزة الأردنية بقيادة الرئيس ساري فنيش، المفرزة اللبنانية بقيادة الملازم الأول محمد زغيب (استشهد)، والمفرزة الحمصية بقيادة الرئيس حسني الرفاعي، المفرزة البدوية بقيادة الملازم محسن يعيش، المفرزة السورية النظامية بقيادة الملازم عثمان حاجو. وقد أعيد تنظيم قوات الإنقاذ كلها في الشهر السادس من عام 1948، على أساس ألوية تُناط بها مهام تعبوية بالتنسيق مع القوات النظامية (التي دخلت في منتصف أيار)، وأخذت هذه الألوية التسميات التالية: لواء اليرموك الأول بقيادة المقدم محمد صفا (سوري)، لواء اليرموك الثاني بقيادة المقدم أديب الشيشكلي (سوري)، لواء اليرموك الثالث بقيادة المقدم صالح العاني (العراق)، والفوج العلوي بقيادة الرئيس غسان جديد، والقيادة العامة لفوزي القاوقجي. ومن الجدير بالذكر أنه قد اشترك في وحدات جيش الإنقاذ أكثر من أربعين ضابطاً سورياً، وقد استشهد منهم في المعارك التي خاضوها تحت راية هذا الجيش خمسة ضباط نظاميين من خريجي الكلية العسكرية في حمص، وفي مقدمتهم الرئيس الشهيد مأمون البيطار الذي ترك وظيفته كرئيس للشعبة الأولى في الأركان العامة لكي يتطوع في جيش الإنقاذ ويستشهد في رُبى فلسطين. الضباط السوريين الذين انخرطوا في جيش الإنقاذ مع المقدم أديب الشيشكلي

  • الملازم الأول محمد فائز القصري
  • الملازم الأول عبد الغفور حميدان
  • الملازم وديع نعمة
  • الملازم عبد الحميد السراج
  • الملازم عدنان مراد
  • الملازم عثمان حاجو
  • الملازم الأول صلاح الشيشكلي
  • الملازم جاسم علون
  • الملازم محمد كامل رضا
  • الملازم سعيد رمضان
  • الملازم هشام العظم

مع العقيد فوزي القاوقجي

المقدم محمد صفا

الملازم الأول غسان جديد

الملازم الأول عفيف البزرة

الملازم الأول حسن مهنا (جرح في المعركة)

الملازم علي ماجد

الملازم سليمان الحلو

الملازم جودت الأتاسي

الملازم جمال الصوفي

الملازم أكرم الديري

الملازم رشيد الملوحي

الضباط الشهداء

فتحي الأتاسي الرئيس مأمون البيطار إحسان كم ألماز الملازم الأول فايز حديفي محمد جديد غريب

شفيق العبيسي

تطوع من الأطباء الدكاترة

أمين رويحة عبد السلام العجيلي فيصل الركبي أحمد السواح وهيب الغانم سعيد السيد درويش

وكانت قيادة العقيد فوزي القاوقجي للجانب الأكبر من قوات هذا الجيش في المنطقة الوسطى قيادة بارعة وحكيمة، في الوقت نفسه، امتزجت فيها خبراته السابقة كضابط سابق في القطعات الخاصة، وقتال العصابات أثناء اشتراكه في الثورة السورية 1925/1926، وفي الثورة الفلسطينية عام 1936، فكافأته القيادة السورية على إخلاصه وشجاعته بوسام الإستحقاق السوري(المرسوم رقم 2091 في 16/9/1948، المنشور في الجريدة الرسمية لعام 1948 ـ ص1915).وبشكل عام لا يمكن الحكم على (جيش الإنقاذ) كجيش نظامي كامل يشبه في تشكيله وتنظيمه الجيوش الأخرى، ويمكن الاستدلال من «الموسوعة العسكرية» على تقييم لهذا الجيش وإنجازاته: «لقد افتقرت قوات جيش الإنقاذ إلى الكوادر العسكرية والتنظيمية والإدارية، فلم يتوفر نصف الحد الأدنى المطلوب من الضباط، فمثلاً لم يتواجد في الفوج الواحد أكثر من أربعة إلى خمسة ضباط، وكذلك فقد انعدم وجود الوعي السياسي في هذه القوات ـ رغم تمتعها بالحماسة السياسية ـ مما أفقدها شرطاً أساسياً من شروط الانتصار. وكان واضحاً تدني مستوى التدريب والانضباط والانسجام داخل الوحدات، وقد وصل بعض المتطوعين إلى ميادين القتال دون أي تدريب وربما يكون الإسراع في تشكيل الجيش هو العامل الأساسي الذي لم يمنح قيادته فرصة لتدريب المتطوعين التدريب الكافي».

ورغم هذه الثغرات يمكن القول إن جيش الإنقاذ خاض عدداً من المعارك المشرفة في المنطقتين الوسطى (بقيادة فوزي القاوقجي)، والشمالية (بقيادة أديب الشيشكلي)، وخاصة في مواقع: الزراعة، مشمارها عيميك، نيفي يعقوب، باب الواد، القسطل بقيادة (عبد القادر الحسيني) القدس، حيفا، يافا، المطلة، المنارة، جدّين، الهراوي، المالكية، النبي يوشع، الشجرة، رامات يوحانان، طبريا، صفد، عكا... وبعد سقوط منطقة الجليل بيد الصهيونيين انتقلت قوات جيش الإنقاذ إلى جنوب لبنان، وفي أواخر شهر آذار 1949 تم نقلها إلى سورية حيث سميت عندئذ «قوات اليرموك» وأسندت لها مهام دفاعية على الحدود السورية - الفلسطينية بقيادة العقيد أنور بنود (من الجيش السوري). وبعد أن بدأت الدول العربية بتوقيع اتفاقات الهدنة مع إسرائيل، صدرت الأوامر من المفتشية العامة لقوات الإنقاذ، أوائل شهر أيار 1949 بحل جيش الإنقاذ وتسريح ما بقي من أفراده وإنهاء مهمته، وحدث هذا بعد مضي عشرين شهراً من الجهاد الذي خاضه هذا الجيش في عموم أنحاء فلسطين. جـ) خطة القيادة العربية الموحدة: في شهر نيسان 1948 تم تشكيل قيادة عسكرية عامة موحدة اتخذت لنفسها مقراً في مدينة (الزرقاء) الأردنية، وتم إسنادها إلى اللواء الركن نور الدين محمود كما سبق التنويه، وقد وضعت هذه القيادة خطة عسكرية لدخول الجيوش العربية إلى فلسطين لإنقاذها من القوات الصهيونية وتتمثل هذه الخطة بالنقاط التالية: • «تندفع قطعات الجيشين السوري واللبناني من شمالي فلسطين على الطريق الساحلي، بهدف قطع المواصلات اليهودية بين الساحل والداخل في منطقة الجليل وحيفا ومنع الإمداد البحري الخارجي من الوصول إلى فلسطين، وعزل الحولة وطبريا عن الساحل، والسيطرة على الجليل الأعلى، ولاسيما صفد، ثم الانعطاف باتجاه الناصرة للالتقاء بالجيشين العراقي والأردني. • يتقدم الجيشان العراقي والأردني من وادي الأردن ويتجهان نحو الساحل للاستيلاء على بيسان والناصرة ثم الاندفاع نحو ناتانيا، والاتصال هناك بالجيشين السوري واللبناني. • يتحرك الجيش المصري من سيناء وغزة على الطريق الساحلي للوصول إلى تل أبيب». غير أنه لم يؤخذ بهذه الخطة واستبدلت بغيرها بعد أن استلم الملك عبد الله القيادة العليا للقوات العربية الموحدة (مع الاحتفاظ باللواء نور الدين محمود قائداً ميدانياً لهذه القوات). ونصّت الخطة الجديدة على أن تدخل الجيوش فلسطين جميعاً في وقت واحد، في مساء 15 أيار 1948، عشية انسحاب القوات البريطانية منها بحيث: 1) يسير الجيش اللبناني مرافقاً بقوات من سلاح البادية السوري، على الساحل الشمالي الفلسطيني، من الناقورة باتجاه عكا. 2) يعبر الجيش السوري منطقة الحولة من مرتفعات بانياس وجسر بنات يعقوب باتجاه صفد ثم الناصرة. 3) تكون منطقة عمل الجيش العراقي على يسار الجيش السوري وعليه أن يتخطّى وادي الأردن نحو بيسان والعفولة. 4) يرابط الجيش الأردني في منطقة القدس وباب الواد وعليه الاتصال مع القوات المصرية في منطقة الخليل. 5) ينطلق الجيش المصري من رفح والعوجا نحو غزة والطريق الساحلي بحيث يعزل النقب. 6) وأخيراً عندما تتجمع القطعات السورية والعراقية في اتجاه العفولة تندفع نحو الساحل لتشطر فلسطين في موقع على ساحل المتوسط، قريباً من مستعمرة ناتانيا. وهذه الخطة الجديدة تعرضت بدورها إلى تعديلات جوهرية مفاجئة أحياناً، وذلك على ضوء العوائق الميدانية واللوجستية التي اصطدمت بها. معروف عسكرياً أن على أي جيش في العالم، لو شاء خوض حرب هجومية، أن يستعد لها استعداداً كافياً، ولكي تكون المعركة الهجومية الواحدة مضمونة الظفر يجب أن تكون القوة العددية والتسليحية والنارية للمهاجم بمعدل ضعفين إلى ثلاثة أضعاف قوة المدافع، ومع أن هذا لم يتحقق بالنسبة للجيش السوري خلال معاركه في فلسطين فإن هذا الجيش قد حارب وحقق انتصارات عديدة هناك.

دور الجيش السوري في حرب فلسطين

الإجراءات التشريعية التي اتخذتها سورية استعداداً للمعركة: بمجرد أن أصبح دخول الجيوش العربية، ومنها الجيش السوري، إلى فلسطين وشيكاً، عمدت الحكومة السورية إلى استصدار خمسة قوانين من المجلس النيابي في 15/5/1948، تؤمن لوازم الحرب وتُسهل قيادة العمليات وإدارتها، وهذه القوانين هي: 1) القانون رقم 400 المتعلق بنظام الأحكام العرفية في أراضي الجمهورية السورية، وتعيين السلطات التي تأمر بهذه الأحكام وتنفذها. 2) القانون رقم 401، ويقضي بإعلان الأحكام العرفية في الأراضي السورية لمدة ستة أشهر من تاريخ 15/5/1948 . 3) القانون رقم 402، ويقضي بفتح اعتماد إضافي في موازنة وزارة الدفاع الوطني باسم (النفقات المختلفة الطارئة بسبب الأعمال الحربية والحركات العسكرية). 4) القانون رقم 403 ويقضي بإضافة 5700000 ليرة سورية إلى اعتمادات وزارة الدفاع وتحديد مصادر تأمين هذا المبلغ. 5) القانون 405، ويقضي بمنح معاشات تقاعدية لعائلات العسكريين الذين يستشهدون في العمليات الحربية بمعدل 75% من راتب الدرجة العليا للمرتبة الأعلى، وبالترفيعات الاستثنائية والضمائم الحربية. وقد سبق للحكومة السورية أن استصدرت القانون رقم 256، في 15 كانون الأول 1947، الذي فرض خدمة العلم الإلزامية كما سبق التنويه، وتم تطبيق هذه الخدمة بالفعل في أول شهر آذار 1948 على مواليد عام 1929. وقد عززت الحكومة هذا القانون بجملة تدابير أخرى أهمها وقف التسريحات من الجيش، ودعوة نفر من المسرحين إلى الخدمة. وقد تمكنت القيادة بفضل هذه الترتيبات من تشكيل ثلاثة أفواج إضافية من المشاة (الفوج الثامن، والفوج التاسع، والفوج الحادي والأربعين)، وفوجاً إضافياً من المدفعية (فوج المدفعية الثالث). وبناء على القانونين رقم 400 و401 المشار إليهما أعلاه أصدر الحاكم العسكري ـ وهو رئيس مجلس الوزراء، في 17/5/1948 ثلاث قرارات عرفية: القرار رقم1 يمنع الطيران فوق الأراضي السورية ليلاً على جميع الطائرات الأجنبية، والقرار رقم3 يحظّر اقتراب السفن والزوارق الأجنبية من شواطئ ومرافئ البلاد، والقرار رقم 9 بإعلان (حالة الحصار البحري) في مياه فلسطين، ثم أصدر الحاكم العسكري القرار العرفي رقم 15 في 22/5/1948، منع بموجبه التجول في منطقة العمليات الحربية بعمق عشرة كيلومترات. الاستعدادات العسكرية السورية: حينما أصبحت الحرب في فلسطين أمراً محتوماً اختارت القيادة السورية أفضل لواء من الألوية الثلاثة التي يمتلكها الجيش السوري، من حيث التدريب والتسليح والتنظيم، وهو «لواء المشاة الأول» بقيادة العقيد عبد الوهاب الحكيم، ووضعته تحت تصرف (اللجنة العسكرية العليا) في قدسيا لكي تدخل به الحرب، بينما احتفظت الأركان العامة السورية بقيادة بقية قطعات الجيش السوري. وكان لواء المشاة الأول يضم الوحدات التالية: • فوج المشاة الأول بقيادة المقدم بشير الحواصل ويشمل ثلاثة سرايا مشاة وسرية قيادة. • فوج المشاة الثاني بقيادة المقدم حسن غنام ويشمل ـ كالفوج الأول ـ ثلاثة سرايا مشاة وسرية قيادة. • كتيبة مدفعية تتضمن ثلاث بطاريات من عيار 75مم. • كتيبة مدرعات تتضمن سريتي مصفحات مارمون (15 مصفحة) وسرية دبابات رينو37 (10دبابات) بقيادة الرئيس صبحي عبارة. • مفرزة مخابرات (إشارة). • فصيلة إنشاءات (هندسة عسكرية) بقياد سليمان ناجي. • سرية قيادة وخدمات إدارية وطبية. وكان مجموع عدد أفراد اللواء، في بداية شهر نيسان 1948 (1811) ضابطاً وجندياً، مع وحدة نارية واحدة للمشاة و100 قنبلة لكل مدفع. وفي منتصف شهر نيسان استدعى وزير الدفاع السوري أحمد الشراباتي، قائد اللواء، العقيد عبد الوهاب الحكيم، بحضور المفتش العام لقوات الإنقاذ طه باشا الهاشمي، وأعلمه بانه سيكون قائد (الرتل السوري) الذي سيحارب في فلسطين ضمن إطار (القوات العربية المشتركة)، وطلب منه تهيئة لوائه للقيام بهذه المهمة بأسرع وقت ممكن، وقد طلب آمر اللواء عندئذ من الوزير إعطاءه مهلة شهر لاستكمال أفواج المشاة وتدعيمها بأسلحة مرافقة جديدة، بدلاً من مدافع الهاون 60 و81 مم التي جرى سحبها من وحدات اللواء لتزويد قوات جيش الإنقاذ بها، ونظراً لتسارع الأحداث في فلسطين لم يكن بوسع الوزير إعطاء مهلة أكثر من أسبوعين، وقد استدعى الوزير رئيس الأركان العامة الزعيم عبد الله عطفة، وطلب منه أن يعمل كل ما بوسعه لتدارك النواقص في هذا اللواء، وهذا ما قام بعمله ضمن الإمكانيات الموضوعة تحت تصرفه. وفي صباح 21 نيسان 1948 أبلغ وزير الدفاع قائد اللواء (الرتل السوري) بأنه قد تقرر دخول الجيوش العربية إلى فلسطين في الساعة الواحدة من صباح 15 أيار 1948، وكان قائد اللواء يبغي منحه مهلة إضافية لتهيئة اللواء لخوض المعركة وهو أمر لم يكن بإمكان وزير الدفاع تلبيته نظراً لأن هذا التاريخ قد أقره الملوك والرؤساء العرب جميعاً. وبالفعل تلقى آمر اللواء في مساء اليوم نفسه (21 نيسان) برقية من اللواء اسماعيل صفوت، قائد جيش الإنقاذ، الذي وضع الرتل السوري تحت قيادته، جاء فيها: «إلى قائد الرتل السوري، هيئوا لواءكم لدخول فلسطين من صفد بتاريخ 15 أيار 1948، الساعة الواحدة» وقد أصدرت القيادة العامة السورية (رئاسة الأركان) بتاريخ 23 نيسان، أمر حركة موجهاً إلى لواء البادية لتحريك سراياه الثلاث، المتمركزة في الضمير وتدمر ودير الزور، إلى دمشق ومنها إلى جنوب لبنان، ووضعها تحت تصرف الجيش اللبناني وقوات الإنقاذ، من أجل القيام بالعمليات في المنطقة الحدودية اللبنانية. وفي 6 أيار استدعى اللواء صفوت العقيد عبد الوهاب الحكيم إلى مقر القيادة العامة لجيش الإنقاذ في بلدة قدسيا، وسلمه الأمر رقم 1/سري الذي يحمل تاريخ 2 أيار 1948، وكان في الصيغة التالية: [إلى آمر الرتل السوري: يتهيأ رتلكم للحركة إلى هدفه على طريق دمشق - صور - بنت جبيل - المالكية - منطقة صفد. أكملوا جميع نواقصكم وكونوا مستعدين للحركة عند صدور الأمر خلال ثلاثة أيام من تاريخه. وتثبيتاً لهذا الأمر تلقى قائد الرتل (قائد اللواء الأول في الجيش السوري) كتاباً من الأركان العامة السورية تحت رقم 341/3 سري تاريخ 2/5/1948، بوضع اللواء تحت تصرف قيادة قوات جيش الإنقاذ. وفي 12/5 وصل إلى اللواء الأمر بالتحرك إلى جنوب لبنان للتمركز على قاعدة الانطلاق المحددة له هناك، وذلك للتقدم إلى داخل فلسطين، على محور بنت جبيل - المالكية - صفد حسب الأوامر المتفق عليها، وتنفيذاً لذلك أصدر آمر اللواء أمر الحركة التالي لانتقال قطعات اللواء والوحدات الملحقة بها إلى قاعدة الانطلاق المحددة.

الجيش السوري رقم1/3س اللواء الأول تاريخ 12/5/1948

[أمر حركة]

الغاية: حشد قطعات اللواء في منطقة جنوب لبنان قبل 14/5/1948. الحركة: يتحرك الرتل الآلي المؤلف من فوج المدفعية وفوج المدرعات، ما عدا نصف سرية دبابات، بقيادة معاون آمر اللواء، عن طريق بيروت ـ صيدا ـ بنت جبيل، حيث يصل بعد ظهر اليوم نفسه إلى قاعدة الانطلاق. يوم 13/5/1948

  1. ) الساعة السادسة: انطلاق فوج المدفعية.
  2. ) الساعة الثامنة: انطلاق فوج المدرعات.

يوم 14/5/1948: يتحرك الرتل المؤلف من فوجي مشاة وسرية المقر، بقيادة آمر اللواء، وذلك بالسيارات المدنية المصادرة، حيث يصل الرتل منطقة الانطلاق بعد ظهر اليوم نفسه.

  1. ) الساعة الخامسة: فوج المشاة الأول.
  2. ) الساعة السابعة: فوج المشاة الثاني.
  3. ) الساعة التاسعة: مركز التموين الأمامي.

التمركز: 1) فوج المدرعات: مفرق النبطية - صور في 13/5/1948، ثم في عين إبل نهار 14/5/1948. 2) فوج المدفعية: مفرق طريق مرجعيون ـ بيروت في 13/5/1948 ثم عيترون نهار 14/5/1948. 3) فوج المشاة الأول: قرية بليدا. 4) فوج المشاة الثاني: قرية بنت جبيل. 5) مركز التموين الأمامي: بنت جبيل. يجتمع قادة الوحدات يوم 14/5/1948، الساعة 13.00 في عيترون. التوقيع آمر الرتل العقيد عبد الوهاب الحكيم

وقد نفذت القطعات الآلية والمدفعية للواء الأول، الذي يشكل الرتل السوري في القوات العربية المشتركة، الأوامر التي تلقتها بشكل تام، وضمن الأوقات المحددة لها في «أمر الحركة»، ولكنها عند وصولها إلى قاعدة انطلاقها في جنوب لبنان في الساعة الثانية من صباح يوم 14/5/1948، تلقى قائد الرتل السوري رسالة من وزير الدفاع تفيد بأن الملك عبد الله قد استلم قيادة القوات العربية جميعاً، وبأن الأوامر صدرت عنه في عمان بوجوب دخول الجيش السوري إلى فلسطين عن طريق محور فيق - كفر حارب - سمخ – صفد، بدلاً من محور بنت جبيل - المالكية صفد، وأن عليه أن يوقف حركته الأولى وأن يتوجه بسرعة إلى فيق. فاضطر قائد الرتل لإصدار أمر حركة جديد، بتاريخ 14/5/1948، يُعاكس أمر الحركة الأول في 12/5/1948: «[أمر حركة رقم 2/3 ش تاريخ 14/5/1948 الغاية: تحشيد قطعات اللواء في منطقة فيق - كفر حارب. التمركز:

  1. ) فوج المشاة الأول: عين الفقيه وضواحيها.
  2. ) فوج المشاة الثاني: كفر حارب.

المسلك: معسكرات قطنا - القنيطرة - طريق الشيخ مسكين - فيق.

  1. ) فوج المدرعات: فيق.

المسلك: طريق النبطية ـ مرجعيون ـ بانياس ـ القنيطرة ـ فيق. مركز التموين: القنيطرة. مقر قيادة الرتل السوري: القنيطرة اعتباراً من الساعة 14 من يوم 14/5/1948 ، ويجب أن تكون القطعات جميعاً في مراكزها قبل الساعة 15.00 آمر الرتل». ولكن القطعات لم يبدأ وصولها إلا ابتداءاً من الساعة 19.00 من اليوم نفسه، وفي الساعة الخامسة والنصف من مساء 14/5/1948 تلقى قائد الرتل السوري من القيادة العامة في عمان أمراً يقضي بتنفيذ المهمة التالية: أولاً) الاحتشاد: في فيق. ثانياً)التقدم على ممر فيق - كفر حارب - الحمة - سمخ لإنشاء رأس جسر على نهر الأردن هناك. وعندئذ سارع آمر اللواء مع قادة وحداته الموجودين معه ذلك الوقت (قادة وحدات المشاة) لاستطلاع المنطقة المشرفة على المرتفعات المطلة على سهل سمخ، وكان ذلك عند آخر ضوء من يوم 14/5/1948. وأعطى قائد الرتل الأوامر إلى قادة وحدات المشاة بالتمركز على تلك المرتفعات والهضاب، والانطلاق منها إلى الأراضي الفلسطينية، في تمام الساعة الواحدة من صباح 15/5/1948، وعيّن مركز قيادة الرتل في موقع (مزرعة عز الدين)، إلا أنه لم يتم احتلال أمكنة الانطلاق إلا بعد عدة ساعات، وتأخر وصول وحدات الدبابات 24 ساعة عن ذلك، لأن بعض دبابات الرتل من طراز رينو 37، بعد أن اجتازت مرجعيون ووصلت إلى بانياس، تعطلت مقابل موقع تل القاضي الذي يحتله اليهود، واقتضى إصلاحها وقتاً طويلاً وهكذا زج الرتل السوري، بتاريخ 15/5/1948، في منطقة ضيقة تشبه عنق الزجاجة، لا يعرف عنها شيئاً، ودون أن يتلقى أي دعم من وحداته المدرعة، وكان هذا سبباً في إضعاف فعاليته. العمليات الحربية في القطاع الجنوبي (احتلال سمخ): في الساعة الرابعة من صباح السبت 15/5/1948 اجتازت سرايا الفوج الأول، بقيادة المقدم بشير الحواصلي، المرتفعات المُطلة على سهل سمخ، وانحدرت نحوه، بدون مساندة المدفعية أو المدرعات، التي لم يكن قد تكامل وصولها بعد إلى منطقة العمليات، وفي الساعة الخامسة والنصف من صباح اليوم نفسه استولى الفوج على مستعمرة ها أون (السمرة) التي تقع على الضفة الشرقية لبحيرة طبرية.

كما احتل الهضبة الواقعة إلى جنوب هذه المستعمرة، وهي هضبة بطول يقارب 900م، تعرف في المصادر العربية باسم (تل ناقص 98)، وفي المصادر الإسرائيلية باسم (تل كاتسير)، وفي الساعة 7.30 صباحاً كانت أول وحدات المدفعية السورية قد وصلت إلى مربضها في (مزرعة عز الدين)، وبدأت بقصف بلدة (سمخ) وما جاورها، وهذا ساعد وحدات الفوج الأول (على احتلال موقع الكرنتينا) إلى الجنوب الغربي من (تل ناقص 98) ثم احتلال المعسكر (الكامب) الواقع على بعد حوالي 500 م شرقي بلدة سمخ. عمليات يوم الأحد في 16/5/1948: في يوم الأحد 16/5/1948 رأى قائد الرتل أن يُدخل الفوج الثاني بقيادة المقدم حسن غنام، في المعركة لإراحة عناصر الفوج الأول الذي نفذ عمليات اليوم السابق (15/5) فأوعز إلى قائد الفوج الثاني بالتقدم لاحتلال بلدة سمخ، مدعوماً بسرية مصفحات، بينما تم تكليف الفوج الأول بحماية تقدمه، وفي ظهر هذا اليوم أتى إلى الجبهة السيد رئيس الجمهورية، ورئيس الوزراء، والمفتش العام لقوات جيش الإنقاذ طه باشا الهاشمي، وعقدوا اجتماعاً مع قائد الرتل السوري، حيث أشار المفتش العام على قائد الرتل بأن يقوم أولاً باحتلال مستعمرة « شعار هاجولان » حتى يسهل عليه احتلال سمخ بعدئذ، وقد تمسك قائد الرتل برأيه في وجوب احتلال سمخ أولاً لحماية ميمنته من جهة، ولأنها الطريق الوحيد لوصول النجدات والمؤن إلى المنطقة من جهة ثانية،

وقد انقضى هذا اليوم دون أن تتمكن الوحدة السورية من مهاجمة (الفوج الثاني في اللواء الأول) من احتلال سمخ بسبب قوة تحصينها. عمليات يوم الإثنين في 17 أيار: قضى الرتل السوري هذا اليوم في عملية استطلاع لمنطقة الهجوم على سمخ، لتجنب الأخطاء ما أمكن، وخاصة من حيث التعاون والتنسيق في الحركة والنار مع المدرعات، لتعذر الاتصال بين وحدات المشاة والمدرعات لاسلكياً، وطلب قائد الرتل تدخل الطيران السوري لقصف سمخ تمهيداً للهجوم عليها في اليوم التالي فقام سرب سورية بطلعة قصف، كما قام الطيران العراقي بطلعة أخرى بطلب من ضابط الارتباط العراقي الذي كان يرافق الرتل السوري. احتلال سمخ يوم الثلاثاء 18/5/1948: بدأ الرتل السوري الهجوم على سمخ في الساعة الرابعة من صباح هذا اليوم بواسطة الوحدات التالية:

  1. ) الفوج الثاني بقيادة المقدم حسن غنام.
  2. ) الفوج الأول بقيادة المقدم بشير حواصلي.
  3. ) فوج المدرعات، ويحوي سريتي مصفحات (15 مصفحة)، وسرية دبابات (10 دبابات) بقيادة الرئيس صبحي عبارة، وقد اشتركت جميعها في الهجوم .
  4. ) مفرزتا مغاوير من كتيبة الفرسان الشركس المتمركزة في القنيطرة.
  5. ) فصيلة هندسة بقيادة الملازم الأول سليمان ناجي، وقد دعمت وحدات المدفعية من مربضها في (مزرعة عز الدين) وحدات الهجوم بالرمايات التمهيدية أولاً، ثم برمايات الإيقاف لمنع وصول النجدات، وكانت الوحدات المذكورة بقيادة المقدم عزيز عبد الكريم، ويعاونه النقيب علاء الدين ستاسيس كقائد بطارية، والملازم الأول فيليب صوايا كراصد مدفعية.

وتم توزيع المهام على الوحدات المشتركة في الهجوم كما يلي: 1) تقوم المدفعية بقصف مواقع العدو في سمخ قبل بدء الهجوم بعشر دقائق. 2) يقوم الفوج الثاني ومفرزتا المغاوير بالهجوم الرئيسي على سمخ في الساعة الرابعة من صباح 18/5/1948، وذلك باقتحام البلدة من جهة الشمال. 3) يتقدم الفوج الأول للاستيلاء على سمخ من جهة الجنوب، بما فيها الحدود الغربية، ويدعمه في ذلك قاعدة نارية تقدمها له الدبابات والمصفحات، ويستهدف الهجوم تطويق محطة القطار، والطرف الآخر من مخرج سمخ الغربي. 4) بعد وصول الفوج الأول إلى هدفه تتقدم مفرزة المغاوير، ثم فوج المشاة الثاني لتطهير القسم الشمالي من سمخ، والاتصال بالفوج الأول في مخرج البلدة الغربي، ثم الاستيلاء على (مخفر البوليس فيها). 5) تتمركز القطعات المُهاجمة دفاعياً في المناطق التي احتلتها بعد تنفيذ مهامها، وتقوم بعملية تحصين (تعزيز) مواقعها لصد أي هجوم معاكس قد يقوم به العدو ليلاً أو نهاراً، وقد أرسل قائد الرتل صورة من أمر الهجوم هذا إلى قيادة الرتل العراقي، المتمركز إلى يساره في (جسر المجامع)، وذلك عن طريق ضابط الارتباط. تنفيذ خطة الهجوم: في الساعة الرابعة من صباح 18 أيار 1948 بدأ الهجوم السوري على سمخ بقصف مدفعي دام عشر دقائق ثم تقدمت المصفحات والدبابات ووراءها المشاة باتجاه البلدة، وأعقبها فوج المشاة الأول الذي استدار إلى جنوب سمخ لتطويقها، أما الفوج الثاني فقد تقدم لاحتلال الجزء الشمالي من البلدة، والشارع الرئيسي فيها، الذي كان شديد التحصين بما أقامه الصهاينة فيه من العوائق والحواجز، وفي هذا الوقت قامت الطائرات السورية من طراز هارفارد بقصف مؤخرة العدو ومنع وصول النجدات إليه، وشاركت في مهمة القصف هذه المدفعية السورية، التي قصفت الطرقات المؤدية من مستعمرات دكانيا - آ و دكانيا - ب، وفيكيم إلى سمخ، لكي تمنع تقدم النجدات إلى هذه البلدة، وفي الساعة الخامسة والنصف من صباح 18/5 وصل الفوجان الأول والثاني إلى أهدافهما، وتم احتلال (مخفر البوليس) الشديد التحصين، في طرف البلدة وذلك بفضل قذائف مصفحات المارمون التي كانت تخترق أشد الجدران الإسمنتية تحصيناً وتنفذ منها، وفي الساعة السادسة صباحاً، ومع وصول المهاجمين إلى مفترق الطرق الواقع جنوبي سمخ بدأت القوات الصهيونية بالانسحاب من البلدة قبل أن يتم إحكام الطوق عليها حسب الخطة المرسومة، ودخلت القوات السورية سمخ في الساعة الثامنة من صباح يوم الثلاثاء 18 أيار 1948، وبدأت بتعزيز مواقعها لصد الهجمات المعاكسة المحتملة، وكانت خسائر العدو في هذه المعركة 113 قتيلاً، بينهم قائد القوة المدافعة، وقائد وحدة من الهاغاناه جاءت لنجدة الموقع أثناء المعركة، و10 أسرى (مقابل 6 شهداء و11 جريحاً من القوات السورية المهاجمة)، كما غنمت القوات السورية عدداً من المصفحات والهاونات والقذائف الصاروخية المضادة للدرع (بازوكا) وعشرات الرشاشات (62)، وعند الظهر تم إرسال مفرزة من الشرطة العسكرية السورية إلى بلدة سمخ لتأمين الانضباط. احتلال سمخ وشعار هاجولان حسب الرواية الرسمية لجيش العدو: يقول سجل الوقائع اليومية لجيش العدو في هذا السياق: «بدأ السوريون غزو البلد عبر سهل الأردن (عيمق هايردن) ففي مساء 15 أيار شوهدت آليات مضاءة تتحرك من قرية حاريب (كفر حارب) على امتداد سفوح الجولان، وفي الساعة الواحدة من اليوم نفسه بدأ السوريون بقصف عين غيف بالمدفعية ومدافع الهاون، وفي الصباح ظهرت الطائرات وقصفت مستعمرات السهل، وبدأت المدفعية بقصف شعار هاجولان وميسادا، وانحدرت سريتان سوريتان من تل القصر (تل ناقص 98)، الذي تم الاستيلاء عليه خلال الليل، وتقدم رجالهما منتشرين ومنتصبي القامة تحت غطاء من المدفعية والآليات، في اتجاه معسكر الجيش في سمخ ومعسكر الكرنتينا الجديد، وانسحبت وحدة قوة الحراسة التي كانت في الكرنتينا بفعل ضغط السوريين، وتضعضع نظام وحدات قوة الحراسة في سمخ، ونشأ وضع خطر، لأن سقوط سمخ من دون معركة كان معناه هجوماً على مستعمرتي دكانيا (أ) و دكانيا (ب) قبل أن تستعدا كما ينبغي، وعند سقوط معسكر الجيش والكرنتينا الجديد في سمخ، استدعيت على الفور إلى المكان فصيلتا الكتيبة اللتان كانتا جاهزتين في طبرية، ووصلت القوة إلى سمخ بعد عشرين دقيقة، وبدأت تنظم نفسها للدفاع، وتمركز السوريون قبالتها في المعسكر والكرنتينا، وأصبح نظام الدفاع عن سمخ الممتد على طول كيلو متر واحد من شاطئ طبرية نحو الجنوب محمياً بثلاث فصائل تابعة للكتيبة، وتعزيزات من رجال المستعمرات من جميع أنحاء السهل، ونجح في إيقاف السوريين الذين تقدموا من المعسكر الحربي (الكامب)، وفي الوقت نفسه تحركت سرية أخرى من تل الدوير نحو مؤسسة المياه على نهر اليرموك، وكانت المؤسسة بمثابة موقع متقدم للدفاع، عن ميسادا وشعار هاجولان، وقد تم تقدم السرية تحت غطاء من نيران المصفحات والمدفعية التي قصفت المستعمرتين وقتل جميع الأشخاص في الموقع باستثناء واحد، واستمرت المصفحات وقوات المشاة في التقدم باتجاه شعار هاجولان، ولكن رجال المستعمرة وفصائل نجدة مزودة بمدافع من عيار 20 مم تمكنوا من الوصول بسرعة إلى المستعمرة ونجحوا في صد المهاجمين، ومنذ تلك اللحظة حتى التخلي عن المستعمرتين لم يحاول السوريون الهجوم في هذا الاتجاه مرة أخرى. واكتفى السوريون مؤقتاً بالقصف، وبإجراء مناورات بالمصفحات وبالإغارة من الجو على مستعمرات السهل كافة، وأعادوا تنظيم قواتهم، وأتاحت هذه المهلة لقيادة الكتيبة فرصة إعادة تنظيم الدفاع عن سمخ نفسها وفي ظل القصف حفر الرجال الخنادق وحصنوا المواقع داخل المباني، وأقاموا حواجز على الطرق وما شابه ذلك، وفي الليل جرت في بحيرة طبرية مناورة تضليل قامت بها الزوارق التي أطلقت النار على الشاطئ زيادة في تضليل العدو (السوريين) وتشويش خططه. وفي اليوم التالي 17 من الشهر، حاول السوريون مرة أخرى مهاجمة سمخ بمساندة المصفحات وبتغطية من المدفعية، إلا أنه تم إيقاف الهجوم، وساعدت المدافع من عيار 20 مم كثيراً في إيقاف الهجوم، ولكن العدو واصل القصف وفي الليل وصل خبر من الطابغة مفاده أن وحدة سورية كانت ستجتاز مخاضة الأردن، شمالي طبرية، اصطدمت بحقل ألغام، وانسحبت بعد أن تكبدت عدداً من الجرحى بينهم ضابط سوري برتبة عالية (.... ). إن الوقت الثمين الذي اكتسب بالاحتفاظ بسمخ أتاح مايلي: 1) المزيد من تنظيم الدفاع عن المستعمرات. 2) إعداد خط الدفاع عن مستعمرتي دكانيا ودكانيا (ب). 3) إجلاء الأطفال والمرضى والشيوخ من مستعمرات السهل، وقد أبحرت (في مياه طبرية) قوافل الإجلاء تحت قصف المدافع والطائرات، ولم يطل الانتظار، ففي فجر 18 أيار بدأت المدفعية (السورية) بقصف سمخ وشعار هاجولان قصفاً متزايداً مع مرور الوقت، وفي الوقت نفسه انتشرت على شكل قوس واسعة 13 آلية مدرعة، بينها دبابات من طراز رينو، وبدأت تتقدم باتجاه سمخ، ولم تشترك قوات المشاة السورية هذه المرة في الهجوم، وإنما انتظرت عن بعد، وهدم القصف بيوت سمخ اللبنية (الطينية) التي كان يختبئ فيها المقاتلون، ولم تكن الخنادق عميقة فيما فيه الكفاية كانت حفراً لإطلاق النار من دون ساتر للرأس، وجرح أشخاص كثيرون بينهم عدد من القادة، وتقدمت المدرعات وهي تقصف المواقع وأصيب أحد المدافع من عيار 20 مم، التي كانت تستخدم ضد المدرعات فتعطل، وقد حسمت حركة المدرعات هذه، التي هدفت إلى تطويق سمخ من الجنوب، وهددت بقطع طريق الانسحاب على المدافعين من المعركة واضطر رجالنا إلى ترك مواقعهم والخروج من سمخ من دون أن يتمكنوا من إخلاء جميع الجرحى، كانت نيران مدرعات العدو تغطي الشوارع والساحات بين البيوت، وكان الانسحاب صعباً جداً، وسقطت ضحايا كثيرة في مئات الأمتار القليلة الفاصلة بين سمخ ومستعمرتي دكانيا، وانضم باقي المنسحبين إلى المدافعين عن هاتين المستعمرتين اللتين أصحبتا في خط النار الأول، وكان آخر موقع سقط في سمخ هو (مخفر البوليس)، وقد أتاح الصمود فيه ـ ولو أن ذلك لفترة قصيرة فقط ـ للمنسحبين مجال تنظيم صفوفهم وإقامة خط مؤقت غربي وجنوب غربي سمخ، في اتجاه (بيت ياريح) من جهة، وفي اتجاه (بيت زيرع) من جهة أخرى.

وقد تمركزت في الخط وحدة بقيادة نائب قائد الكتيبة الثانية من لواء غولاني، الذي سقط في المعركة في وقت لاحق، وقد أثار سقوط سمخ والقصف والغارات الجوية مشاعر صعبة، وفي الوقت نفسه أرسلت إلى قطاع مستعمرتي دكانيا تعزيزات مشكلة من أفراد الكتيبة الثالثة 3 التابعة للواء غولاني، ومن مستعمرات الجليل الأسفل والسهل. كما وصلت من الجليل سرية من الكتيبة الثالثة من لواء (يفتاح) التابع للبالماخ، واستعدت لتوجيه ضربة مضادة (هجوم معاكس) في الليل، وعند حلول الظلام، قبل أن تتحرك السرية التابعة للواء (يفتاح) للقيام بهجوم مضاد على سمخ، وصل نبأ الاستعدادات في شعار هاجولان وميسادا لإخلاء المستعمرين، ومع الفجر كان قد تم إخلاؤهما، وفشل هجوم سرية البالماخ على مركز شرطة سمخ (مركز البوليس) في ليلة 18/19. لقد نجحت الوحدة في الاقتراب واحتلال مبنى المدرسة المجاور لمركز الشرطة، ولكن عندما اقتربت من مبنى المركز فتحت عليها نيران قوية من المبنى نفسه، ومن المدرعات الموجودة بالقرب منه، واضطرت إلى الانسحاب، وبسقوط سمخ في الشمال واستيلاء العدو (السوريين) على ميسادا وشعار هاجولان في الجنوب، توصل العدو إلى تأمين جناحيه في حال تقدمه نحو مستعمرتي دكانيا (أ) و دكانيا (ب)، (دكانيا (أ) و دكانيا (ب) هما أقدم مستعمرتين يهوديتين في فلسطين، وهما محصنتان جيداً، وتقعان على مقربة من الخط الدفاعي الذي أخذ في أوائل الحرب العالمية الثانية، اسم «خط إيدن» والذي كان يستهدف وقف أي هجوم ألماني قادم من تركيا أو سورية لاحتلال فلسطين.)، لكن الهجوم المضاد على مركز البوليس، وما سببه من خسائر مني بها السوريون، حققت كما يبدو، على الرغم من فشله إنجازاً معيناً، إذ كسب رجال السهل يوماً آخر، ولم يحدث الهجوم على مستعمرتي دكانيا (أ) و (ب) إلا في اليوم التالي». فشل الهجوم على دكانيا والانسحاب من سمخ: بعد احتلال بلدة سمخ في يوم الثلاثاء 18 أيار 1948، زار رئيس الجمهورية السورية ومعه وزير الدفاع الرتل السوري، وتناول طعام الغداء على مائدة قائد الرتل في موقع (تل ناقص 98)، وخلال الغداء أعلم وزير الدفاع قائد الرتل بوجوب إنهاء المهمة التي تم تكليفه بها ـ وهي احتلال صفد والوصول إلى الناصرة ـ في غضون عشرة أيام قبل أن تصل قوافل التجهيزات والمعدات العسكرية من أوروبا إلى قوات العدو. وبناء على هذا التوجيه أصدر قائد الرتل السوري أمره بالقيام بهجوم عام، انطلاقاً من سهل سمخ، لاحتلال الجسر ذي الأهمية التعبوية، القائم على نهر الشريعة، ثم احتلال مستعمرتي دكانيا (أ) و (ب)، والسيطرة عليهما، وحددت ساعة بدء الهجوم الساعة الرابعة من صباح يوم الخميس 20 أيار 1948، على أن يسبق ذلك رمايات بالمدفعية التي تم إنزالها إلى (تل ناقص 98) لكي يصبح بإمكانها إيصال قذائفها إلى مدى أبعد، وإلى مستعمرات النسق الثاني مثل (آفيكيم، أشدوت يعقوب، وغيرهما)، وكانت الوحدات المكلفة بالهجوم هي: 1) الفوج الثالث مشاة: الذي ألحق حديثاً من اللواء الثاني بالرتل، بقيادة المقدم أمير شلاش، ومهمته مهاجمة مستعمرة دكانيا (أ). 2) الفوج الأول مشاة: ومهمته دعم تقدم الفوج الثالث ومهاجمة دكانيا (ب)، عند نجاح الميمنة (الفوج الثالث) بالتقدم دون عائق. 3) المغاوير: ومهمتهم الاستيلاء على الجسر واحتلال موطئ قدم على الضفة الغربية من النهر، ومنع تخريب الجسر لكي تتمكن بقية القوات من استخدامه. 4) سرية الدبابات والمصفحات: تقوم مفرزة من الدبابات بدعم سرايا الفوج الثالث في هجومها الرئيسي على نهر الشريعة، أما المصفحات فتدعم تقدم فوج المشاة الأول في هجومه على مستعمرة دكانيا (ب). 5) فوج المدفعية: يكلف بإجراء قصف تمهيدي على قوات العدو في مستعمرتي دكانيا. 6) الفوج الثاني مشاة: يبقى احتياطاً على المرتفع المسمى (تل ناقص 98). تنفيذ الهجوم: ابتدأ الهجوم على مستعمرتي دكانيا (أ) ودكانيا (ب) في تمام الساعة الرابعة من صباح يوم الخميس 20/5/1948 وقد استخدم العدو قاذفات اللهب لإحراق المزروعات اليابسة، ووضع جنوداً على الأشجار العالية لإطلاق النار على الوحدات المتقدمة، وقد تمكن العدو بفعل نيران المدافع 20 مم المضادة للدرع (بيات) التي كان يملكها، والعدد الكبير من مدافع الهاون 120 مم، من تعطيل بعض الدبابات والمصفحات، وهكذا «تمكنوا من تدمير إحدى المصفحات السورية التي كانت تتقدم نحو دكانيا بمحاذاة شاطئ بحيرة طبريا، كما دمروا مصفحة أخرى عندما وصلت إلى أبواب المستعمرة، وأحرقوا ثالثة بعد أن نجح رجالها في الوصول إلى قلب دكانيا. وطرأ عطل على مصفحتين وقعت إحداهما بيد العدو، الأمر الذي جعل السوريين يبطئون في تقدمهم». وتوقف هجوم الفوج الثالث بفعل الاستحكامات المعادية والدشم الموجودة بين الأشجار، مما أوقع به خسائر فادحة في الأفراد والعتاد، وخاصة بعد توقف المصفحات السورية عن تقديم الدعم نظراً لإصابة بعضها وتعطل البعض الآخر، وكان الفوج الأول متوقفاً على يسار الفوج الثالث، ولدى سؤال قائده عن الوضع أجاب بأنه سيكون بوسعه التقدم لمهاجمة مستعمرة دكانيا (ب) (وهي الهدف المعين له في خطة الهجوم) إذا حصل على دعم بالدبابات والمصفحات، فتم توجيه قسم من هذه الأخيرة إلى منطقته لكي تحمي تقدم المشاة، وقد تقدم هذا الفوج بالفعل إلى أن وصل إلى مسافة لا تتجاوز عشرات الأمتار من المستعمرة المذكورة ولكنه جوبه عندئذ بنيران كثيفة من الأسلحة المعادية مما اضطره للتوقف، وقد حاول هذا الفوج اقتحام المستعمرة مرتين متعاقبتين، باعتراف المصادر الإسرائيلية نفسها التي تقول: «وبعد ذلك جرت محاولة الاقتحام، خرجت وحدة مشاة من خلف الدبابات ووصلت إلى مسافة 30 م من المواقع فصدت، وجرت محاولة أخرى للاقتحام قامت بها اثنتا عشرة آلية مصفحة ووحدة مشاة صغيرة فوجهت نيران المدافع الرشاشة والبنادق إلى فتحات الآليات المدرعة فتم إيقاف الهجوم» . وفي الساعة 9,35 أرسل قائد اللواء البرقية التالية إلى آمر الرتل العراقي الذي كان يعمل على يساره في منطقة جسر المجامع: «نهاجم مستعمرتي دكانيا (أ) و(ب) منذ الصباح، ونتقدم بصعوبة، أخبرونا وضعكم وإمكاناتكم لدعمنا بمعونتكم وطائراتكم»، ولكنه لم يتلق أي رد على برقيته هذه. وقد علم أن القوات العراقية المجاورة له لم تعد موجودة إلى يساره، لأن القيادة العامة للجيوش العربية قد نقلتها ليلة 19/20 للعمل على محور آخر دون إعلام قيادة الرتل السوري. وإزاء هذا الوضع الصعب لم يجد قائد الرتل السوري بدّاً من سحب الفوجين إلى مراكزهما الأصلية، والتمركز دفاعياً في هذه المواقع بعد أن تكبدت الوحدات المهاجمة خسائر ملحوظة وكانت الوحدة التي تعرضت لأكبر قدر من الخسائر في هذا الهجوم هي الفوج الثالث بقيادة المقدم أمير شلاش في تنفيذ عملية الهجوم على مستعمرة دكانيا (أ). ويصف المقدم شلاش، في الأوراق التي كتبها بخط يده، وأودعها لدى (مركز الدراسات العسكرية)، سبب تراجع فوجه والظروف التي أحاقت بهجومه على مستعمرة دكانيا على النحو التالي: «وفي 18/5/1948 تلقيت أمراً بالالتحاق مع فوجي بقيادة الرتل السوري (يسميه الرهط) فالتحقت به في موقع تل ناقص 98 بهذا التاريخ. وبمجرد وصولي إلى موقعي الجديد ضمن اللواء الأول الذي يتبع له فوجي تقدمت إلى قائد الرهط وأطلعته على وضعية فوجي، فقال لي إن فوج المشاة الثالث لن يتحرك ولن يشترك في القتال إلا بعد أن يستكمل معداته ويستكمل العدد اللازم من الضباط، وقد نُقل إلى فوجي ضابطان أحدهما الملازم ماجد ماميش والثاني إحسان كم ألماز الذي كان في قوى الإنقاذ في صفد، وكان من أبرز الضباط وأشجعهم في مقاتلة اليهود، واستلم قيادة السرية الثالثة التي كان يرأسها الملازم كامل محمود، الذي أصبح آمراً لإحدى فصائل السرية، والسرية الثانية بقيادة الرئيس نديم ترانجان وكان لديه ضابط برتبة ملازم ثان يدعى توفيق كركوتلي، وطبيب الفوج تحسين ميداني الذي أظهر بسالة فائقة في تضميد الجرحى ونقلهم من الخطوط الأمامية إلى الخطوط الخلفية. بعد اطلاعي على مهمة الرهط السوري لفتُّ نظر قائد الرهط الزعيم عبد الوهاب الحكيم إلى خطورة ترك مستعمرة عين جيف اليهودية ومهاجمة سمخ لأن هذه المستعمرة تقع على ميمنة الرهط السوري أثناء الهجوم، ومن الممكن لهذه المستعمرة أن ترسل قواتها لضرب مؤخرة الرهط أثناء قتاله باتجاه سمخ، فتم الرأي على قيام فوجي بقصف مستعمرة عين جيف بهاونات الفوج والرشاشات الثقيلة لتحويل أنظار العدو عن الخطة الأساسية للرهط السوري، وقد تم ذلك وسمعنا دوي صفارات الإنذار في المستعمرة وشوهد أفراد العدو يأخذون مراكزهم الدفاعية حول المستعمرة. كانت المهمة الثانية للفوج التمركز على مرتفعات مزرعة عز الدين التي تطل على تل ناقص 98 وسهل طبرية لمساندة هجوم الرهط على سمخ. صباح يوم 18 مايو/أيار أعيد الهجوم ثانية على بلدة سمخ بمساندة مصفحات المارمون، التي أبلت بلاء حسناً وتمكنت الوحدات بمؤازرة هذه المصفحات من احتلال بلدة سمخ بالكامل والمخفر البريطاني الموجود غربي سمخ، وقد قتل من اليهود الأعداء 115 قتيلاً وثلاثة جرحى أسروا. وفي يوم 19 مايو/أيار أُسند لفوجي (فوج المشاة الثالث) مهاجمة شعار هاجولان وقد تمركز الفوج على تل ناقص 98 مع قاعدة النار باتجاه المستعمرة المذكورة، وكان وزير الدفاع أحمد شراباتي موجوداً قرب القاعدة، والملازم فيليب صوايا راصد المدفعية في نفس المكان، وابتدأت المدفعية بقصف المستعمرة، وكان وصول ثلاث طائرات سورية قامت أيضاً بقصف المستعمرة، وشوهد أفراد من العدو ينطلقون إلى مراكز الدفاع، عندئذ صرخ وزير الدفاع قائلاً أوقفوا إطلاق النار لأن المستعمرة فيها سكان، غداً ستعاودون الهجوم على المستعمرة (!) وكانت أول قنبلة انطلقت من الطائرات السورية قد دمرت برج المراقبة في المستعمرة. بعد الظهر شوهد جمع من السكان البدو يدخلون مستعمرة شعار هاجولان ومستعمرة ميسادا القريبة منها ليقوموا بنهبهما، عندئذ أوعز قائد الرهط إلى فوج المشاة الثالث بإرسال قوة لطرد المدنيين البدو من المستعمرتين، ووضع قوة في كل مستعمرة لحراستها، فتم إرسال فصيلين، فصيل لكل مستعمرة من سرية الملازم إحسان كم ألماز الذي تمركز مع بقية سريته في الكارنتينا. طلب الزعيم عبد الوهاب الحكيم اجتماع قادة الأفواج في الرابعة مساءً في الكامب، وقد تلقى فوج المشاة الثالث مهمة تبادل المواقع مع فوج المشاة الثاني واستلام أماكنه على أن يتم التبادل ليلاً، وكانت مهمة فوج المشاة الثالث التي أوكلت إليه هي الهجوم على مستعمرة دكانيا (أ) ثم مستعمرة كنيرت ـ ثم كنيرت ملاحت ومنها التوجه إلى مدينة طبرية، وأما فوج المشاة الأول فكانت مهمته الهجوم واحتلال مستعمرة دكانيا (ب) على أن يبدأ الهجوم في تمام الساعة الرابعة والنصف صباحاً بعد أن يقوم سلاح الطيران والمدفعية المتمركزة على مرتفعات مزرعة عز الدين، في تمام الساعة الرابعة بقصف ودك المستعمرتين. للعلم رغم وعود القيادة لفوج المشاة الثالث باستكمال كافة نواقصه من المعدات التي أُخذت منه، وتكمله تعداده من الضباط والأفراد لم يتم شيء من ذلك إطلاقاً، وكان تعداد فوج المشاة الثالث بعد تمركزه مكان فوج المشاة الثاني ثلاث سرايا، كل سرية مؤلفة من 50 ضابطاً وصف ضابط وجندي، وفصيل قيادة مؤلف من 30 ضابطاً وصف ضابط وفرد، وهو يشتمل على مدفع 25 مم عدد2، وهاون 81مم عدد 2، و4 رشاشات هوتشكيس ومجموعة صحية مؤلفة من طبيب وممرضين ونقالين، وقيادة الفوج، والذخيرة التي كانت تحت تصرف الفوج تشمل وحدتي نار فقط. كان من المقرر أن تتقدم وتنتشر الدبابات الرينو أمام فوج المشاة الثالث، ومصفحات المارمون أمام الفوج الأول، بالإضافة إلى كوكبة خيالة غير نظامية بقيادة الرئيس قاسم الخليل، التي نُزع سلاحها الفردي ليلة الهجوم واستعيض عنه برشيشات، وكانت هذه الرشيشات لا تزال ملفوفة بورقها وشحمها، وكان هذا السلاح بالنسبة لكوكبة غير نظامية سلاحاً جديداً يجهلون فكّه وتركيبه واستعماله. أما المعلومات عن العدو فكانت مجهولة تماماً: كل ما كان أمامنا ستار من شجر السرو الذي كان يشكل حاجز رؤية لما بعده وما وراءه، وبشكل يغطّي مواقع المستعمرتين دكانياً (أ)، ودكانيا (ب)، كنا نجهل ما إذا كانت المستعمرتان قبل النهر أو بعده، ولم تكن لدينا أية خريطة تبيّن لنا مواقع هاتين المستعمرتين اللتين كانتا هدفنا في الهجوم ذلك اليوم. في نفس الليلة وصلت سيارة من سرية سلاح الإشارة تحمل لنا جهاز لاسلكي من النوع الكبير والجديد، وقالوا لنا هذا الجهاز يمكّنكم من الاتصال بقيادة الرهط، وكذلك بالأركان العامة في دمشق، وانتخبوا جنديين من جنود الفوج، اختيرا للعمل على هذا الجهاز وقالوا لهما بإمكانكما تشغيله، ولكن الجنديين كانا يجهلان تماماً استعمال أي جهاز لاسلكي، وقد أُعطي هذا الجهاز للأفواج لأول مرة، وقد أراد الرقيب الذي أحضر الجهاز تجربته فاتصل بالقيادة وعندها دخل على الخط مركز تنصت العدو وابتدأ مخاطبته بالعربية، وهذا يعني أن العدو كان يعلم بترددات الجهاز مسبقاً، وطبعاً لم يُستعمل الجهاز أبداً. يوم 20 مايو/أيار يوم الهجوم المقرر في الساعة الرابعة صباحاً، كنا في انتظار وصول الطائرات لقصف المستعمرتين دكانيا (أ) و دكانيا (ب)، حسبما علمنا من قائد الرتل قبلاً، ولكن لم يحدث شيء من هذا بل بالعكس ابتدأ العدو بقصفنا بهاوناته وكذلك طائراته ابتدأت بقصفنا بقنابلها، وانعكس الوضع تماماً، وكان تصوري أن العدو هو الذي يقوم بالهجوم، بينما كنا نحن المستعدين للهجوم، عندها أمرت جنودي بأخذ وضعية الدفاع بانتظار ما سيحدث، وقد علمت أن المدفعية الرابضة على المرتفعات في مزرعة عز الدين قد أُنزلت ليلاً إلى الوادي خلف تل ناقص 98، وكان ذلك بأمر من وزير الدفاع، اعتقاداً منه بأن المدفعية عندما تكون أقرب تكون إصابتها أجدى، مع العلم بأن مرابض المدفعية على المرتفعات في مكانها الأول كانت تبعد عن المرتفعات المقابلة 5 كيلومترات فقط، والرمي المجدي للمدافع 75 مم كان 10 كيلومترات، فعملية إنزال المدافع إلى الوادي سمح للكوماندوس اليهودي الموجود في عين جيف بأن يتحرك ليلاً ويضرب المدفعية، ولكن حرص وحذر عناصر المدفعية ويقظتهم منعت كوماندوس اليهود من الوصول لهدفهم، وهو تدمير المدفعية السورية، وعند طلوع النهار أعيدت المدفعية إلى موقعها الأصلي، وهكذا تأخر الهجوم الذي كان يجب أن يبدأ في الرابعة والنصف. ابتدأ الهجوم في التاسعة بعد أن تم قصف المستعمرتين بالمدفعية وبمؤازرة الطيران العراقي. (وقد طلب إليهم ذلك بواسطة ضابط الارتباط العراقي الموجود في قيادة الرهط). وقد انطلقت السريتان الثالثة والثانية باتجاه الهدف المعين تحت حماية قاعدة النار المؤلفة من رشاشات الفوج، والمتمركزة على سطح المخفر الإنكليزي وانطلقت الدبابات في المقدمة ووراءها المشاة وبعد لحظات من انطلاق الدبابات تعطّل أكثرها وبقيت في أماكنها. وعند وصول المشاة إلى الساتر الشجري الذي يحجب الرؤية عن المستعمرات وجد الجنود خلفه أسلاكاً شائكة كثيفة تمنع استمرار التقدم، وبما أن الفوج كان قد أخذت منه أدوات التحكيم، ومنها مقصات الأسلاك الشائكة، فلم يكن باليد حيلة من عدم التقدم، وفوجئ الجنود بزخات من نيران البنادق والرشاشات مما أجبرهم على التراجع إلى نقطة الانطلاق تاركين وراءهم عدداً من الشهداء والجرحى، وقد تبين فيما بعد أن اليهود كانوا متمركزين على خط إيدن الذي أنشأه الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية لمنع الألمان من اجتياز هذه المنطقة، وابتدأت الخسائر بيننا، فقد استشهد الملازم إحسان كم ألماز خلال الهجمة الأولى، وكان إلى جانبه الوكيل ضابط مهنا الذي أصيب أيضاً وقد شاهد الملازم إحسان كم ألماز يسقط شهيداً وقد أصيب برأسه كما نُقل الملازم ماجد ماميش في حالة إغماء شديد، وقام الملازم تحسين الميداني طبيب الفوج، مع فريق الإسعاف التابع للفوج، بنقل الجرحى من ميدان المعركة إلى مراكز الإسعاف الخلفية مخاطرين بحياتهم ولم يتركوا جريحاً واحداً على أرض المعركة، وحتى المساء كان عدد القتلى والجرحى 86 فرداً، وقد اتصلت هاتفياً بقيادة الرهط، ورد علي المقدم عزيز عبد الكريم، وطلبت منه إبلاغ الزعيم عبد الوهاب الحكيم وجوب تراجع الوحدات إلى ناقص 98 بدلاً من بقائنا في سهل مكشوف يسيطر عليه العدو سيطرة تامة، وللأسف لم أتلق أي رد أو أي تعليمات جديدة بخصوص طلبي، وفي المساء حوالي الساعة الخامسة حضر إلى مركز قيادة الفوج الرئيس صبحي عبارة آمر سلاح المدرعات، واطلع على الوضع الذي كنا به، فعاد وأحضر معه 5قطع من المدرعات ونشرها حول مركز قيادة الفوج، وعاد ليبلغ قائد الرهط بوضعنا الصعب، وفي هذه الأثناء ابتدأ العدو بقصف مركز القيادة والفوج بقنابل الهاون، وقد سقطت إحدى هذه القنابل على مركز قيادة الفوج الذي كان في العراء فأصبت أنا وأحد الضباط وعشرة أفراد من قيادة الفوج، وقد قام الدكتور تحسين الميداني بنقل تسعة من الجرحى المصابين في سيارة الجيب الخاصة بآمر الفوج، ثم تم نقلي مع اثنين من الجرحى إلى مركز الإسعاف الذي كان متمركزاً في الحمة، محطة القطار، وكان عدد من الأطباء المدنيين يقومون بإجراء الإسعافات الأولية، وتم ترحيل الجرحى إلى المستشفى العسكري بدمشق، ولما وصلت إلى هذا المركز تبين أني مصاب بأربع إصابات بالفخذ والمرفق والظهر والكتف، وبعدها استمر ما تبقى من الفوج في المخفر البريطاني 24 ساعة أخرى، صدرت إليهم الأوامر بعدها بالانسحاب إلى مركز الرهط». وليس بوسع المراقب الموضوعي مهما بلغ اعتزازه بجيشه، من الإقرار بأن خسارة الرتل السوري للمعركة أمام أسوار مستعمرتي دكانيا (أ) ودكانيا (ب)، ما كانت لتحدث لولا عدد من الأخطاء السياسية والعسكرية التي أدت إليها، أو ساهمت في حدوثها، وأهم هذه الأخطاء كان تغيير خطة الهجوم الأصلية التي وضعتها الأركان السورية، ونقل القطعات المنفذة خلال ليلة واحدة من الحدود اللبنانية وزجها في منطقة سمخ جنوب بحيرة طبرية، في مواجهة خط دفاع منيع ومحصّن (خط إيدن)، كان قد أنشأه الإنكليز للوقوف في وجه الألمان عام 1940، إذا قام هؤلاء الأخيرون بمهاجمتهم من سورية، ويصف واحد من الضباط السوريين القدامى، الذين عاصروا الأحداث، الأثر الذي أحدثه تبديل خطة الحركة الأصلية بالقول: «إنه مما لا شك فيه أن تبديل خطة الرتل السوري الموضوعة كان مسيئاً جداً لتصور المعركة الأساسي، كما أنه أمر ينبو عن كل منطق عسكري لسببين: الأول أن الرتل قد هيأ نفسه للدخول في أرض المفروض أنه درسها مسبقاً جغرافياً وطوبوغرافياً وديموغرافياً، كما درس أوضاع العدو فيها. الثاني تكليفه، وفي ليلة واحدة، بالانتقال إلى واد تصعب الحركة فيه أمام عدو متمركز دفاعياً وبقوة، والدخول مباشرة وليلاً في المعركة». وإثر خسارة المعركة تقدم وزير الدفاع أحمد شراباتي باستقالته مساء 22 أيار 1948 فاستلم رئيس الوزراء مهام وزارة الدفاع بالإضافة لوظيفته، كما أدت هذه الخسارة إلى صرف الضباط الكبار الذي خططوا للمعركة أو أشرفوا عليها، في الفترة بين 23 و26 أيار ومنهم الزعيم عبد الله عطفة، والعقيد عبد الوهاب الحكيم، والعقيد جميل برهاني (قضى المرسوم 1131 في 23 أيار 1948 بصرف الزعيم عبد الله عطفة من الحكومة (الجريدة الرسمية عام 1948، ص1147) وقضى المرسوم 1151 في 26 أيار 1948 بصرف العقيد عبد الوهاب الحكيم من الخدمة، والمرسوم 1152 في التاريخ نفسه بصرف العقيد جميل برهاني من الخدمة (الجريدة الرسمية عام 1948، ص1339).. وبموجب المرسوم 1133 في 23 أيار 1948 تم تكليف الزعيم حسني الزعيم برئاسة أركان الجيش السوري وكالة، ثم اعتبر بموجب القرار رقم 469 في 1 حزيران 1948 قائماً بوظيفة رئيس أركان الجيش السوري بالوكالة اعتباراً من 24 أيار 1948 (76). وعين العقيد أنور بنود آمراً للواء الأول (بدلاً من عبد الوهاب الحكيم) وجرى نشر هذا اللواء في القطاع الجنوبي من الجبهة، كما عيّن العقيد توفيق بشور آمراً للواء الثاني (بدلاً من جميل برهاني)، وجرى نشر اللواء في القطاعين الشمالي والأوسط من الجبهة، ما بين بانياس وجسر بنات يعقوب، كما عيّن العقيد عمر خان تمر آمراً لفوج المدرعات، وبدأ هؤلاء القادة الثلاثة يعدون قطعاتهم لأداء مهمة جديدة في فلسطين. العمليات في القطاع الأوسط: احتلال كعوش (مشمارهايردن): بعد فشل الهجوم على مستعمرتي دكانيا (أ) ودكانيا (ب)، وتراجع القوات السورية عنهما، أصبح بقاء المفرزة التي تحتل سمخ أمراً غير منطقي من الناحية التعبوية، لذا جرى سحب هذه المفرزة، وأخذت القوات المنسحبة خطاً دفاعياً جديداً يمتد من الحمّة إلى باب الحديد، فالحاوي العسكري، فمزرعة عز الدين، فكفر حارب، والقيادة في موقع (فيق)، وبعد استلام الزعيم حسني الزعيم رئاسة الأركان في 23 /5/1948، عمد إلى تغيير خطة العمليات التي تم فرضها من القيادة العربية الموحدة في عمان، وتبنّى محلها خطة للهجوم من القطاع الأوسط للجبهة، أي من جسر بنات يعقوب إلى مستعمرة مشمار هايردن (كعوش) ثم التقدم منها إلى روشبينا (الجاعونة) باتجاه صفد، وذلك للالتقاء هناك مع قوات جيش الإنقاذ، وقوات البادية التي كانت تشترك مع الجيش اللبناني في التقدم من شمالي فلسطين عن طريق المالكية. وقد زجت القيادة لهذا الغرض بوحدات اللواء الثاني على محور القنيطرة - كفر نفاخ - جسر بنات يعقوب، وعززتها بالمدفعية والدبابات والمصفحات ووحدات الهندسة، وأعطت لهذه المجموعة اسم «الجبهة الجنوبية الغربية» بينما احتفظت وحدات اللواء الأول، تحت قيادة العقيد أنور بنود، بتسميتها السابقة «الرتل السوري» (للدلالة على استعدادها المستمر للقيام بعمليات هجومية ضد العدو). وقد تم سحب سرية الدبابات من القطاع الجنوبي إلى القنيطرة حيث جرت إراحتها هناك لمدة عشرة أيام (من 25/5 وحتى 4/6/1948) بينما كانت ورشات الصيانة تعمل في تصليح ما تعطل منها، ودعم تسليحها، وذلك استعداداً لزجّها في المعارك الجديدة. وبدأت هذه المعارك الجديدة بالفعل صباح 5/6/1948، حين كُلّف أحد أفواج المشاة التي كانت منتشرة بين مخفر الجمرك السوري (قرب جسر بنات يعقوب) وعِلْمين، بمهاجمة أقوى مستعمرة في سهل الحولة، وهي مستعمرة كعوش أو (مشمارهايردن) واحتلالها، وبدأت سرايا هذا الفوج بالتقدم باتجاه وادي النهر، في الساعة العاشرة من صباح 5 حزيران 1948، وبما أن الجسر كان مهدّماً فقد عبرت النهر من مخاضة قائمة عند النقطة المسماة «قصر عطرة» وأخذت بتسلق الضفة الأخرى من النهر في الساعة الثانية عشرة، وبعد ذلك بحوالي ساعة أصبحت وحدات الفوج على مسافة لا تتجاوز ألف متر من الحد الشرقي لمستعمرة مشمار هايردن (كعوش) فتابعت تقدمها نحو المستعمرة ولكنها جوبهت بنيران كثيفة كانت تنطلق من جملة (المنعات) المحفورة في الأرض، والتي لم يكن يرى منها إلا فوهات الإطلاق. وقد توقفت وحدات الفوج عندئذ وطلبت تدخل المدفعية السورية التي كانت موجودة شمالي مبنى الجمرك في جسر بنات يعقوب وقامت هذه بالتدخل بشكل محدود. وعادت وحدات المشاة للهجوم في تمام الساعة 14,00 وتعاملت مع المنعات المعادية بنجاح نسبي، ولكن اليهود استقدموا بعض النجدات التي تمركزت على المرتفعات الجنوبية من المستعمرة، على مسافة تقارب كيلو متراً واحداً منها، مما اضطر الفوج المهاجم إلى تخصيص سرية لمجابهة هذه النجدات، وهذا ما أنقص من حجم القوة النارية للهجوم بشكل ملحوظ، وبعد انتهاء رمايات المدفعية السورية تقدمت بقية وحدات الفوج إلى المستعمرة من جهة الشرق، وكان الجزء الشرقي منها يتشكل من أراضي مسطحة وخالية من الأشجار، مما جعل تقدم المشاة عسيراً في هذه الأراضي حيث لا مساتر فيها تقيهم من مراصد العدو ونيرانه التي كانت تنصب عليهم من المنعات بغزارة، وتحدث إصابات بينهم، وزاد حال المهاجمين سوءاً أن الشمس قد أخذت تميل إلى الغروب مما جعل الرؤية تتعذر عليهم بسبب الوهج والإشعاع المباشر بينما كان المدافعون اليهود في مأمن وراء خنادقهم، ويوجهون نيرانهم بكل إحكام على فصائل المشاة المتقدمة باتجاه المستعمرة، ولما زادت نسبة الخسائر بين المهاجمين اضطر قائد الفوج القائم بالهجوم لإعطاء أمر بارتداد الوحدات إلى مواقعها السابقة بعد أن خسر بضعة عشر شهيداً، وهكذا فشل الهجوم الأول على كعوش بسبب سوء اختيار المكان والزمان. الهجوم الثاني على مستعمرة مشمارهايردن (كعوش) واحتلالها: بالرغم من فشل الهجوم الأول الذي قام به أحد أفواج اللواء الثاني على مستعمرة مشمار هايردن (كعوش) يوم 5 حزيران 1948، لم تتخل القيادة السورية عن خطتها لاحتلال هذه المستعمرة، واستخدامها كرأس جسر للتقدم نحو أراضي الجليل الأعلى، ويصف أحد الضباط السوريين المعاصرين للأحداث وقائع الهجوم الثاني على كعوش واحتلالها: «لم تتخل القيادة السورية عن خطتها في السيطرة على رأس جسر كعوش، كمنطلق باتجاه صفد والجليل الأعلى رغم فشل الهجوم الأول، فأوعزت إلى اللواء الثاني المتمركز في جسر بنات يعقوب باستئناف العمليات، وتغير في هذه المرة أسلوب العمل وطريقة التنفيذ ونوعية القطعات المشتركة، ووقت شن العمليات على المستعمرة، وقد خطط آمر اللواء بنفسه للعملية، وتتضمن خطته الفكرة الميدانية التالية: 1) تقوم كوكبة فرسان منتقاة (مغاوير) بالإغارة بعد منتصف ليل 8/6 على كعوش، من طرفها الغربي، وتحمل معها اللباد لإلقائه على الأسلاك الشائكة التي تصادفها، وتعبرها وتدخل بيوت المستعمرة وتطهرها. 2) تسير وراء هذه الكوكبة سرية مشاة لدعمها بعد بزوغ الفجر، في الساعة الرابعة فجراً. 3) يدعم فوج المدرعات تقدم الكوكبة، ويقوم بإزالة المقاومات المعادية بعد الساعة الرابعة صباحاً، ولا سيما المنعات المنتشرة غربي المستعمرة، ويحاول تطويقها والقضاء عليها بمدافع المصفحات مارمون. 4) يجري رمي تمهيد بفوج مدفعية متمركز وراء جسر بنات يعقوب، في مساء 8/6/1948 (وكان لرمايات هذا الفوج تأثير كبير على خفض معنويات اليهود المدافعين عن المستعمرة). وفي مساء 8/6/1948 عبرت كوكبة الفرسان المخاضة من مقبرة بنات يعقوب، واتجهت إلى الشمال نحو كعوش، وبعد منتصف الليل بدأ الاشتباك مع المدافعين عن المستعمرة، واستمر إلى الفجر، وكان القتال يدور وجهاً لوجه، وأسر كل من كان يقاتل من الرجال والنساء، وقد اعتصم بعض اليهود في الأقبية، فكانوا يطلقون النار على الجنود من كوّات هذه الأقبية، وقد طُهّرت المستعمرة من المقاتلين ولم يبق سوى بعض اليهود في المنعات الكائنة حول المستعمرة فزُجت سرية المصفحات (التي كان يقودها الرئيس صبحي عبّارة)، ضدهم فاضطر هؤلاء إلى الاستسلام بعد بضع طلقات من مدافع المارمون على الطلاقات (كوى المنعات)، وفي الساعة السادسة كانت كعوش خالية من المقاومات، وينتشر فيها وحولها من الشرق والغرب والجنوب بعض سرايات المشاة، تحسباً لهجوم معاكس يأتي من طريق صفد - الجاعونة (روشبينا). وطلع صباح 9/6/1948 فأرسل اليهود بعض الفئات المقاتلة لمنع تقدم المشاة باتجاه الطريق العام كعوش (مشمارهايردن) - عين العجلة (منهانايم) - الجاعونة (روشبينا)،

وتمركزت هذه الفئات على خطين متوازيين من المرتفعات كان أعلاها رأس المنطرة (تل أبو الريش)، الذي يسيطر بالنار على منطقة شاسعة تمتد بين منهانايم ومطار الجاعونة»، وقد فقد السوريون في معركة كعوش عدداً من الشهداء، وكان على رأسهم الملازم الشهيد فتحي أتاسي الذي أبت عليه شهامته إلا أن ينقذ فتاة يهودية جريحة، ولكن هذه رمته بوابل من الرصاص لما أصبح على مقربة منها. احتلال تل أبو الريش: يتحكم تل أبو الريش في المنطقة المحيطة به، بما في ذلك مستعمرة كعوش (مشمارهايردن) التي احتلتها وحدة من الجيش السوري وبدأت تعزز مواقعها فيها، وكان على القيادة السورية أن تأمر باحتلال هذا التل لو رغبت في متابعة التقدم باتجاه الجاعونة (روشبينا) أو حتى لو قررت التمركز في كعوش والدفاع عنها، وقام الزعيم حسني الزعيم ـ وكان في زيارة للجبهة ـ بتعيين الوحدتين المكلفتين باحتلال تل أبو الريش، وهما فوج مشاة وسرية دبابات مع تعيين سرية مصفحات وكوكبة مغاوير من الفرسان المتمركزين في مستعمرة كعوش كاحتياط لعملية الهجوم. وقد تقدمت وحدتا الهجوم (فوج المشاة مع سرية الدبابات) في هجوم منسّق ومنظم باتجاه التل في الساعة السابعة من صباح يوم 10/6/1948، وظلت تتابع تقدمها حتى اصطدمت إحدى سرايا فوج المشاة المتقدمة على جانبي الطريق الذاهب إلى منهانايم وروشبينا بنيران معادية كثيفة تنطلق من أعلى تل أبو الريش، بين مجموعة من الصخور الضخمة. وقد طلب قائد فوج المشاة بواسطة مراسل راجل، تدخل وحدة الدبابات، فاتخذت سرية الدبابات عندئذ تشكيلة النسق وأخذت تقصف التل بعنف بالمدافع عيار 37 مم فاضطر العدو عندئذ لإخلاء المرتفعات الواقعة ما بين تل أبو الريش ووادي شبعين، النازل من خربة إربد نحو قصر عطرة، ولما كانت الأراضي الواقعة إلى الشرق من التل أكثر سهولة لتقدم الدبابات، فقد سلكت سرية الدبابات هذه الأراضي، ولكنها ما كادت تتوسطها حتى انفجرت بعض الألغام تحت جنازير الدبابات فقطّعتها، ولم يبق سوى دبابة قائد السرية صالحة للتحرك فتابعت تقدمها، بينما وقفت بقية الدبابات في أمكنتها تتابع الرمي على العدو بالرشاشات. وحوالي الساعة التاسعة صباحاً تلقى قائد سرية الدبابات كتاباً خطياً من قائد اللواء الثاني يأمر بإيقاف العمليات بسبب إعلان الهدنة اعتباراً من اليوم التالي (11/6/1948). وبما أنه لم يكن من المستطاع البقاء على هذا الشكل، على سفح تل لا يزال العدو يحتل أعلاه لذا أمر قائد السرية دباباته بمتابعة الرمي، بينما تابع هو تقدمه إلى أعلى التل فوجد سرية من المشاة قد بدأت بتسلقه من الجهة الغربية، حيث التقت الوحدتان في قمة التل، حوالي الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم المجيد (10/6/1948). وفي منتصف ليلة 10/11 أصبح وضع القوات السورية في القطاع الأوسط من الجبهة كما يلي: 1) في منطقة كعوش: فوج المشاة السادس، وفوج المشاة الثاني، وفوج المشاة الأول، وسرية مصفحات. 2) فوج منتشر إلى الغرب من كعوش لحمايتها. 3) فوج مشاة يتمركز على تل أبو الريش وخلفه. 4) وهناك فوج مدفعية 75 مم يتشكل من بطاريتين، وفصيل مدفعية 105 مم جبلي، يتمركزان وراء مقر قيادة اللواء الثاني في الجمرك السوري. وفي الساعة الرابعة والنصف من صباح 11/6/1948، انطلقت سرية الدبابات من تل أبو الريش على الطريق العام بتشكيلة الرتل، ودبابة قائد السرية في المقدمة، فاصطدمت بمقاومة معادية تستخدم قذائف البازوكا، على بعد 30 ـ 50 متر منها، ودام الاشتباك بين سرية الدبابات ومفرزة البازوكا المعادية حوالي ثلاث دقائق، ولما تابعت السرية تقدمها اصطدمت بوحدة كاملة من مدافع البازوكا المعادية، وكان يعمل على كل مدفع منها ثلاثة من اليهود المقاتلين، ودامت المعركة بين الدبابات السورية ومدافع البازوكا المعادية حتى الساعة التاسعة صباحاً، ولما نفذت ذخيرة الدبابات، تم إرسال ناقلة مجنزرة من كعوش (مشمارهايردن) إلى ساحة المعركة وجرى توزيع الذخيرة على الدبابات وهي مشتبكة مع العدو، وكانت نيران المشاة المتمركزة على تل أبو الريش، ونيران الدبابات تنصب على العدو وقاعدته النارية من مسافة 600 ـ 800م، وقد استقدم العدو نجدة تتألف من ثلاثة مصفحات ووحدة من المشاة، ولكن المدفعية السورية كانت لها بالمرصاد فصبت عليها رماياتها وأوقفتها. وبعد الساعة الحادية عشرة لم يعد يسمع إلا صوت طلقات إفرادية متفرقة من جانب العدو، والذي انسحب باتجاه طريق روشبينا (الجاعونة)، وعندما انتهت المعركة في الساعة الثانية عشرة من يوم 11/6/1948، كان ما لايقل عن 120 جثة من جنود ومستوطني العدو متناثرة بين شجيرات الشوك على رقعة تقدر أبعادها بـ 400× 500م، وعند نهاية النهار أعلنت الهدنة الأولى بين العرب واليهود. الهدنة العربية الإسرائيلية الأولى بتاريخ 11/6/1948: بالرغم من أن الانتصارات التي حققتها الجيوش العربية، ما بين 15 و31 أيار 1948، في الأراضي الفلسطينية، كانت انتصارات محدودة، فإنها ضايقت اليهود كثيراً، حين أحاطت بهم وطوقتهم من كل جانب، حيث احتل الجيش السوري الجزء الشرقي من سهل طبريا وجانباً كبيراً من سهل الحولة، واحتل جيش الإنقاذ قطاعاً كبيراً من شمالي فلسطين أوصله حتى مدينة الناصرة، كما أحدث الجيش العراقي خرقاً أصبح يهدد به بلدة ناتانيا، على مسافة لا تتجاوز عشرين كيلو متراً عن تل أبيب، وفي الجنوب تقدّم الجيش المصري حتى مدينة أشدود، على بعد 35 كم من تل أبيب أيضاً.

هذا بالإضافة إلى أن موقف الصهاينة كان سيئاً في القدس، بعد معركة (باب الواد)، وبعد أن استسلم الحي اليهودي للقوات الأردنية. وهنا تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية، فأوعزت لمندوبها في مجلس الأمن أن يطلب عقد هدنة مؤقتة أو (وقفاً لإطلاق النار) خلال مهلة 36 ساعة، تحت طائلة فرض العقوبات الاقتصادية والسياسية بحق الطرف الذي يرفض ذلك، وهكذا تم فرض الهدنة الأولى بين العرب واليهود الصهاينة بتاريخ 11 حزيران 1948، لمدة أربعة أسابيع، وتم تعيين الكونت برنادوت السويدي الجنسية، لكي يكون وسيطاً بين الطرفين المتنازعين، ولكي يضع مشروعاً لحل القضية الفلسطينية بصورة سلمية. وقد كان قبول العرب لوقف إطلاق النار في ذلك الوقت خطأً سياسياً وعسكرياً فادحاً، لأنه كان بوسعهم ربح المعركة لو بقوا مثابرين على القتال، ويقول أحد الضباط السوريين الذين عاشوا أحداث تلك المرحلة في مجال تقييم الهدنة الأولى وأثرها في الصراع العربي الإسرائيلي: «كان قبول الهدنة خطأً كبيراً لا يغتفر، فهذه الهدنة هي بمثابة هدية كبيرة لا تقدر بثمن أعطيت للصهاينة، إذ وجدوا فيه فرصة ذهبية لإعادة تنظيم قواتهم، وإكمال استعداداتهم، ولوصول الأسلحة والذخائر التي كانوا قد ارسلوا الوفود إلى مختلف بلاد العالم للحصول عليها بأية وسيلة وبأي ثمن (...) أما العرب فقد قاموا بحملة كبيرة خلال الهدنة وقبلها لشراء السلاح، لكن محاولاتهم كانت تفشل في أغلب الأحيان، بسبب مقاومة إنكلترا وأمريكا لمساعيهم هذه، لأنهما كانتا تضغطان على الدول لمنع بيع الأسلحة للعرب، إضافة إلى النفوذ الصهيوني الذي كان يلاحق العرب الذين يسعون لشراء السلاح». وبما ان برنادوت لم يكن مقيداً بقرار التقسيم (القرار رقم181 لعام 1947) فإنه طرح في مشروعه أفكاراً كان بعضها ينسجم مع قرار التقسيم وبعضها الآخر لا ينسجم معه، وأهم فقرات المشروع: 1ـ تؤلف فلسطين وشرقي الأردن اتحاداً يضم دولتين إحداهما عربية والثانية يهودية، ويهدف الاتحاد لإنهاض البلاد وتنسيق السياسة الخارجية والدفاع المشترك. 2ـ يكون لكل من الدولتين استقلال تام في شؤون الهجرة إليها لمدة سنتين فقط، وبعد ذلك يقرر (مجلس الاتحاد) في هذا الشأن. 3ـ يضم النقب إلى الدولة العربية، مقابل الجليل الغربي الذي يضم إلى الدولة اليهودية (83). 4ـ تضم القدس للعرب، ويُعطى اليهود حرية الاستقلال بالشؤون البلدية في قسمهم (القسم اليهودي من المدينة). 5 ـ يُعاد النظر بوضع يافا. 6ـ يحترم الفريقان الأديان وحقوق الأقليات واحترام الأماكن المقدسة. 7 ـ عودة اللاجئين إلى منازلهم التي طردوا منها بسبب الحرب. 8 ـ جعل ميناء حيفا ميناءً حراً، وكذلك الأمر بالنسبة لمطار اللد. ولكن هذه المقترحات، بالرغم من أنها تسلب العرب جزءاً من حقوقهم التاريخية، رأى فيها القادة الصهاينة محاباة للعرب (!) فأوعزوا لعصاباتهم بقتل الكونت برنادوت، فقتلوه مع معاونه الضابط الفرنسي، في كمين قاده اسحاق شامير، كما جرحوا ضابطاً آخر من المراقبين الدوليين، وكان ذلك في 17 أيلول 1948. و«ما انتهت الهدنة واستؤنف القتال مرة أخرى، حتى بدأ التفوق الإسرائيلي يظهر بجلاء، على جميع الجبهات، فاحتلوا اللد والرملة في الجبهة العراقية الأردنية، واسترجعوا سمخ من السوريين، وتمكنوا من زحزحة المصريين عن معظم الأراضي التي كانوا يحتلونها، ثم حاصروا لواء الفالوجة، أما العرب فقد انفرط عقد قيادتهم، وأصبح كل جيش يقاتل في موقعه الدفاعي متراجعاً، دون أي تعاون مع الجيوش الأخرى، وعلى الرغم من أن مجلس الأمن قد اقترح تمديد الهدنة، إلا أن العرب رفضوا هذا الاقتراح مع أن القادة العسكريين لم يكونوا موافقين على استئناف القتال بسبب معرفتهم بوضع جيوشهم السيء والنقص الحاد بالأسلحة والذخيرة التي استهلكت خلال المعارك والتي لم تعوض». العمليات الحربية بعد انتهاء الهدنة الأولى: خلال فترة الهدنة، بدأت يوم 11 حزيران 1948 ولمدة أربعة أسابيع أخذت القيادة العسكرية السورية تعيد تنظيم قواتها، فسحبت فوج المدرعات الأول إلى منطقة القنيطرة لإراحته وزجت مكانه بفوج المدرعات الثاني في منطقة كعوش (مشمار هايردن)، وتمركزت أفواج المشاة في العمق بين جسر بنات يعقوب وكفر نفاخ والقنيطرة، واحتفظت القوات السورية خلال مدة الهدنة برأس الجسر الذي كانت قد احتلته في سهل الحولة، وهو يمتد من (مقبرة بنات يعقوب) عند مخرج نهر الأردن من بحيرة الحولة حتى قصر عطرة شمالاً، ومن خان يرده - تل أبو الريش - والتل الأسود حتى خربة إربد جنوباً، بطول يبلغ حوالي 15كم. وتمركزت في هذا القوس الكبير ثلاثة أفواج سورية من المشاة، وفوج من المدرعات الثاني، وجزء من فوج المدرعات الأول، وبلغ تعدادها جميعاً حوالي 1500 ضابط وصف ضابط وجندي، تحت قيادة آمر الموقع المقدم محمود بنيات. وفور انتهاء الهدنة تعرضت القوات السورية المرابطة في كعوش وما حولها لهجوم صهيوني كبير، في الساعة السادسة من مساء 10/7، وقد بدأ هذا الهجوم بقصف مركز على مركز القيادة السوري، وأبنية المستعمرة نفسها، بالصواريخ ومدافع الهاون ومدافع أخرى من عيار 77مم وطال القصف الجسر الذي أقامته مفرزة الإنشاءات السوريةعلى نهر الأردن، وخلال الليل تركز القصف على موقع تل أبي الريش وخان يرده، حيث كانت ترابط سرية رشاشات هوتشكيس مع فوجين من المشاة، هما الفوج الرابع والخامس، في هذه المناطق، وكان القصف دقيقاً ومركزاً، فأوقع عدداً من الضحايا في هذه الوحدات. وبعد هذا القصف الإسرائيلي الكثيف بدأت وحدات إسرائيلية من المشاة المحمولة يقارب عددها 10.000 مقاتل، بالتقدم من مستعمرات روشبينا (الجاعونة)، ومنهانايم، ويسودهامعلا، وهاجمت الوحدات السورية على المحورين: 1) محور منهانايم - تل أبو الريش. 2) ومحور مزرعة الخوري - المخاضة - الجمرك السوري. وكانت خطة العدو تهدف إلى التقدم عبر المخاضة إلى مخفر الجمرك السوري في جسر بنات يعقوب، لاحتلاله وتطويق القوات السورية الموجودة في جيب كعوش (مشمارهايردن) بالكامل، وقد تمكن المهاجمون من انتزاع بعض المواقع المتطرفة من أيدي السوريين ومنها جانب من تل أبو الريش، الذي وصلت حدة القتال فيه إلى مرحلة الالتحام بالسلاح الأبيض، وعند أول ضوء من يوم 11/7 قام السوريون بهجوم معاكس بفوج من المشاة (الفوج الرابع) المعزز بالدبابات، وكانت طليعة هذا الهجوم المعاكس سرية الدبابات التي انطلقت من كعوش في الساعة الرابعة صباحاً باتجاه تل أبو الريش، ففكت الحصار عنه ثم اندفعت على الطريق العام، ووراءها رتل المشاة، باتجاه مستعمرة منهانايم (عين العجلة)، وظل هذا الرتل متابعاً اندفاعه حتى وصل إلى مشارف مطار روشبينا (الجاعونة)، بعد أن دحر القوات اليهودية التي وجدها في طريقه، وأوقع بها خسائر فادحة. وقام قائد موقع كعوش عندئذ، بعد أن زال خطر التطويق عنه، بتوجيه سرية مصفحات أغارت على الوحدة المعادية التي لجأت إلى مزرعة الخوري، فأبادتها تقريباً، عدا بعض الفلول التي هربت إلى منطقة الجليل الأعلى، واستخدمت القيادة المعادية عدداً من الطائرات لقصف الوحدات السورية المتقدمة، ولم يتمكن الجنود السوريون عندئذ من الرمي على هذه الطائرات بأي سلاح مضاد أرض/ جو، لعدم وجود مثل هذه الأسلحة لديهم، وخلال يومي 16 و17 تموز 1948 قامت الوحدات السورية بشن هجومين: 1) الأول في القطاع الأوسط، في المنطقة المحيطة بمستعمرة كعوش (مشمارهايردن) نفسها فقامت بتوسيع رأس الجسر ما أمكن، وتحقيق قدر أكبر من الحيطة للدفاع عن هذا الموقع، حيث قامت كتيبة الفرسان الثانية راجلة، ويدعمها فصيل من الدبابات، بالهجوم على مزرعة الخوري، الكائنة على الضفة الغربية من النهر، في يوم 16/7، وقد حقق الهجوم هدفه بعد ربع ساعة فقط من بدايته، حيث سقطت المزرعة في يد القوات السورية التي أسرت عدداً كبيراً من أفراد العدو. وفي اليوم نفسه انطلقت سرية مشاة سورية مدعومة بفصيل دبابات باتجاه قرية كراد الغنّامة فاستولت عليها، ثم اندفعت منها نحو قرية كراد البقارة المشرفة على مستعمرة نجمة الصبح (إيليت هاشاحر) وكادت أن تحتلها لولا سقوط آمر فصيلة الطليعة في سرية المشاة (برهان الأمير حسن) شهيداً مما أجبر السرية على العودة إل كراد الغنامة.

2) أما الهجوم الثاني فكان في القطاع الشمالي على تل العزيزيات، الذي يتمتع بأهمية تعبوية متميزة من حيث إنه يسيطر على المستعمرات اليهودية في القطاع الشمالي (دان، شرياشوف، دفنه) من جهة، وعلى طريق المواصلات الأساسي المتجه من بانياس شمالاً إلى مخفر العقدة جنوباً على خط الحدود الفلسطينية ـ السورية من جهة ثانية، وبسبب هذه الأهمية صممت القيادة السورية على انتزاع هذا التل من أيدي العدو، فأمرت قوة هجوم تتكون من كتيبة الفرسان الثانية بأن تتقدم راجلة وتقوم بهذا الاستيلاء، فأدت هذه الكتيبة مهمتها كاملة، صباح يوم 17 تموز 1948، واستولت على التل وهدمت المواقع المعادية فيه، وأبادت عدداً من أفراد حاميتها وفر الباقون. دور سلاح الطيران في الحرب: لم يكن لدى الجيش السوري عام 1948 أي طيران مقاتل، سواء طيران القصف أو طيران التعرض، واضطرت قيادة هذا السلاح الناشئ لاستخدام طائرات التدريب من طراز (هارفارد) في القتال، بعد أن زودت كلا منها برشاش تم تركيبه في مؤخرتها، كي يستخدمه مساعد الطيار، الذي كان يقوم بمهمة رام وميكانيكي معاً، وقامت الورشة الميكانيكية (وأغلب أفرادها من صف الضباط الذين تلقوا تعليمهم الفني في مدرسة رياق زمن الانتداب) بتجهيز الطائرات بحاملين، رُكب كل واحد منهما تحت أحد جناحي الطائرة، ويمكن للحامل الواحد أن يحمل قنبلة واحدة أو اثنتين، وكانت الطائرات تقلع من مطار المزة العسكري (الذي لا تتوفر فيه تجهيزات أرضية مناسبة) وتدخل ميدان المعركة فتسقط قنابلها على مراكز المقاومة المعادية ثم تعود إلى قاعدة انطلاقها. وسُمح لهذه الطائرات باستخدام مطار رياق العسكري في لبنان كمطار تبادلي في حال اللزوم. وكانت الاجهزة اللاسلكية غير صالحة لدوام الاتصال بين الطائرات والقاعدة، ولم يكن هناك طيران رصد، ولذا اضطرت قيادة السلاح لإفراز ضابط ارتباط يتمركز دوماً في مقر القيادة العامة للجبهة في القنيطرة أو في مركز الجمرك السوري قرب جسر بنات يعقوب لتعيين الأهداف. ورغم هذه النواقص والصعوبات فقد أدى سلاح الطيران السوري مهامه بشكل جيد، سواء في القطاع الجنوبي من الجبهة بقصف تجمعات العدو في مناطق سمخ ودكانيا، أو في القطاع الأوسط بقصف الأرتال المعادية التي تتحرك على الطرق بين نجمة الصبح (إيليت هاشاحر) وصفد وحتى مرج ابن عامر. وقد وصف أحد الطيارين السوريين، الذين اشتركوا في العمليات، ما قام به سلاح الطيران السوري في تلك الحقبة الصعبة، فقال: «وكان كل طيار منا يقوم ببضع طلعات يومياً، بسبب قلة عدد الطيارين، ولأن الميكانيكيين كانوا يتفانون في عملهم من أجل صيانة الطائرات وجعلها جاهزة للطيران، وبالرغم من أن طائراتنا هي في الأصل طائرات تدريب متقدم وليست طائرات قتال، فقد عدلناها لكي تحمل قنبلتين اثنتين تحت كل جناح زنة الأربعة 300كغ، كما ركبنا عليها رشاشين أحدهما أمامي للهجوم على الأهداف، والآخر خلفي يستخدمه الرامي للدفاع ضد أي طائرة تهاجمه عندما يكون الطيار بوضع لا يمكنه من إصابة الطائرة المهاجمة، وتأمنت جميع هذه التجهيزات الإضافية من الصحراء الليبية، حيث خلفتها هناك جيوش الحلفاء بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية». ومما يجدر ذكره أنه رغم ضعف سلاح الطيران السوري في تلك الحقبة، فقد حقق تفوقاً على سلاح الطيران الإسرائيلي وظل هذا التفوق قائماً حتى بدأت الهدنة الأولى، ففي خلال هذه الهدنة تمكن العدو من استقدام كميات ضخمة من الأسلحة، بما في ذلك الطيران، حيث حصل على عدد من الطائرات البريطانية المعروفة (سبيتفاير)، وعلى بضع قاذفات أمريكية من طراز بـ17، التي كان بوسع كل منها أن تحمل ما لا يقل عن ثلاثين قنبلة من زنة 100 ـ 200 كغ. وتشير (الموسوعة العسكرية) إلى هذا التحول: «لم يكن لدى إسرائيل خلال المرحلة الأولى من الحرب أكثر من 11 طائرة للتدريب والرياضة، من نوع تايغر، ولهذا فقد ركزت جهدها للإفادة من فترة الهدنة لشراء الطائرات المقاتلة، وطلب الدعم من الطيارين اليهود في جيوش العالم للالتحاق بإسرائيل، ونجحت القيادة الإسرائيلية في عقد صفقة مع تشيوسلوفاكيا لشراء طائرات سبيتفاير ومسرشميت، ووصل إلى إسرائيل 20 طائرة، علاوة على 20 طائرة أخرى تم نقلها على شكل قطع غيار، ونجح المندوبون السريون وعملاء إسرائيل في شراء 3 قلاع طائرة من طراز ب ـ17 من أمريكا، وهي قلاع مجهزة بحوالي 10 - 11 مدفعاً، علاوة على قدرتها على إلقاء 4 أطنان من القنابل». اتفاقية الهدنة الثانية: فشلت مساعي الوسيط الدولي، ورفض العرب واليهود مقترحاته، التي عدل بها الحدود التي جاء بها قرار التقسيم، فاستؤنف القتال بين الطرفين 9 تموز 1948، وقد أسفرت النتائج عن بدء تفوق العدو، على جميع الجبهعات، بعد أن انفرط عقد القيادة العامة العربية وأصبح كل جيش يحارب في موقعه متراجعاً دون أي تعاون مع الجيوش الأخرى، وقد تمكنت قوات العدو في هذه الفترة، من إحتلال مدينتي اللد والرملة، اللتين تتمتعان بموقع استراتيجي هام، وأدى سقوط هاتين المدينتين إلى انسحاب الجيش العراقي من موقع رأس العين، ومن شريط من الأراضي لا يبعد عن مدينة تل أبيب أكثر من 20كم، ومن بعض المواقع في سهول مرج ابن عامر.


وبمساعي الدول المؤيدة لليهود اعتبر مجلس الأمن استمرار القتال تهديداً للسلام العالمي، وأصدر قراراً بفرض هدنة ثانية إلى أجل غير مسمى، ابتداء من 16 تموز عام 1948، وعلى الرغم من ذلك استمر اليهود في خرقهم للهدنة، وشنّوا حملة ضد الجيش المصري المتمركز في الجزء الجنوبي من فلسطين، وإجلائه عن منطقة بئر السبع، ومن حصار كتيبة منه في منطقة الفالوجة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن التراجع الذي قام به الجيشان العراقي والأردني، بعد فرض الهدنة الثانية على العرب، قد أثر على إمكانيات جيش الإنقاذ في متابعة المقاومة، حيث انكفأت وحدات هذا الجيش إلى المنطقة الشمالية أولاً، وهناك تعرّضت لهجوم قوي، في 29 تشرين الأول 1948 انتهى إلى خروجها من الأراضي الفلسطينية وتمركزها في جنوبي لبنان. اتفاقيات الهدنة الدائمة وإنهاء العمليات: وضعت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ثقلهما الكامل لتأمين حياة دولة إسرائيل وانتصارها على العرب، ولذلك بدأت الدولتان تضغطان بشكل قوي على قادة الدول العربية لتوقيع اتفاقيات هدنة دائمة بدلاً من الهدنتين السابقتين، وقد اتخذ مجلس الأمن الدولي، في 4 تشرين الثاني 1948 قراراً يقضي بفرض هدنة دائمة بين العرب وإسرائيل، وبتأثير هذا القرار اجتمع رؤساء أركان الجيوش العربية المشتركة في الحرب، بمدينة القاهرة يوم 10/11 للتشاور حول الموضوع، وبعد استعراض الموقف من جميع جوانبه وعلى جميع الجبهات، وجدوا أنه ليس في وسع جيوشهم أن تقوم بشن هجمات جديدة على الإسرائيليين إلا ضمن شروط محددة أهمها تلبية حاجتهم الملحة إلى مجموعة من الأسلحة الحديثة والعتاد والذخائر، وأنه في حالة عدم تأمين هذه المتطلبات فإن الجيوش العربية ستضطر لأن تلتزم بحالة من الدفاع المستكنّ، ومعنى هذا أنه يحتمل أن تفقد أراضي جديدة في عقر دارها، وطلب رؤساء الأركان تحقيق المتطلبات التالية في حال تصميم الحكومات العربية على متابعة الحرب ضد الإسرائيليين: 1) تدارك حاجة الجيوش العربية من الأسلحة والذخائر والعتاد. 2) إعلان التعبئة العامة وتسخير كل موارد البلاد في سبيل المجهود الحربي. 3) حصر جهود الحكومات في تأمين احتياجات جيوشها، وعدم تدخل السياسيين في الشؤون الحربية، وترك حرية العمل للعسكريين في الجبهات الحربية. ونظراً لأن الحكومات العربية لم تكن في وضع يسمح لها بتنفيذ هذه المتطلبات، فقد قبلت التفاوض مع ممثلي العدو بشكل غير مباشر، وذلك في جزيرة رودوس، حيث كان الوسيط الدولي رالف بانش (الذي حل محل الكونت برنادوت بعد مصرع هذا الأخير في 17 أيلول 1948) يتولى نقل طلبات كل فريق إلى الفريق الآخر، وقد تم التوصل إلى أول اتفاقية هدنة بين الوفدين المصري والإسرائيلي، في جزيرة رودوس يوم 24 شباط 1949، ثم تلتها اتفاقية الهدنة اللبنانية - الإسرائيلية الموقع عليها في رأس الناقورة يوم 23 آذار من العام نفسه، ثم اتفاقية الهدنة الأردنية - الإسرائيلية بتاريخ 3 نيسان 1949، وفي آخر الأمر اتفاقية الهدنة السورية - الإسرائيلية في 20 تموز 1949، وأما الحكومة العراقية فلم توقع مع إسرائيل أية اتفاقية هدنة حتى اليوم. وقد أدت اتفاقيات الهدنة هذه إلى خسارة جديدة في الأرض الفلسطينية، فقد تخلى الجيش العراقي عن شريط واسع من الأرض على شكل قوس يمتد من نهر الأردن وحتى طولكرم وقلقيلية.

وزاد الأمر سوءاً انسحاب الجيش الأردني من موقع (أم الرشراش) الذي كان يحتله على شاطئ خليج العقبة، وهو الأمر الذي مكّن إسرائيل من أخذ منفذ لها على البحر الأحمر (مرفأ إيلات حالياً) ويصف أحد الباحثين العسكريين أثر تسليم موقع أم الرشراش على الوضع العربي العام في ذلك الوقت فيقول: «أما أسوأ ما حدث في الجبهة الأردنية، خلال مباحثات الهدنة في رودوس فهو التخلي عن أم الرشراش الواقعة على خليج العقبة، والتي سمّاها اليهود فيما بعد (إيلات)، فقد صمم اليهود على احتلالها، لتكون منفذاً لدولتهم على البحر الأحمر، فاتفقوا مع الإنكليز، الموجودين في منطقة العقبة، على ذلك وبموجب هذه الخطة أرسلت الحكومة البريطانية برقية إلى الوسيط الدولي، تقول فيها: إن قواتها لن تتدخل في حوادث جنوب النقب إلا إذا هوجمت من قبل الإسرائيليين، وأرسلت نسخة عن هذه البرقية إلى السلطات الإسرائيلية كما وصلت في نفس الوقت برقية إلى قائد القوة الأردنية الموجودة في الجنوب، مرسلة من كلوب باشا، تطلب منه الانسحاب من أم الرشراش والمناطق المجاورة، وهكذا أخليت هذه المنطقة الحساسة وقُدمت لليهود لقمة سائغة دون أي قتال». وقد توقفت العمليات العسكرية، على جميع الجبهات العربية رسمياً منذ أوائل شهر كانون الثاني 1949، وعلى الجبهة السورية، كان آخر «أمر قتال» صدر عن رئاسة الأركان السورية قبل توقيع اتفاقية الهدنة هو الأمر رقم 441/3 في 25 أيار 1949، وينص على تقسيم الجبهة الجنوبية الغربية إلى ثلاثة قطاعات دفاعية على النحو التالي: اللواء الأول يُكلف بالدفاع عن منطقة كعوش (القطاع الأوسط). اللواء الثاني يكلف بالدفاع عن منطقة بانياس (القطاع الشمالي). اللواء الثالث يكلف بالدفاع عن قطاع سمخ (القطاع الجنوبي). وقد تم تسليم قيادة الجبهة الجنوبية الغربية إلى قائد اللواء الأول. وبعد أن تم توقيع الهدنة السورية الإسرائيلية في تل مانهانايم يوم 20/7/1949 أرسلت رئاسة الأركان العامة السورية إلى الوحدات المتمركزة في الجبهة الكتاب التالي تحت رقم 663/3 س، بالتاريخ نفسه: أمر إداري الغرض:تمركز القطعات تنتهي العمليات الحربية بناء على قرار مجلس الدفاع اعتباراً من الساعة الواحدة من صباح 21 تموز 1949، تنفيذاً لأحكام هذا القرار ولاتفاقية الهدنة الدائمة تُتخذ الترتيبات التالية: 1) تسمى منطقة بانياس والدردارة وكعوش والبطيحة وعين جيف حتى سمخ منطقة منزوع سلاحها، يقصد بالمناطق المعينة أعلاه الأراضي الواقعة بين الحدود السورية الفلسطينية ومنتصف المنطقة الحرام التي تفصل خطوط الجيش الأمامية عن الخطوط اليهودية، ويُقصد بالمنطقة المنزوع سلاحها جملة من الأراضي يحظر على العسكريين دخولها، على أن يعود إليها سكانها الأصليون فقط من عرب ويهود تدريجياًـ حسب تعليمات تصدر عن لجنة الهدنة المشتركة، تكون المنطقة المنزوع سلاحها تحت رقابة اللجنة المشتركة الآنفة الذكر والقطعات السورية المكلفة بالتمركز على الحدود. 2) تسمى المنطقة الواقعة بين الحدود السورية - الفلسطينية والخط الممتد من عين فيت شمالاً باتجاه فيت جنوباً منطقة دفاعية محدودة التسليح، وكذلك المنطقة الممتدة من كفر جلعادي شمالاً باتجاه جسر دكانيا جنوباً. 3) يقصد بالمنطقة الدفاعية أراضي يُسمح لقطعات معينة بالتمركز والتجول فيها لغايات دفاعية بحتة. 4) تتمركز قطعات الجيش السوري في الأماكن التالية: اللواء الثالث: مركزه القنيطرة. • مقر الوحدات: فوج المدفعية الثالث، فوج المدرعات الثالث والهندسة: القنيطرة. • أفواج المشاة: الفوج السابع حوالي بانياس، الفوج الثامن حوالي الجسر، الفوج التاسع حوالي فيق وسمخ. • الكتائب: الكتيبة الثانية: المنصورة، الكتيبة الثالثة: فيق، درعا، الفوج الحادي والأربعون: إزرع. ينتهي تمركز القطعات حوالي 21/9/1949. رئيس الأركان العامة للجيش والقوات المسلحة اللواء عبد الله عطفة وفي 2 تشرين الثاني 1949 جلت القوات السورية عن رأس جسر كعوش، تنفيذاً لاتفاقية الهدنة الدائمة، وذلك بعد أن فجّرت جملة الإنشاءات والتحصينات الدفاعية التي كانت قد أقامتها في هذا الموقع طيلة سنة كاملة.




نتائج حرب فلسطين والدروس المستفادة منها

انتهت حرب فلسطين الأولى التي نشبت عام 1948، بتوقيع اتفاقيات الهدنة الدائمة بين البلدان العربية التي اشتركت جيوشها في الحرب (ما عدا العراق) وبين العدو الإسرائيلي. ورغم أن الجيوش العربية لم تخسر الحرب بالمعنى العسكري، حيث كانت جميعاً متوقفة في الأراضي الفلسطينية لا في أراضي حكوماتها الوطنية، يمكن القول في المقابل بأن الحكومات العربية قد خسرت هذه الحرب لأنها لم تتهيأ لدخولها أصلاً. ولا بد من التمييز بين (النتائج العسكرية) و (النتائج القومية والسياسية) التي انتهت إليها حرب فلسطين 1948، فإذا كانت الأخيرة سلبية وكارثية فإن النتائج العسكرية كانت مقبولة وخاصة قبل توقيع اتفاقية الهدنة الأولى في 11 حزيران 1948، ويمكن الإشارة هنا إلى أخطر النتائج السياسية والقومية التي قادت إليها هذه الحرب: 1) أدت إلى نشوء دولة إسرائيل، وزرعها كخنجر يفصل بين آسيا العربية وأفريقيا العربية. 2) أدت إلى احتلال الإسرائيليين لمعظم الأراضي الفلسطينية عدا (الضفة الغربية) التي ألحقت بمملكة شرقي الأردن، استناداً لمقررات مؤتمر أريحا، في أول كانون الأول 1948، حيث أصبحت الضفتان تشكّلان «المملكة الأردنية الهاشمية» وكذلك (قطاع غزة) الذي أخضع للإدارة العسكرية المصرية منذ عام 1948 وحتى عام 1967 . 3) تم تهجير الشعب العربي الفلسطيني من أراضيه، حيث خرج من الأرض الفلسطينية عام 1948/1949 ما يزيد على 800000 فلسطيني ولم يبق إلا 160000 منهم في مناطق الجليل والناصرة ويافا والنقب. 4) بث عدم الاستقرار السياسي والأمني في المنطقة، ودليل ذلك تعرّض سورية، على سبيل المثال لانقلابين عسكريين عام 1949 (انقلاب حسني الزعيم وانقلاب سامي الحناوي) واللذين يعتبران إفرازاً مباشراً للحرب، إضافة إلى ذلك تعرضت الدول الأربع المحيطة بإسرائيل لهجمات عدوانية متكررة وهو ما ألزمها بالحفاظ على حشود عسكرية قوية للدفاع عن نفسها، وصرف نفقات طائلة في هذا المجال كان بوسعها أن تخصّصها في مجالات التنمية. 5) كانت الحرب أحد الأسباب التي أدّت إلى اختلاف العرب فيما بينهم، بخصوص ما بقي من أرض فلسطين: فجامعة الدول العربية وخمسة من أعضائها (مصر، سورية، لبنان، اليمن، السعودية) أنشأت «حكومة عموم فلسطين» برئاسة أحمد حلمي، بينما لم تعترف الحكومتان الأردنية والعراقية بهذه الحكومة، وضمت الأولى الضفة الغربية إلى أراضيها، وقد سبّبت هذه الخطوة توتر العلاقات بين الأردنيين والفلسطينيين لمدة قاربت 20 عاماً. 6) أما بالنسبة للنتائج العسكرية فيمكن القول إن أداء الجيوش العربية في فلسطين، وخاصة قبل توقيع الهدنة يوم11 حزيران 1948 كان إلى حد ما مقبولاً، ولا يمكن قبول الفكرة القائلة بأن زمرة من العصابات قد تمكنت من قهر خمسة جيوش عربية نظامية عام 1948 فالجيوش العربية لم تدخل بكاملها في المعركة أو بالأحرى لم يُسمح لها بالدخول بكاملها في المعركة، ولم تدخل سوى قطعات محدودة منها، وذلك لأن السياسيين العرب الذين كانوا يمسكون بزمام الأمور في ذلك الوقت، اعتقدوا بان معركة فلسطين لن تكون أكثر من «مناوشة» وسينتهي الأمر بالقضاء على العصابات الصهيونية خلال أيام، وأثبت السياسيون العرب في ذلك أنهم كانوا يجهلون، أو يتجاهلون أن عدد أفراد العصابات الصهيونية هذه كان يزيد على 50000 مقاتل، وأن بعضهم قد اكتسب خبرة عسكرية متقدمة بانخراطه في الجيوش الأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية، هذا في الوقت الذي لم يزد عدد أفراد الجيوش العربية النظامية الخمسة التي زُجّت في الحرب على 20000 مقاتل أغلبهم لم يسبق له أن خاض معركة أو تلقى التدريب المناسب لذلك. وليس المقصود من هذا الكلام تبرير الأخطاء التي ارتكبت أو الإهمال الذي حصل، حيث من المعروف أنه هناك أخطاء عسكرية وسوقية تم ارتكابها، ويمكن أن نعدد فيما يلي بعضها كنوع من (الدروس المستفادة) من معركة فلسطين في عام 1948. 1) عدم الاستعداد: كانت الحكومات العربية، وقياداتها العسكرية غير مستعدة لخوض الحرب لأسباب تكمن فيها أو خارجة عنها: فبعض الحكومات كان يرتبط مع بريطانيا بمعاهدات عسكرية، وبعضها كانت جيوشه تحت قيادة ضابط بريطاني، أو مجموعة ضباط بريطانيين، وبعضها الآخر (مثل سورية ولبنان) كان قد خرج لتوه من ربقة الاستعمار ولم يتهيأ له الوقت والتدريب الكافيين للدخول في معارك حربية كبرى. 2) عدم كفاية الحشد: إن الحكومات العربية لم تلق بثقلها كاملاً في المعركة: فأحد الجيوش العربية دخل المعركة برتل من المتطوعين فقط، وجيش ثانٍ لم يقدم إلا 500 مقاتل لا أكثر، والجيش السوري ذاته لم يتدخل مبدئياً إلا بلواء واحد فقط من أصل الألوية الثلاثة التي كان يمتلكها، ثم زج اللواء الثاني بعد الهدنة الأولى (11 حزيران 1948)، وأما اللواء الثالث فقد بقي في الداخل، ولم يُزج في الجبهة إلا بعد توقيع الهدنة السورية - الإسرائيلية الدائمة في 20 تموز 1948. 3) سوء التسليح: كانت الأسلحة الموجودة في الجيوش العربية أسلحة قديمة، يعود أغلبها إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى أو لمرحلة ما بين الحربين، وكانت الذخيرة غير كافية، وخاصة بالنسبة لذخيرة الأسلحة الثقيلة، وقد تلقى قائد الرتل السوري مثلاً تأنيباً ضمنياً من رئيس الجمهورية، لما زار رتله في يوم 18/5/1948 حين سمع أنه قد استهلك 400 قنبلة مدفع في عملية القصف التمهيدي لبلدة سمخ قبل التقدم لاحتلالها، ولما حاول الجيش السوري زيادة تسليحه أثناء فترة الهدنة سُدّت في وجهه السبل من قبل دهاقنة السياسة الدولية وعملاء العصابات الصهيونية، وقد تمكنت القيادة السورية بعد جهد جهيد، وبعد سفر عدة «لجان شراء» إلى أوروبا من تأمين شحنة من الأسلحة بمبلغ 11 مليون دولار، وتم تحميلها على سفينة إيطالية أبحرت باتجاه بيروت، ولكن جملة مؤامرات دبرتها الصهيونية وأجهزة الاستخبارات الغربية تسببت في تفجير السفينة وتعطيلها ثم قطرها إلى إسرائيل بدلاً من بيروت. وتمكن الجيش المصري من شراء صفقة من الأسلحة والذخيرة ولكن تبين عند تجربتها أنها لا تصلح للاستخدام، أو أن استخدامها يمكن أن يضر بالسدنة أو الرماة الذين يستخدمونها، وهذا ما دُعي باسم «صفقة الأسلحة الفاسدة» (لقد كانت هذه الصفقة سبباً مباشراً لاغتيال رئيس الوزراء المصري، وسبباً مباشراً لتشكيل جماعة «الضباط الأحرار» في مصر 1956). 4) الأخطاء السوقية: ومنها التعديل المفاجئ في الخطط التعبوية، كما حصل مثلاً مع الرتل السوري، الذي كلّف بداية بالتحشد على الحدود اللبنانية الجنوبية، ودخول الأراضي الفلسطينية من جهات بنت جبيل - عيترون، ثم جرى سحبه إلى قطاع فيق - سمخ لزجه في المعركة هناك، علماً بأن هذا القطاع هو أكثر قطاعات الجبهة الإسرائيلية منعة بسبب وجود «خط إيدن» وعشرات المستعمرات الصهيونية فيه. 5) الافتقار إلى التعاون بين الجيوش العربية: فالرتل العراقي الذي كان موجوداً في منطقة جسر المجامع يوم 19 أيار 1948، إلى يسار الرتل السوري قد تم سحبه ليلة 19 /20 أيار دون إعلام قيادة الرتل بذلك، بالرغم من وجود ضابط ارتباط سوري لدى الرتل العراقي، وضابط ارتباط عراقي لدى الرتل السوري، وكمثال ثان يمكن الإشارة إلى عدم وجود تنسيق في العمليات بين قطعات الجيش السوري في كعوش وقوات جيش الإنقاذ في الجليل الأعلى، علماً بان المسافة بين وحدات هذا الجيش وذاك لم تكن أكثر من 15 كيلومتراً، ولعلّ السبب في ذلك هو أن جيش الإنقاذ كان تابعاً للقيادة العراقية العليا في عمّان، بينما الجيش السوري كان يتبع القيادة العسكرية السورية في دمشق. 6) قبول الهدنة الأولى: في 11 حزيران 1948 وذلك بعد أن تمكنت الجيوش العربية من احتلال ثلاثة أرباع الأراضي الفلسطينية، فقد اغتنم العدو فرصة الهدنة للتعزيز والتدريب والتنظيم وعقد الصفقات المشبوهة مع الدول الكبرى، وهذا ما أحدث اختلالاً في ميزان القوى لصالح الإسرائيليين بعد انتهاء هذه الهدنة، وإن نظرة واحدة على خارطة توزع القوات العربية والإسرائيلية عند بدء هذه الهدنة، ثم كيف أصبحت هذه القوات بعد عام واحد عند تطبيق أحكام الهدنة الدائمة، تكشف مقدار التوسع الإقليمي الذي حققته القوات الإسرائيلية في هذه المرحلة. 7) بطء حركة الجيوش العربية، وعدم انتظام شؤونها الإدارية وهي أمور بالغة التأثير في مجرى المعركة، فسرايا الرشاشات السورية كانت لا تزال تستخدم البغال والرواحل في تنقلها، والاتصالات كانت لا تزال تتم عن طريق المراسلين، وليس بطريقة الأجهزة اللاسلكية، ولما تم الحصول على أجهزة لاسلكية جديدة (الجهاز 19) لم يتوفر من يجيد استخدام هذه الأجهزة في الوحدات. كلمة ختامية: وهكذا لا يمكن الجزم بأن حرب فلسطين عام 1948 كانت حرباً خاسرة بالمعنى العسكري، رغم كل الثغرات والأخطاء، ذلك لأن الجيوش العربية التي دخلت إلى الأراضي الفلسطينية ظلت حتى توقيع الهدنة الدائمة تحارب فوق هذه الأراضي، ولم تدخل القوات الإسرائيلية بتاتاً إلى أراضيها الوطنية. وبالتركيز على أعمال الجيش العربي السوري يتضح أن هذا الجيش قد احتل مدينة سمخ ومستعمرة شعار هاجولان في 18 أيار 1948 ثم انسحب منها لأسباب تكتيكية، إلا أنه ظل محتفظاً بشريط المرتفعات الذي يمتد من (الحاوي العسكري) جنوباً حتى (قلعة الحصن) شمالاً، وفي القطاع الأوسط بذل الجيش السوري ضروباً هائلة من الشجاعة عند احتلاله لمستعمرات كعوش (مشمارهايردن) وتل أبو الريش والدردارة وخان يردة، وقد وسّع هذا الجيب وبقي محتفظاً به حتى توقيع الهدنة السورية - الإسرائيلية الدائمة في 20 تموز 1949، وفي القطاع الشمالي تمكن رتل الهجوم الذي أفرزه الجيش السوري من احتلال موقع (تل العزيزيات) بعد انتهاء الهدنة الأولى وقبل فرض الهدنة الثانية على العرب و«عند إعلان الهدنة الثانية كان المدفع السوري آخر مدفع أصابه الصمت، وكان الجندي السوري آخر جندي أغمد السلاح ذلك لأن اليهود اغتنموا فرصة حلول موعد الهدنة فحاولوا انتزاع بعض المواقع الاستراتيجية الهامة من وحدات الجيش السوري، فخاض الجنود السوريون البواسل معهم معركة عتية شاقة ظلت مستمرة ردحاً من الزمن بعد حلول موعد الهدنة الثانية وذلك في سبيل المحافظة على ما كان في أيديهم أثناء وقف القتال الرسمي وأخيراً تمت لهم الغلبة في تلك المعركة». وقد عَمّدَ الجيش السوري انتصاراته هذه بضريبة الدم، ففقد حوالي 300 شهيد من أفراده، بينهم حوالي 40 صف ضابط و11 ضابطاً. وبهذا طبّق هذا الجيش الحكمة الواردة في بيت الشعر المنقوش على مدخل الكلية الحربية في حمص وهو البيت القائل: تقضي الرجولة أن نمدّ جسومنا جسراً فقل لرفاقنا أن يعبروا

الانقلابات العسكرية والعودة إلى الحياة الدستورية

انقلاب حسني الزعيم

انقلاب حسني الزعيم (فجر الأربعاء 30آذار 1949):

أسباب الانقلاب لم يكن قد مضى ثلاث سنوات على استلام وحدات الجيش السوري من سلطات الانتداب الفرنسي، حتى خاض هذا الجيش الفتي حرب فلسطين بإمكانيات متواضعة سواءً من حيث العَدد أو العُدد أو تدريب الأفراد، مع ذلك فقد تمكن من خوض معارك باسلة وتحقيق نتائج مقبولة في هذه الحرب. وقد كان الشعور العام لدى قيادة الجيش السوري ولدى ضباطه أنّ القيادة السياسية لم تكن على مستوى الطموحات والآمال المعقودة عليها، وأنه كان بالإمكان الخروج بنتائج أفضل لو كان هناك إعداد واستعداد كافيان من الهيئات السياسية الحاكمة. وبالمقابل فإن الهيئات السياسية الحاكمة، سواء على المستوى التشريعي(مجلس النواب)، أم على المستوى التنفيذي(رئيس الجمهورية والحكومة)، كانت تأخذ على القيادة العسكرية أن النتائج التي حصل عليها الجيش في حرب فلسطين (احتلال ثلاث مستعمرات وتَّليْن ومساحات صغيرة من المناطق الحدودية) كانت أدنى من المأمول، ولذلك عملت على إقالة قائد الجيش(الزعيم عبد الله عطفة)، وقائد الرتل السوري المكلف بالهجوم(العقيد عبد الوهاب الحكيم) بعد فشل الهجوم السوري على مستعمرتي(دكانيا ـ آ) و(دكانيا ـ ب) في الثلث الأخير من شهر أيار 1948. وقد تفاقمت أزمة انعدام الثقة وتبادل الاتهامات بين الطرفين في أوائل عام 1949 من جراء إقدام بعض النواب والزعماء السياسيين على انتقاد قيادة الجيش تحت قبة البرلمان وعلى صفحات الجرائد. بل إن الحكومة، تحت ضغط هذا الاتجاه، شكلت لجنة برلمانية برئاسة السيد صبري العسلي وعضوية عدد كبير من النواب .«باشرت في تحقيقاتها واستفساراتها واتخذت مركزاً لها في مقر وزارة الدفاع الوطني.وبعد البحث والتدقيق استمعت إلى إفادات ثلاثين ضابطاً من ضباط الجيش السوري في مقدمتهم حسني الزعيم.. وفي النهاية نَظمت ضبطاً بلغ المائتي صفحة، ولا يُعلم ماذا حل بهذه التحقيقات بالموضوع». ولم تنتظر الحكومة ـ التي كانت يرأسها خالد العظم ـ نتيجة هذه التحقيقات، بل أخذ بعض أعضائها يتهمون علناً ضباط القيادة بالفساد. وقد تحمل الجيش هذه الحملة المغرضة بصبر في بداية الأمر، إلا أنّ حدثين هامين وقعا في النصف الأول من شهر آذار 1949جعلا قيادته تتذمر علناً من هذه الأوضاع وتطالب الهيئات السياسية الحاكمة صراحة بإصلاحها: • الحدث الأول كان توقيف عدد من الضباط والموظفين المدنيين في وزارة الدفاع بتهمة الفساد. • الحدث الثاني هو قيام الحكومة، في محاولة منها لإيجاد وسائل من شأنها إصلاح الوضع النقدي في البلاد، بتخفيض رواتب العسكريين، وعدم إقرار العلاوات التي تم اقتراحها لهم في مشروع قانون الجيش الجديد، الذي رفعته وزارة الدفاع إلى مجلس النواب، ولم يعتمده هذا المجلس بعد. إن جملة هذه الأوضاع سبّبت اتساع مشاعر الاستياء لدى أفراد الجيش وقياداته. ويصف لنا أحد الضباط السوريين المعاصرين للأحداث مشاعر الإحباط التي كان الجيش يعاني منها في ذلك الوقت فيقول: «كان الجو مهيئاً في القوات المسلحة(لحدوث انقلاب) بعد الاتهامات الموجهة إليها، وبعد سوء سلوك بعض السياسيين تجاهها، ووصل الأمر إلى امتهان كرامة الجيش، وأخطأ جميل مردم بك خطأً فادحاً حين أهان أحد ضباط الجيش في الجبهة، كما كان لأحمد الشرباتي أسوأ الأثر لتصرفه كوزير دفاع مع قيادة الجيش قبل مجيء حسني الزعيم». وقد حاول حسني الزعيم نقل مشاعر الاستياء هذه، التي كانت تسيطر على الجيش، إلى قائده الأعلى الرئيس شكري القوتلي، فطلب مقابلته في 25/3/1949، وقدم له «مذكرة خطية» موقع عليها من حوالي خمسة عشر ضابطاً من كبار ضباط القيادة، وتحوي عدة مطالب لإصلاح الوضع كان أهمها: 1 ـ محاكمة المسؤولين عن عدم تحضير الجيش وإعداده وتسليحه وتجهيزه منذ عام 1945 حتى حرب فلسطين. 2 ـ تصديق قانون الجيش من قبل المجلس النيابي في دورته الحالية، وقبل إقرار الموازنة وغيرها من القوانين. 3 ـ عدم التعرض في المستقبل لمناقشة أمور الجيش في جلسات علنية. 4 ـ الكف عن مناقشة المسائل العسكرية من قبل المدنيين، وتعيين اللجان لها من العسكريين الموجودين في الخدمة الفعلية.

نص المذكرة التي قدمها حسني الزعيم إلى رئيس الجمهورية في أواخر شهر آذار 1949

ولكن الرئيس القوتلي لم يقرأ «المذكرة» ولم ينظر في مطلب القادة العسكريين الذين قدّموها،بل وجّه اللوم إلى الزعيم على استلامها منهم وتقديمها باسمهم، وقال له من الأفضل الاهتمام بتدريب الجيش وتنظيمه بدلاً من تقديم « الاستدعاءات».

وكانت هذه المذكرة، أو بالأحرى رفض استلام هذه المذكرة والنظر في محتواها، من قبل رئيس الجمهورية هي السبب المباشر التي حفزت حسني الزعيم على أن يجمع الضباط القادة في القنيطرة ويفاتحهم في أمر الانقلاب. ويقرّ خالد العظم في مذكراته بأنه أعد مرسوما بتسريح الزعيم، وحمله إلى الرئيس القوتلي طالباً منه اعتماده بتوقيعه، كي يستبق ما يعُّده الزعيم، ولكن القوتلي طلب من العظم التريث إلى ما بعد التوقيع على اتفاقية الهدنة مع إسرائيل! ويعلق العظم على ذلك بقوله: «وهكذا سمحنا لحسني الزعيم أن يتغدّى بنا». وقد تكون هذه الحادثة هي التي دفعت بشكل مباشر حسني الزعيم إلى القيام بانقلابه ضد شكري القوتلي. أما الأسباب غير المباشرة فكثيرة: بعضها عام يتعلق بالمساس بكرامة الجيش ككل، وبعضها خاص يتعلق بالمساس بكرامة حسني الزعيم شخصياً، وخاصة الهجوم الذي شنّه عليه النائب فيصل العسلي، رئيس الحزب التعاوني الاشتراكي تحت قبة البرلمان. ولم تكن معنويات المدنيين أفضل من معنويات رجال الجيش وقادته في تلك الفترة(آذار 1949). ويقدم لنا النائب السابق غالب العياشي صورة قاتمة عنها حيث يقول: «كان لابد إزاء هذه البوادر من نشوب ثورة شعبية داخلية تطهر النفوس من خبثها وعاداتها البالية (...) وهكذا كان العقلاء يسعون للوصول من وراء كفاحهم ونضالهم بعد نيل الاستقلال، فكانوا يهيئون السبل لذلك، ويعدون القوة له فإذا بالجيش يسبقهم إلى هذه الوثبة الجبارة (أي الانقلاب)، التي فرح الشعب لها وأيدها ورحب ترحاباً لا مثيل له بها، و توخى من ورائها التقدم والحياة الهنيئة التي ترتكز على دعائم القوة والفضيلة والتجدد». وتؤكد مذكرات خالد العظم، رئيس الحكومة السورية في ذلك الوقت هذه الشهادة، لكنه يلقي بالمسؤولية عن مساوئ الحكم على عاتق شكري القوتلي وجميل مردم بيك فيقول: «كان القوتلي ومردم بيك أسوأ ممثلين للقادة الذين تسيطر عليهم حاشيتهم فيطلقون يدها لقاء دعمها وتأييدها لهم في الأوساط الشعبية. وكان هذان الزعيمان العامل الرئيسي لقيام الموجة الكاسحة التي أيدت انقلاب حسني الزعيم تخلصاً من عهد ذميم مرذول». من هو حسني الزعيم؟ ولد حسني الزعيم في مدينة حلب سنة 1894، وكان أبوه يعمل مفتشاً في الجيش العثماني. أتمَّ دراسته الابتدائية في حلب والإعدادية في دمشق، ثم التحق في المدرسة الرشيدية العسكرية في اسطنبول وأدرنه حيث تخرج منها برتبة ملازم ثان سنة 1917، والتحق في الخدمة في المدينة المنورة. ثم اشترك في معارك فلسطين أوائل عام 1918 حتى وقع أسيراً في يد الإنكليز حيث نقلوه إلى مصر. وعندما أطلق سراحه التحق بالجيش العربي الفيصلي، ولكنه لم يلبث أن استقال من الخدمة لأنه لم يكن راضياً عن مركزه.وعند تشكيل«القطعات الخاصة» التابعة لجيش الشرق الفرنسي سنة 1921 تطوّع فيها، ثم اتبع دورة تأهيل في (المدرسة الحربية) بدمشق فثبِّت بعدها برتبة ملازم فملازم أول فنقيب 1928، ثم رفع إلى رتبة مقدم عام 1934. أُرسل إلى فرنسا لاتباع (دورة اجتياز رتبة) ولما عاد منها تم ترفيعه إلى رتبة عقيد عام 1941. وبعد ترفيعه إلى هذه الرتبة بقليل حصل الهجوم البريطاني -الديغولي على المنطقة، فقام الجنرال دنتر، قائد قوات فيشي في سورية ولبنان، بتسليمه كمية من التجهيزات والأسلحة والعتاد، ومبلغاً من المال، لتشكيل قوة تدافع عن دمشق بأسلوب حرب العصابات، وقد بدأ الزعيم بتنفيذ هذه المهمة فعلاً، ولكنه لما لاحظ أن الإنكليز والديغوليين هم المنتصرون، توارى عن الأنظار في أواسط شهر حزيران 1941، وعندما استقر الأمر لقوات فرنسا الحرة (الديغولية). علم قائدها الجنرال كاترو بأمر المال والتجهيزات فأمر بالقبض على حسني الزعيم ومحاكمته، حيث تمّ الحكم عليه بعقوبة السجن مع تجريده من الرتبة العسكرية. وبعدما استلم شكري القوتلي رئاسة الجمهورية (آب 1943) توسّط في شأنه فتم إطلاق سراحه عام 1944 حيث عاش دون عمل حتى استقر الحكم الوطني بعد الجلاء، وأعيد حينئذ حسني الزعيم إلى الخدمة وعين قائداً للمنطقة الشرقية في دير الزور، ثم مديراً للشرطة والأمن العام في دمشق. وبعد إقالة الزعيم عبد الله عطفة رئيس الأركان العامة، والعقيد عبد الوهاب الحكيم قائد الرتل السوري، جرى تعيين الزعيم حسني الزعيم قائداً للجيش ورئيساً للأركان لأنه كان الضابط الأقدم، فمكنه هذا المنصب من تحقيق طموحه القديم بأن يستلم الحكم في سورية. عُرف حسني الزعيم أنه كان يهوى الحياة العسكرية الصارمة، وكان يقلد في تصرفاته الشخصيات العسكرية التي لعبت دوراً أساسياً في تاريخ شعوبها. وقد حاول أن يقلد أتاتورك بإلغاء الأوقاف الذرية وإدخال الحفلات الساهرة في نوادي الضباط. والزعيم حسني الزعيم هو الضابط السوري الوحيد الذي كان يرتدي المونوكل (العوينة الواحدة) على الطريقة البروسية، كما يظهر في بعض صوره. هوية الانقلاب أكد الزعيم أكثر من مرة، في مقابلاته الصحفية أن حركته حركة عربية محضة، لم تأخذ ولا تأخذ أوامرها من أيه دولة أجنبية، ويميل أغلب المحللين السياسيين والمؤرخين إلى الاقتناع بصحة قوله في هذا المجال، ولكن هناك نفراً من هؤلاء وأولئك، وخاصة الأجانب منهم يميلون إلى تأكيد وجود يد أجنبية، وهي اليد الأمريكية وراء الانقلاب، وهناك من يقول أنه كانت هناك أكثر من يد أجنبية ساعدت حسني الزعيم على القيام بانقلابه، ويأتي على رأس هؤلاء المشككين مايلزكوبلاند، أحد رجال المخابرات الأمريكية في الشرق الأوسط، حيث يقول في كتابه المعروف «لعبة الأمم»: «كان انقلاب حسني الزعيم، من إعدادنا وتخطيطنا فقد قام فريق العمل السياسي بإدارة الميجر (ميد)بإنشاء علاقات صداقة منتظمة مع حسني الزعيم ومن خلال هذه الصداقة اضطلعنا نحن في السفارة بمهمة وضع كامل خطة الانقلاب، وإثبات كافة التفصيلات المعقدة، إلا أن تحركاتنا لم تثر أكثر من شكوك لدى الساسة السوريين، فقد كانت كلها سرية ومتقنة الوضع والتخطيط». ويربط مؤلف روسي بين انقلاب الزعيم وبين خطط تسويق البترول وشحنه من منطقة الشرق الأوسط إلى بلدان الغرب الأوربي والأمريكي حيث يقول: «كان للحرب العربية - الإسرائيلية عام 1948 أعظم الأثر على مصير اتفاق التابلاين مع سورية، طالب الكثيرين في العالم العربي باستخدام سلاح النفط كوسيلة للضغط على الغرب. وكانت سورية بالنسبة لتصدير النفط من أهم الأقطار العربية على الإطلاق، رغم كونها أكثرها تحسساً بالهزيمة، فقد شهد عام 1948 صراعاً نفسياً مريراً حول اتفاق التابلاين، واستجابة لموقف الرأي العام السوري المعارض بعنف لهذا الاتفاق عمد البرلمان إلى تأجيل مناقشة الاتفاق، وفي نهاية شهر آذار 1949 أطاح انقلاب حسني الزعيم بالحكومة، وحُلّ البرلمان فأخرج الاتفاق من دائرة الجمود بعد أن زالت عقبة قانونية من طريقه». أما وكالة تاس السوفيتية فإنها تجعل الانقلاب «إنتاجاً مشتركاً» بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، حيث تقول في نشرة لها أصدرتها عند وقوع الانقلاب: «وكان انقلاب حسني الزعيم في 30 آذار مؤامرة دبرتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، بالتعاون مع السفارة الفرنسية بدمشق، للإطاحة بالنفوذ البريطاني في المنطقة، فمن المعروف أن هذه المنطقة الغنية بالنفط تشهد اليوم صراع الحلفاء من أجل الثروة». والحقيقة أنه ينبغي على الباحث الحيادي أن يميز بين أمرين: أن يكون الانقلاب من تدبير أمريكا شيء، وأن يكون الأمريكيون قد استفادوا منه أكثر من غيرهم شيء آخر، إذ إن الأمر الأول مجرد احتمال، أما الثاني فحقيقة مؤكدة وفي تقييم خالد العظم للانقلاب يقول: «ولا استبعد وجود يد أجنبية سعت إلى قلب الأوضاع في سورية، ولئن كان من الصعب إثبات هذا الأمر بأدلة محسوسة، فإن تطور الحوادث السابقة واللاحقة تسمح بالشك في ذلك». والاعتقاد بأن الانقلاب حركة داخلية محضة، استغلتها بعض الأطراف الأجنبية لمصلحتها بعد نجاحها، (اتفاقات التابلان)، (اتفاق تصفية الأملاك الفرنسية المعلقة)، وهذا الرأي يؤيده المحلل السياسي البريطاني باتريك سيل، حيث يقول في الحكم على هذا الانقلاب: «ذكرت المصادر الموثوقة الأمريكية أن المخابرات الأمريكية والبريطانية علمت بوقوع الانقلاب قبل أيام، ولكنها لم تفعل شيئاً لمؤازرته، أو لدفعه (أي منع وقوعه)، إن المساندة للزعيم جاءت بعد الانقلاب، وإن تصديق الزعيم لهذه الاتفاقيات (أي التابلاين والأنابيب البريطانية)، يجب أن يؤخذ على أساس أنه انعكاس لحاجة الزعيم إلى كسب الأصدقاء للاعتراف بانقلابه، أكثر مما هو دعم فرنسي أو أمريكي أو بريطاني لتجهيز الانقلاب قبل القيام به». إنجازات الانقلاب بدأ الانقلاب بداية جديدة تجسد رغبة الجماهير في القضاء على المساوئ التي كانت متفشية في العهد الوطني الأول، ولكن رصيده بدأ يتناقص شيئاً فشيئاً في قلوب هذه الجماهير، لأنه لم يستطع إزالة المساوئ السابقة، بل أنه أضاف إليها مساوئ أخرى. ويمكن تقسيم منجزات العهد الإيجابية إلى المجالين المدني والعسكري كما يلي: آ ـ ففي المجال المدني حقق عهد حسني الزعيم جملة منجزات تشريعية منها على سبيل المثال: إلغاء الأوقاف الذرية، وسن قانون بفرض ضريبة على «الأرباح الفاحشة» وإقرار قانون مدني جديد بدلاً من (مجلة الأحكام العدلية)، وقانون عقوبات جديد بدلاً من (قانون الجزاء العثماني)، وقانون تجاري جديد بدلاً من (قانون التجارة العثماني)، الذي تجاوز الزمن بأحكامه. كما أصدر الزعيم تشريعات تم تطبيقها في حينه ثم أُلغيت أو زال مفعولها مع تغير الزمن، ومن هذه التشريعات: • تشكيل لجنة تحقيق في قضايا سوء استعمال السلطة وباستغلال النفوذ للإثراء غير المشروع، وقد عيّن الزعيم عدداً من القضاة ورجال السياسة والضباط للاشتراك في لجنة التحقيق هذه وإتمام عملها. • المرسوم التشريعي رقم /105/ تاريخ 4 حزيران 1949 بتأليف مجلس عدلي للنظر في الجرائم المنصوص عنها في قانون حماية الاستقلال. • المرسوم التشريعي رقم /125/تاريخ 11 حزيران 1949 بإحداث مكتب شكاوى، حيث «كان يلجأ إليه كل من يدعي بشكوى حديثة كانت أم قديمة، وعن طريق هذا المكتب كانت تنسق الشكاوى وتحال إلى المراجع ذات الصلاحية لدرسها وإعطاء الأجوبة عليها بعد التحقيقات عنها بسرعة». ويبدو أن غاية الزعيم من إنشاء هذا المكتب كانت للدعاية لحض أبناء الشعب على انتخابه كرئيس جمهورية، لأنه أنشأه في الفترة التي رشح نفسه لهذا المنصب، ثم ألغاه بعد حوالي شهر ونصف بالمرسوم رقم /25/ تاريخ 21 تموز 1949، بعد انتخابه رئيساً للجمهورية. ب ـ أما في المجال العسكري: يمكن الإشارة إلى المنجزات التالية: 1ـ حاول الزعيم زيادة عدد أفراد الجيش فطبق نظام خدمة العلم وأصدر نظاماً خاصاً بتعيين الأفراد والرتباء في الجيش والتعاقد مع الرتباء المسرحين دون التقيد بشرط السن، وحفظاً لكرامة الجنود، ألغى الزعيم النظام الذي كان متبعاً وهو استخدام «وصيف» لدى كل ضابط، وعوّض الضباط عن ذلك بمنحهم تعويضاً مالياً مقطوعاً باسم «بدل وصيف» وذلك بموجب الأمر العسكري رقم /4/ تاريخ 31/3/1949. وبالنسبة للضباط قام الزعيم بإعادة عدد من الضباط الكبار للخدمة(اللواء عبد الله عطفة، العقيد عبد الوهاب الحكيم ..)، وبتعيين نفر من الضباط العراقيين في الجيش والطيران (الرؤساء: حسن ذنون، عصام مريود، محمود الرفاعي ...) وتجنيس الضباط اللبنانيين الذين يرغبون الخدمة في الجيش العربي السوري (المقدم شوكت شقير ...) كما أمر الزعيم بتسوية أوضاع حوالي ستين ضابطاً فلسطينياً تم تثبيتهم برتبة ملازم ثان في الجيش السوري، وبهذا الشكل ازداد عدد الضباط بشكل ملحوظ، مما اقتضى تشكيل لجنة خاصة لتصنيف هؤلاء الضباط وتثبيتهم في الرتب التي يستحقونها. واهتم الزعيم بتزويد الجيش بالعدد اللازم من الأطباء والصيادلة سواء عن طريق التطوع أم عن طريق الدعوة إلى خدمة العلم. 2ـ أشرك الزعيم فئات المدنيين في واجب المساهمة في الدفاع عن الوطن، وذلك عبر المرسوم التشريعي رقم /137/ تاريخ18 حزيران1949، بتسمية الأول من كل شهر باسم (يوم التبرع للجيش) يُدعى فيه المواطنون من مقيمين ومغتربين إلى التبرع للجيش بما لا يقل عن نفقات يوم كامل. ومن هذا القبيل أيضاً جواز مصادرة العمال للمشاركة بأعمال التحصين حيث قضى المرسوم التشريعي رقم /32/ تاريخ 30 تموز1949 بـ «تخويل وزير الدفاع الوطني تكليف العمال في الأعمال الإنشائية التي يقوم بها الجيش لتعزيز وسائل وأسباب حماية الأراضي السورية». 3 ـ أصدر الزعيم قانوناً جديداً لتنظيم وزارة الدفاع الوطني،المرسوم التشريعي رقم /151/ تاريخ 22 حزيران 1949المتضمن تشكيلات وزارة الدفاع الوطني

وقانوناً جديداً للجيش المرسوم التشريعي رقم /152/ تاريخ 22 حزيران 1949 المتضمن قانون الجيش

وثلاثة مراسيم بإنشاء «الوسام الحربي» و «وسام جرحى الحرب» و« وسام الشرف العسكري». وبالإضافة إلى كل ذلك سلسلة من المراسيم والقرارات التنظيمية ضمن إطار قيادة الجيش ورئاسة الأركان العامة التي تولاها اللواء عبد الله عطفة من جديد. الأخطاء التي ارتكبت في فترة حكم الزعيم إن الإنجازات التي جرت خلال هذه الفترة في المجالين المدني والعسكري لا يمكنها أن تمحو الأخطاء التي اقترفت في المجال الخارجي فقد كبّل الزعيم سورية بعدد من الاتفاقيات الدولية المجحفة بحق الخزينة السورية والسيادة السورية، ويصف العياشي ذلك بقوله: «انهالت عليه الاتفاقيات الاقتصادية السياسية والعسكرية من الدول الغربية.. تلك الاتفاقات الجائرة التي قاومتها البلاد وحالت دون تنفيذها في زمن الحكام السابقين وأصبحت تبرم من قبل حسني الزعيم وبجرة قلم وبإرادة دكتاتورية فردية دون أن يكون للأمة رأي أو كلمة فيها». والمعروف أن الدستور السوري الذي كان مطبقاً قبل الانقلاب هو دستور 1930، الذي كان يمنح الحكومة حق التفاوض على المعاهدات والاتفاقيات الأجنبية وتوقيعها، بينما كان يترك سلطة التصديقRATIFICATION لمجلس النواب، وسلطة الإبرامPROMULGTION لرئيس الجمهورية فلما وقع انقلاب 30 آذار 1949 أصبح الزعيم حسني الزعيم يمسك بالسلطتين التنفيذية والتشريعية معاً، وبهذا تمكن من إقرار خمس اتفاقيات دولية، مع حكومات وشركات أجنبية كان قد تعذر إقرارها في الحكم الدستوري الشرعي السابق وهي حسب التسلسل الزمني والأهمية: 1ـ اتفاقية التابلاين وذلك لإمرار أنابيب البترول لشركة آرامكو الأمريكية من شرقي السعودية وعبر منطقتي حوران والجولان إلى مصفاة (الزهراني) في لبنان، وكانت الحكومة السورية قد سبق وعقدت هذه الاتفاقية مع الشركة ولكن مجلس النواب السوري لم يصدق عليها بسبب طول مدة الامتياز(70سنة) وقلة رسوم العائدات السنوية التي تدفعها الشركة إلى الخزينة السورية، وقد أعادت الشركة تفاوضها مع حسني الزعيم فصدق الاتفاقية كما هيـ بالمرسوم التشريعي رقم /74/ تاريخ 16 أيار 1949. وحاول المحامي فتح الله صقال، المسؤول عن وزارة الاقتصاد الوطني في تلك الفترة، بعد أن أدرك فداحة الغبن الذي حلّ بالسيادة السورية بالخزينة العامة من جرّاء هذه الاتفاقية، أن يتدارك الأمر، فرفع مذكرة إلى رئيس مجلس الوزراء يقترح فيها تعديل بنودها تعديلاً جوهرياً، ويلخص تلك التعديلات في النقاط التالية: 1 ـ أن تكون للإنشاءات صلة وثيقة بالمشروع نفسه، وأن لا تتحدى السيادة القومية. 2 ـ أن تخضع الشركة لدفع جميع الرسوم والضرائب لأن المشروع تجاري بحت، تقوم به أربع شركات هي ولاشك أغنى شركات العالم. 3 ـ أن تتعهد الشركة بإنشاء مرفأ على أحد السواحل السورية نخص بالذكر ساحل اللاذقية. 4 ـ أن تتعهد الشركة بطرح قسم من أسهمها على الأسواق السورية. 5 ـ أن تتعهد الشركة باستخدام موظفين سوريين بنسبة 75بالمئة، وعمال سوريين بنسبة تسعين في المئة. 6 ـ أن تحدد للحكومة حصة سنوية بمبلغ يتناسب وضخامة المشروع. 7 ـ أن يباع الزيت الخام بالعملة السورية لا بالدولارات المفقودة في البلاد. ولكن مقترحات الصقال لم يؤخذ بها. 2 ـ اتفاقية أنابيب الشرق الأوسط وهي اتفاقية كانت الحكومة السورية قد عقدتها مع (شركة خطوط أنابيب الشرق الأوسط البريطانية)، التابعة لشركة البترول العراقية، وقد صدقها الزعيم كسلطة تشريعية وأبرمها كرئيس دولة، بالمرسوم التشريعي رقم /140/ تاريخ 20 حزيران 1949. 3 ـ اتفاقية إنشاء المصافي: وهي اتفاقية إنشاء مصفاة بحرية أو أكثر(مصفاة بانياس) تم توقيعها مع (شركة المصافي البحرية البريطانية)، وقد صدقها وأبرمها حسني الزعيم بالمرسوم التشريعي رقم /141/ تاريخ 20حزيران 1949. 4 ـ الاتفاقيات السورية الفرنسية: بموجب المرسوم التشريعي رقم /22/ تاريخ 20 نيسان 1949 قام الزعيم بتصديق ثلاث اتفاقيات معقودة بين الحكومة السورية وحكومة الجمهورية الفرنسية، وهي على التوالي: اتفاقية التصفية، اتفاقية المطاليب، واتفاقية المدفوعات، وقد صرّح الزعيم بعد ذلك إلى مندوب جريدة سويسرية ناطقة بالفرنسية حول ضرورة هذه الاتفاقية: «إن فرنسا صديقتنا، وسيُفتح عهد من التعاون والتفاهم بين باريس ودمشق». 5 ـ اتفاقية الهدنة السورية ـ الإسرائيلية: التي تم التوقيع عليها في «مرتفع 232 قرب مستعمرة ماهانايم» يوم 20 تموز 1949، وكانت مجحفة بحق سورية، وقضت بانسحاب الوحدات السورية من الأراضي الفلسطينية التي كانت قد احتلتها (ومنها مستعمرة مشمارهاياردن)، وقد مثّل الجانب السوري في هذه الاتفاقية العقيد فوزي سلو، والمقدم محمد ناصر، والنقيب عفيف البرزي، والأستاذ صلاح الطرزي. ويضاف إلى هذه الاتفاقيات الخمس المكتوبة، التي تشكل أخطاء خطيرة تم ارتكابها خلال حكم حسني الزعيم، وخطيئة أخرى غير مكتوبة، وهي خرقه لواجبات الضيافة العربية وتسليمه الدكتور أنطوان سعادة اللاجئ السياسي إلى الحكومة اللبنانية. وملخص هذه الحادثة هو أن الدكتور أنطوان سعادة، رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، حرض حزبه على القيام بعصيان مسلح ضد الحكومة اللبنانية، وعندما فشل هذا العصيان لجأ إلى سورية فقبل حسني الزعيم لجوءه إليها وعيّنه للعمل كصحافي في جريدة «الأيام» وبعد تشكيل حكومة الدكتور محسن البرازي واستلامها الحكم في دمشق، استغل رئيس وزراء لبنان رياض الصلح قرابته للبرازي فأتى إلى دمشق حاملاً رسالة من رئيس الجمهورية بشارة الخوري يطلب فيها تسليم أنطوان سعادة إلى الحكومة اللبنانية، وبعد إقناع البرازي بذلك قابل رئيسا الحكومتين السورية واللبنانية الزعيم حسني الزعيم فوافق على التسليم يوم 7 تموز 1949. وتمّ إعدام أنطوان سعادة بأمر الحكومة اللبنانية، بعد محاكمة عاجلة، في يوم 8/ تموز/1949. وقد دفع الزعيم ورئيس وزرائه البرازي حياتيهما ثمناً لهذه الخطيئة، حيث تمّ إعدامهما بيد الضابط القومي السوري فضل الله أبو منصور صبيحة يوم انقلاب الحناوي على الزعيم بتاريخ 14/8/1949.

انقلاب سامي الحناوي (14 آب 1949):

انقلاب سامي الحناوي (14 آب 1949)

في صباح يوم الأحد تاريخ 14 آب 1949 وقع انقلاب مضاد أطاح بحكم المشير حسني الزعيم وبحياته معاً، بعد مدة لم تزد على 137 يوماً قضاها في الحكم، منها 50 يوماً في منصب رئاسة الجمهورية. وكان قائد الانقلاب الجديد هو العقيد سامي الحناوي. تعريف بسامي الحناوي: ولد محمد سامي الحناوي في مدينة حلب سنة 1898، وفي عام 1916 دخل إلى المدرسة الحربية في أسطنبول، وتخرج منها في أوائل عام 1918 حيث خدم أواخر الحرب العالمية الأولى في قفقاسيا وفلسطين. وعمل في درك منطقة الاسكندرونة، ثم اتبع دورة «إعادة تأهيل» في المدرسة الحربية بدمشق وتخرج منها برتبة ملازم ثان، والتحق بعد تخرجه بالقطعات الخاصة منذ عام 1927، وظل فيها إلى ما بعد استقلال سورية. التحق بالقوات الوطنية برتبة رئيس (نقيب)، وخدم في عدة مناطق، وخاصة في منطقة الفرات والجزيرة كقائد فوج، وقد عرف في هذه الفترة بالعلاقة الجيدة التي كانت تربطه بزملائه ومرؤوسيه، وشارك العقيد سامي الحناوي في معارك فلسطين سنة 1948، وأبدى شجاعة في معركتي (تل العزيزات)، و(تل أبو خنزير). وقد أمر الزعيم حسني الزعيم بترقيته من رتبة مقدم إلى رتبة عقيد، وفي اليوم التالي لانقلاب حسني الزعيم تمت ترقيته إلى رتبة زعيم بموجب المرسوم رقم /1/ تاريخ 15/8/1949. وبموجب المرسوم رقم /5/ تاريخ 18/8/1949 سمي رئيساً للأركان العامة بالوكالة، بالإضافة إلى وظيفته كقائد عام للجيش والقوى المسلحة. قررت حكومة السيد هاشم الأتاسي أن تكافئه على تسليمها مقاليد الحكم، فرفعته إلى رتبة لواء، بموجب المرسوم رقم /322/ تاريخ 12/10/1949، كما أنها أصَّلت تعيينه في منصب رئاسة الأركان العامة بموجب المرسوم رقم /567/ تاريخ 21/11/1949. أسباب الانقلاب: كان حسني الزعيم بطبيعته قادراً على خلق الأعداء ضده أكثر من قدرته على حشد الأصدقاء إلى جانبه، وقد أدت السياسة غير الحكيمة التي اتبعها إلى انفضاض أنصاره من حوله، وظهور حركة معارضة سرية ضده في الأوساط العسكرية والمدنية على السواء. وبلغت هذه الحركة ذروة نشاطها في شهر تموز 1949، بعد أن أقدم الزعيم على زج نفر كبير من رجال السياسة في السجون، وبعد تسريح عدد كبير من الضباط حتى من أولئك الذين شاركوه في انقلاب 30 آذار 1949 من أمثال العقيد أديب الشيشكلي، والعقيد سعيد حبي.. هوية الانقلاب: يتفق أغلب الباحثين والمحللين السياسيين، الذي كتبوا عن فترة الانقلابات في سورية، على أن انقلاب سامي الحناوي كان بعلم صاحبه أو دون علم منه ـ «انقلاباً بريطانياً في ظل عباءة عراقية»، وأن حكم الحناوي، لو دام واستقر له الأمر، كان سيؤدي حتماً إلى وحدة عراقية - سورية، أو إلى اتحاد فيدرالي عراقي - سوري على الأقل، في ظل ما كان يسمى «مشروع الهلال الخصيب»، الذي كانت تروج له بريطانيا، ويؤكد ذلك السيد خالد العظم في مذكراته: «فما كان من بريطانيا إلا أن لجأت إلى تدبير انقلاب معاكس قضى على حسني الزعيم، واستولى على الحكم جماعة من المدنيين والعسكريين يميلون إلى العراق وإلى الانكليز، وكانت فكرة الاتحاد السوري - العراقي ترمي إلى إدخال سورية في كيان يرتبط مع بريطانيا، بحيث يتم لها بهذه الواسطة السيطرة على الشرق الأوسط العربي كله». ولم يكن غريباً وجود تباين في موقف الحكومات الأجنبية من الانقلاب، فقد رحبت بريطانيا به، بينما وقفت فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية موقف التحفظ منه، وانعكس الأمر نفسه على وسائل الإعلام الأجنبية، وانحازت كل مجموعة إلى مصالح بلدها. والمعركة معركة بترول أولاً وأخيراً، بين السلطتين الأمريكية والبريطانية، وقد اقتنعت بريطانيا فيما بعد بأن تنضم إلى المعسكر الأمريكي حيث تستطيع تأمين مصالحها عن طريق الوئام أكثر مما تستطيعه في أسلوب أخر». نهاية حكم سامي الحناوي: شهد الأسبوع الثاني من شهر كانون الأول 1949 اشتداد التوتر في أوساط الجيش بسبب تعاظم النشاط العراقي في البلد، إضافة إلى ما كان يتسرب من أخبار عن خلفيات «صيغة القسم» وعن تواطؤ اللواء سامي الحناوي مع حزب الشعب والوزير العراقي المفوض في دمشق، ويصف غالب العياشي الجو المتوتر الذي ساد سورية حينذاك بقوله: «في الأيام التي سبقت إقصاء اللواء سامي نقل إلي بعض الضباط من مصادر موثوقة أن بعض رجال السياسة اشترطوا على اللواء سامي اعتقال عدد كبير من الضباط حتى يتسنى لهم حمل الجمعية التأسيسية - ولو بالقوة إذا اقتضى الأمر - على إقرار المشروع الاستعماري فوراً، وبعد نقل هذا الخبر بأقل من ثلاثة أيام، أي مساء الجمعة في 16/12/1949 استدعى اللواء سامي إلى منزله خمسة من كبار الضباط بعد أن هيأ الوسائل اللازمة لاعتقالهم، ولكنه عندما علم أن سر الاعتقال قد ذاع بين أوساط الجيش، واتخذت التدابير المعاكسة له، رجع عن تنفيذ خطته، ولكنه في اليوم التالي أمر بإجراء بعض التنقلات في قيادة القطعات». وتصف «الموسوعة العسكرية» الوضع المسيطر في الجيش قبل إزاحة سامي الحناوي بأيام قليلة كمايلي: «لم يكن أمام القوى المناوئة للاتحاد (العراقي - السوري) سوى خيار واحد، وهو التحالف مع ضباط الجيش المعارضين لأي تقارب عراقي سوري يفقد سورية استقلالها ويربطها بالمخططات الأجنبية، ولقد وجدت هذه القوى في العقيد أديب الشيشكلي حليفاً مناسباً، وكان أكرم الحوراني محرك هذه القوى وصلة الوصل مع الشيشكلي»وفي 19 كانون الأول 1949 قام الجيش بقيادة أديب الشيشكلي بانقلاب عسكري دعمه الحزب العربي الاشتراكي وقوى وطنية وجمهورية أخرى»، وهكذا انتهى الانقلاب العسكري الثاني في حياة سورية بعد أن عاش أربعة أشهر وأربعة أيام لا أكثر.

انقلاب الشيشكلي الأول (19/12/1949):

في صباح يوم الاثنين 19/12/1949 قام العقيد أديب الشيشكلي بحركة عسكرية أزاح بها اللواء سامي الحناوي وبطانته من قيادة الجيش، ونصب مكانه الزعيم فوزي سلو مديراً لوزارة الدفاع الوطني، والزعيم أنور بنود رئيساً للأركان العامة، واكتفى هو بمنصب «نائب رئيس الأركان العامة»، ولو أنه كان يمارس مهام «القائد الأعلى للجيش والقوى المسلحة» من الناحية الفعلية.

وما قام به الشيشكلي ذلك اليوم لم يكن «انقلاباً» بالمعنى الدقيق، حيث بقي رئيس الدولة، السيد هاشم الأتاسي، في منصبه، وبقي مجلس النواب - الذي كان «مجلساً تأسيسياً» - يمارس عمله في صياغة الدستور تحت رئاسة السيد رشدي الكيخيا، رئيس حزب الشعب، وأما الحكومة (الوزارة) فكانت مستقيلة أصلاً، منذ 12/12/1949 حين تم انتخاب رئيسها السيد هاشم الأتاسي لمنصب «رئيس دولة». والحقيقة أن الشيشكلي كان يطمح لأن يصبح الرجل الأول في سورية، أو الأول في الجيش السوري على الأقل، وهذا ما عمل له بجد منذ انقلاب حسني الزعيم، الذي كان إلى حد كبير من تدبيره في الأساس، ولهذا حاول الزعيم التخلص من نفوذ الشيشكلي في الجيش، بتعيينه ملحقاً عسكرياً لدى المملكة العربية السعودية، ولما لم يتيسر له ذلك قام بتسريحه قبل أقل من أسبوع من انتهاء عهده. أ ـ التعريف بأديب الشيشكلي: ولد أديب الشيشكلي في مدينة حماة في شهر تشرين الثاني 1909، وكان والده حسن الشيشكلي واحداً من الملاكين الزراعيين في المدينة، ولذا دفعه بعد حصوله على الشهادة الإعدادية من مدرسة التجهيز بحماة، نحو الانتساب إلى المدرسة الزراعية التي كانت في بلدة السلمية. وبعد حيازته شهادة هذه المدرسة لم يعمل أديب الشيشكلي في الزراعة، بل التحق بالمدرسة الحربية التي كانت قائمة في جامع دنكز بدمشق، في شهر تشرين الأول 1929، وتخرج منها برتبة ملازم ثانٍ في عام 1932، حيث تم تعيينه قائداً للموقع العسكري في بلدة البوكمال. ومنذ أيام خدمته الأولى لم يكن أديب الشيشكلي على وفاق تام مع رؤسائه من الضباط الفرنسيين، لذا فقد تأخر ترفيعه إلى رتبة ملازم أول حتى عام 1938، وإلى رتبة «رئيس» نقيب حتى عام 1944، وحين حاصر الجيش البريطاني مع القوات الديغولية سورية، خلال شهر حزيران 1941، نقل أديب الشيشكلي إلى حامية الرقة، حيث اشترك هناك في القوة التي حاولت إيقاف تقدم الرتل البريطاني من العراق إلى سورية لاحتلال مدينة حلب. وخلال شهر أيار 1945 كان الشيشكلي من أوائل الضباط الذين هجروا مراكز قيادتهم والتحقوا بالقوات الوطنية، والتحق بدير الزور ووضع نفسه تحت تصرف محافظها السيد غالب ميرزا. وبعد صدور قرار تقسيم فلسطين في 29/11/1947، وتشكيل جيش الإنقاذ كان المقدم أديب الشيشكلي من أوائل المتطوعين في هذا الجيش، ودخل فلسطين في 8/12/1947، وعمل في البداية مساعداً للقائد العام فوزي القاوقجي، ثم قائداً لفوج اليرموك، وكانت مدينة صفد آخر مدينة كلف بالدفاع عنها. وحين حل الضعف والتفكك بهذا الجيش، استقال الشيشكلي منه وعاد إلى ملاك الجيش السوري في 20/7/1948، وقد جرى ترفيعه إلى رتبة عقيد بعد ذلك بمدة قصيرة. وعند قيام الزعيم حسني الزعيم بانقلابه يوم 30/3/1949 كان الشيشكلي المحرك الفعلي لهذا الانقلاب، وقاد القوات الأساسية فيه وهي وحدات اللواء الأول، ولكن الزعيم بعد أن استقر له الأمر خشي من طموح الشيشكلي، فقام بمحاولة تهميشه، ولما لم يستطع أصدر أمر تسريحه في 8 آب 1949، ولكن الحناوي أعاده بموجب المرسوم رقم /6/ تاريخ 18 آب من العام نفسه. أما عن عقيدته السياسية فتقول بعض المصادر إن الشيشكلي انتسب فعلاً إلى الحزب القومي السوري في أوائل الأربعينيات وحافظ على عضويته فيه، بينما أشارت مصادر أخرى إلى تلاقيه فكرياً مع مبادئ هذا الحزب: «كان إيديولوجياً على علاقة وثيقة بمفهوم سورية الطبيعية الخاص بالحزب السوري القومي، وآمن بدولة جمهورية غير طائفية، لذا كان خصماً للأماني التوسعية الهاشمية»، وهذا ما دعاه في الواقع للقيام بحركته هذه لما أحس بأن الحناوي سمح لزعماء حزب الشعب بجر البلاد إلى مشروع للاتحاد مع العراق، بينما كان هذا لا يزال مكبلاً بالمعاهدة البريطانية، وإذا كان الشيشكلي قد تعاون جيداً مع مصر والسعودية فيما بعد، فهذا التعاون كان لإيجاد محور عربي قادر على الوقوف في وجه المحور الهاشمي العراقي - الأردني، دون أي ارتباط بسلطة أجنبية، ويؤكد هذا باتريك سيل بقوله: «ولا يبدو أي شك في أن الشيشكلي والحوراني إذ قاما بانقلابهما كانا مستقلين عن أي تأثير خارجي». أسباب الانقلاب: قال أديب الشيشكلي، في محاولة منه لتبرير الحركة التي قام بها في 19/12/1949، «إنه إنما أتى فقط لإنقاذ نظام سورية الجمهوري واستقلالها، ومنعها من الوقوع تحت النفوذ البريطاني، أو النفوذ الملكي، أي منع مشروع الهلال الخصيب». واتفق أغلب المحللين والكتاب السياسيين على اعتبار هذا هو السبب المباشر لحركة الانقلاب ومن هؤلاء باتريك سيل، الذي يعتبر أن صيغة القسم الوحدوية كانت تدل دلالة واضحة على أن مشروع الاتحاد مع العراق كان سائراً في طريق التنفيذ، تحت سمع سامي الحناوي وبصره، بمباركة منه أو رغماً عنه. ويتفق الكتاب والمحللون العرب حول هذا المنحى لتحديد أسباب هذا الانقلاب، فيقول نصوح بابيل الكاتب والصحفي: «وكانت الغاية من ذلك تثبيت استقلال سورية ونظامها الجمهوري، وإعادة السلطات إلى ممثلي الأمة الشرعيين». الإنجازات التشريعية في هذا العهد: لم تحل الخلافات التي كانت قائمة بين الجيش وحزب الأغلبية البرلمانية (حزب الشعب) دون تحقيق إنجازات تشريعية, سواء على المستوى المدني أو العسكري.

  • ففي المجال المدني: أصدرت حكومة خالد العظم الأولى المرسوم رقم /86/ تاريخ 12 آذار 1950 بإقرار (قانون التجارة البحرية), ثم المرسوم /112/ تاريخ 13 آذار 1950بإعتماد (قانون أصول المحاكمات الجزائية), وهو عمل كان من الضرورة بمكان لتفعيل (قانون العقوبات العام) الذي صدر في أواسط شهر أيار 1949.

وهناك عمل تشريعي صدر على شكل قانون عن الجمعية التأسيسية في زمن حكومة ناظم القدسي الأولى, وبضغط من نواب حزب الشعب, وهو القانون رقم /19/ تاريخ 27 آب 1950, بمنح عفو عام عن جميع الأفعال التي ارتكبت بدوافع سياسية أو على حقوق سياسية بين 30 آذار 1949 و31 كانون الأول من العام نفسه. والغاية من هذا القانون منع محاكمة اللواء سامي الحناوي وأعوانه, الذين كانوا قيد التوقيف منذ يوم 19/12/1949 حتى تاريخ صدور هذا القانون, وتم الإفراج عنهم دون أي محاكمة بموجب نصه الصريح.

  • وفي المجال العسكري: تم إصدار عدة تشريعات في المجال الانضباطي – الجزائي, وفي مجال الأمن, ومنها:

- المرسوم رقم /264/ تاريخ 8/2/1950, بتصديق نظام المجالس الانضباطية العسكرية. - المرسوم التشريعي رقم /61/ تاريخ 27/2/1950, بإصدار (قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكرية). - المرسوم رقم /450/ تاريخ 13/3/1950, بكيفية تشكيل القضاء العسكري. - المرسوم رقم /640/ تاريخ 20/4/1950, بتنظيم الطيران العسكري والأجنبي فوق الأراضي السورية.

انقلاب الشيشكلي الثاني (29/11/1951):

أسباب الانقلاب يشرح السيد محمد سهيل العشي الأسباب المباشرة لقيام الشيشكلي بانقلابه الثاني ضد الحكم المدني فيقول: «في 29 تشرين الثاني 1951 قام أديب الشيشكلي بانقلابه الأبيض الثاني، أما سبب الانقلاب فيعود إلى أن العقيد الشيشكلي لم يعد مرتاحاً لسياسة حزب الشعب وخاصة معروف الدواليبي، وقد علم أن مشروعاً لتسريحه من الجيش كان يعد بين رئاسة الوزارة والقصر مما دعا الاستعجال في حركته الانقلابية، خشية من أن يصبح ثانية خارج القوات المسلحة، وهو لم يحقق بعد مراميه». والحقيقة أن الخلاف بين الشيشكلي والدواليبي لم يكن مجرد خلاف شخصي، أو لغايات شخصية، وإنما كان خلافاً بين مؤسستين تسيطر على كل منهما عقلية مختلفة: • حزب الشعب الذي يتمسك بحرفية الدستور، ويطالب الجيش بالابتعاد عن السياسة تاركاً الحكم لأصحاب الحق فيه وهم أعضاء الحكومة ومنهم وزير الدفاع الذي يجب أن يكون مدنياً مثل زملائه في بقية الحقائب الوزارية. • قيادة الجيش التي ترى أن وزارة الدفاع هي«وزارة فنية وليست(سياسية)»، ولهذا ينبغي أن يتولاها ضابط عسكري يحوز ثقة رئاسة الأركان العامة، لكي يكون هناك تعاون مثمر بين الجبهتين. ولو قدر لحكومة معروف الدواليبي أن تستقر في الحكم بضعة أشهر لكان من المؤكد أن تقوم بفصل الدرك والشرطة عن وزارة الدفاع وإعادتهما إلى وزارة الداخلية من جهة، ولكان من المحتمل أن يضرب وزير الدفاع(الدواليبي نفسه)ضربته ويقوم بتسريح العقيد أديب الشيشكلي ومجموعة الضباط الاشتراكيين، لكي يبسط هيمنته من جديد على الجيش، كما كان عليه الحال في زمن الحناوي، من جهة ثانية. تقويم حكم الشيشكلي حاول أديب الشيشكلي أن يمثل دور «الدكتاتور العادل» بعدد من الإصلاحات في مجال الاقتصاد والمال والحياة الاجتماعية فضلا عن الحياة السياسية: 1 ـ الإصلاحات الاقتصادية ومنها على سبيل المثال: • إنشاء مشروع تجفيف الغاب واستصلاح أراضيه وتوزيعها على الفلاحين • وضع الأساس لموقع معرض دمشق الدولي، على ضفة بردى. • إلغاء مؤسسة حصر التبغ والتنباك (الريجي) الأجنبية، وإلحاقها بوزارة المالية. • إحداث شركة مساهمة لإنشاء واستثمار مرفأ في مدينة اللاذقية، لاستخدامه بدلاً من مرفأ بيروت، وذلك بعد حدوث القطيعة الاقتصادية السورية - اللبنانية في 18/3/1950. • إلغاء الرقابة على النقد الأجنبي الوارد إلى البلد، وفرض الرقابة على النقد السوري الخارج من البلد. • تأميم شركتي الترام والكهرباء في دمشق وحلب. 2 ـ الإصلاحات المالية: من هذه الإصلاحات:

إصدار قانون النقد السوري.
وضع نظام أساسي للعملة السورية.
إنشاء مصرف سورية المركزي، نزولاً عند مشورة الخبير الألماني شاخت، وذلك لكي يتولى إصدار العملة السورية مكان (مصرف سورية ولبنان) الذي هو شركة «فرنسية.»
إقرار مبدأ فرض الضرائب التصاعدية، والتخفيف قدر الإمكان من الضرائب غير المباشرة التي تقع على كاهل ذوي الدخل المحدود بشكل خاص.

3 ـ الإصلاحات الاجتماعية

حاول الشيشكلي رفع مستوى الطبقات المحرومة من فئات الشعب السوري، وخاصة فئة الفلاحين، وعشائر البدو، والطبقات الفقيرة، ومن التشريعات التي أصدرها في هذا المجال:

قانون توزيع أملاك الدولة، الذي سمح بتوزيع 5 ملايين هكتار على 150 ألف أسرة فلاحيه بهدف توطين نصف مليون نسمة، وربطهم بالأرض.
مشروع إنارة الريف بالكهرباء.
تحضير العشائر وتوطينها وربطها بالأرض.
شيوع التعليم وإلزامية المرحلة الأولى منه.
قانون الإصلاح العقاري لتنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر.

الأخطاء التي ارتكبت في فترة حكم الشيشكلي: • قانون إلغاء الأحزاب السياسية. • قانون جمع الصحف في أربع صحف فقط. • قانون منع انتماءالطلاب والمعلمين والموظفين أو العمال إلى الأحزاب السياسية، والاشتغال بالسياسة. أما سياسة الشيشكلي الخارجية العربية فقد كانت قائمة على الحذر من العراق والأردن، وبمعنى آخر من الهاشميين، وكانت قائمة على التعاون مع محور مصر والمملكة العربية السعودية، ومحُايدة مع بقية الدول العربية. أما في السياسة الخارجية فقد قام الشيشكلي بتمسكه الكامل بالحقوق الفلسطينية والدفاع عنها والقتال في سبيلها، وكانت سياسته الخارجية معتمدة على احترام الكيان الوطني السوري العربي في كل ما يتعلق بذلك مع الدول الأجنبية، وقد روى الأستاذ الفاضل جورج شاهين حين كان وزيراً للمالية في عهد الشيشكلي، بأن الولايات المتحدة عرضت عن طريق النقطة الرابعة إنشاء الأوتوستراد بين دمشق وبيروت وحلب وبغداد وعمان، شرط أن يكون لها حق استعمال هذه المنشآت في زمن الحرب، فرفض الشيشكلي هذا العرض. إزاحة الشيشكلي (25/2/1954) اعتقد الشيشكلي أن الأحوال قد استقرت له بعد وصوله إلى كرسي رئاسة الجمهورية، وبعد فرض دستوره الرئاسي وحزبه الواحد (حركة التحرير العربي) الذي نال الأغلبية في المجلس النيابي، ولكن زعماء الأحزاب الأخرى لم يرضخوا لهذه الحقيقة، بل عقدوا اجتماعات سرية لتنسيق المعارضة فيما بينهم، وحركوا أنصارهم في رحاب الجامعة والشارع، وقرروا إسقاط الشيشكلي في أقرب فرصة ممكنة. ورد الشيشكلي على ذلك بفرض الأحكام العرفية وزجّ زعماء الأحزاب السياسية في السجن، وزاد في النقمة على الشيشكلي أعمال القمع التي حدثت في جبل العرب في شهر كانون الثاني 1954، والتي سقط فيها بعض القتلى والجرحى .. وانتقلت حركة التذمّر إلى أوساط الجيش وقادها الضباط المتعاونون مع الأحزاب، وخاصة حزب الشعب وحزب البعث العربي الاشتراكي. في الساعة 21.00 من مساء 25 شباط 1954 قررّ الشيشكلي تقديم استقالته إلى مجلس النواب، وأذاعت محطة دمشق في نشرة الأخبار المسائية، صيغة الاستقالة. وبعد إذاعة الاستقالة أصدر رئيس الأركان العامة الزعيم شوكت شقير التعميم التالي: بعد أن اطلعْ رئيس الأركان العامة فخامة رئيس الجمهورية الزعيم أديب الشيشكلي على أحداث هذا اليوم وعلى رغبة الجيش، تقدم فخامته باستقالته وغادر البلاد. وبالفعل سافر الشيشكلي إلى بيروت في سيارة الرئاسة، حوالي الساعة العاشرة من مساء ذلك اليوم، حيث بقي فيها ليلة واحدة استقل بعدها طائرة سعودية أقلّته إلى الرياض. وبقى في الرياض بضعة أيام إلى حين حصوله على جواز سفر سعودي باسمه يخوله السفر إلى بلدان أوروبا وأمريكا ومن ثم ركب الطائرة إلى باريس.

تطور الجيش السوري ودوره في مرحلة ما بعد الانقلابات 1954- 1958

دور الجيش في حماية الاستقلال والحفاظ على النظام الجمهوري

لم تكن الانقلابات العسكرية الخمسة التي عرفتها سورية بين 1949 و1954 مجرد مغامرات شخصية دفعت إليها رغبة بعض العسكريين بالوصول إلى الحكم، ولم تكن الانقلابات في حقيقة الأمر إلا انقلاباً واحداً هو انقلاب الزعيم حسني الزعيم الذي حصل صباح يوم الأربعاء 30 آذار 1949، وأما الحركات الأربع الأخرى فقد حدثت لإصلاح الخلل الذي حصل في توجه هذا الانقلاب، نتيجة لانحرافه عن أهدافه السياسية، أو لتصحيح النتائج التي أدى إليها. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الانقلاب قد حدث في أعقاب نكسة 1948 في فلسطين، ونتيجة لمشاعر المرارة والإحباط التي ترسخت في قلوب القادة العسكريين، لأن رجال السياسة السوريين قد دفعوهم إلى خوض حرب دون أن يعدوا أو يستعدوا لها، وهذا ما يؤكده خالد العظم، رئيس وزراء سورية ووزير خارجيتها في ذلك الوقت: «وجاءت كارثة فلسطين فنشطت الدعاية في أوساط الجيش بأن المدنيين خانوا البلاد بعدم تسليحهم الجيش وتمكينه من الغلبة». وفي الحقيقة فإن النتائج التي أسفرت عنها تحقيقات لجنة برلمانية مؤلفة من صبري العسلي رئيساً، وأكرم الحوراني مقرراً، وعضوية عدد من النواب، أظهرت وجود إهمال فاضح من قبل أحمد الشراباتي، وزير الدفاع المسؤول في ذلك الوقت، والأجهزة التي تعمل بأمره مباشرة، علماً بأن الشراباتي كان من القريبين جداً إلى الرئيس شكري القوتلي وإلى الوزير جميل مردم بك. ومن مظاهر التقصير الذي ارتكبه الوزير الشراباتي ومن حوله كما يذكر مقرر لجنة التحقيق البرلمانية السيد أكرم الحوراني في مذكراته: 1 ـ استلام وزير الدفاع الوطني الصلاحيات والاختصاصات كافة مما لا يتماشى مع الأنظمة المعمول بها في الجيش، ودون وجود قانون يؤيد ذلك. 2 ـ تفسيخ الجيش مما جعله كتلاً متنافرة، وإلقاء بذور الشقاق والبغضاء بين ضباطه وقادته وتحطيم معنوياته، وصرفه عن غاياته الأساسية إلى أمور شخصية مما أفقده الانضباط والطاعة والنظام. 3 ـ خروج المكتب الثاني عن الغاية التي وجد من أجلها بتشجيع الوزير. 4 ـ إنقاص عدد الجيش، استخدام المدنيين بكثرة، تسريح الجنود القدامى، وقف التطوع. 5 ـ عرقلة أعمال تدريب الجيش السوري. 6 ـ التقصير في تجهيز الجيش. 7 ـ التقصير في تسليح الجيش. 8 ـ تأخير إرسال الأجوبة على برقيات الموفدين إلى أوروبا لأجل شراء السلاح، وعدم فتح اعتمادات لهم وقت اللزوم. 9 ـ اشتراك الجيش في السياسة، وتدخله في الانتخابات. 10 ـ استثمار نفوذ الوزارة في أمور شخصية ومنافع ذاتية. هذه هي خلاصة التهم التي وجهت إلى وزارة الدفاع، أو على الأصح إلى شخص وزير الدفاع الوطني السابق السيد أحمد الشراباتي، وما من واحدة منها إلا وعليها أكثر من دليل. ومن هذا تبين أن عملية الانقلاب الأول لم تكن «حركة رعناء أقدم عليها ضابط مدفوع بحب العظمة»، بل كانت عملاً عسكرياً مسؤولاً تمت مناقشته والتخطيط له، على مستوى قيادي، قبل الإقدام عليه فعلاً في صباح يوم الأربعاء 30 آذار 1949، وذلك لإزالة المساوئ التي تم تراكمها في عهد القوتلي، في المجالين العسكري والمدني معاً، ولهذا لم يكن غريباً أن يقف الشعب موقف المؤيد للانقلاب منذ اليوم الأول لحدوثه، وتصف مذكرات الحوراني حالة مدينة دمشق يوم الخميس 31 آذار، ثاني يوم الانقلاب، بعد رفع منع التجول: «كانت دمشق تموج بمظاهرات الفرح والتأييد وهي تردد: (عيّد يا طالب وفلاح: عهد الظلم ولّى وراح) وكان المتظاهرون من جميع أبناء الشعب وفئاته يمرون أمام وزارة الدفاع، والنساء تزغرد، وأفراد الشعب يعانقون الضباط والجنود في الشوارع ويشتركون معاً بالرقص والأهازيج والدبكات، والطلاب والضباط يلقون الخطابات الحماسية بجماهير المتظاهرين، التحام تام بين الجيش والشعب، والإذاعة والصحف تنشر ألوف البرقيات الواردة من جميع أنحاء سورية، ولا سيما من أسر الشهداء الذين ذهبوا ضحية القمع الوحشي للمظاهرات (....) والواقع أن معظم البرقيات كانت تعتبر هذه الحركة حركة تحريرية لتحقيق أماني الشعب وصيانة الدستور والنظام الديمقراطي الصحيح، كما كانت تعتبر أن هذه الحركة أزالت كابوس الظلم والطغيان، لذلك يضع مرسلوها أنفسهم في أمرة الحركة ورهن تصرفها». وكان هذا الوصف يعبر عن موقف الشعب بالفعل، وقد عبر عن هذا الموقف بيان صادر عن حزب البعث العربي، بتاريخ 4 نيسان 1949، يبارك الانقلاب ويخاطب صاحبه بالقول: «من دواعي الغبطة أن نراكم تسجلون في بيانكم الذي أذعتموه أمس على الشعب العربي السوري ما كان لهذا الشعب من التأثير الأكبر في تحقيق الانقلاب، والحق أن الجيش الذي يتألف من أبناء الشعب لم يكن سوى الأداة الأمينة المباركة التي نفذت رغبة قومية وإرادة عامة طالما أعلنها الشعب». أما عن مبررات الانقلاب الثاني الذي قاده سامي الحناوي في 14/8 من العام نفسه، فقد أصدرت رئاسة الأركان العامة بتاريخ 26/12/1949 بياناً موجهاً إلى الشعب تشرح فيه أسباب الانقلاب الثاني: «لقد استهدف انقلاب الثلاثين من آذار تحقيق هذه المبادئ غير أن القائمين على الأمور قد استغلوها لأغراض شخصية فخرج الانقلاب عن هدفه الأساسي، وكان الانقلاب الثاني نتيجة طبيعية لتقويم هذا الاعوجاج، وظن ضباط الجيش الذين ساهموا مع اللواء سامي الحناوي وتبنوه رمزاً لحركتهم أنه سيصلح ما أفسده الحكم السابق، وأن مجرى الأمور سيؤدي إلى إعادة الحياة الدستورية والنظام الجمهوري الذي يتوافق ورغبات الشعب والفكرة التقدمية في العالم « نص البيان الذي أصدرته الأركان العامة ».

أما الانقلاب الثالث، الذي قام به العقيد أديب الشيشكلي يوم 19/12/1949، فلم يكن انقلاباً بالمعنى الدقيق للكلمة، وقد صرح مصدر مسؤول إثر القيام به: «أن حركة الجيش لا تمس الحالة الشرعية القائمة في البلاد، وهي تعتبر حركة داخلية بحتة في الجيش، أما الوضع الشرعي فهو قائم ولم يطرأ عليه ما يمسه». وقد أكد العقيد الشيشكلي في تصريحه بعد مقابلته رئيس الدولة يومئذ (الرئيس هاشم الأتاسي): «إن حركته بالجيش لم تكن انقلاباً بالمعنى المفهوم، بل كانت خطوة اتخذت لإقصاء الخطر الذي كان يهدد استقرار البلاد ونظام الجمهورية فيها، والجيش السوري ليس راغباً في التدخل بالقضايا السياسية وهو يتركها لممثلي البلاد الشرعيين». وفي 15 نيسان 1950 عقد الشيشكلي في مقر نادي الضباط في دمشق مؤتمراً صحفياً، حول محادثاته في القاهرة جاء فيه: «لقد اغتنمت فرصة وجودي في مصر لأصلح بعض وجهات النظر الخاطئة عن الوضع العسكري: لقد صورت الدسائس الوضع بشكل يوحي أنه لا يوجد استقرار في سورية، وأن من يملك عشر بنادق يمكنه القيام بانقلاب، وأن الجيش قام بثلاثة انقلابات، وقد يكون هناك رابع وخامس وسادس (...) أوضحت بصورة لا تقبل الجدل أنه لم يقع في سورية سوى انقلاب واحد قام به الجيش بكامله ضد سوء الإدارة التي أدت إلى كارثة فلسطين. إن عدم تعاون الكثيرين من السياسيين السوريين هو الذي جعل حسني الزعيم يقيم ديكتاتورية عسكرية فأصلح الجيش ما هدمه الزعيم، كما أبعد الحناوي حرصاً على استقلال سورية ونظامها الجمهوري، وإن ما يشاع عن تدخل الجيش في السلطة لا يقصد منه إلا إيجاد هوة بين الجيش والشعب». ولما سئل الشيشكلي في أواخر أيار 1950 فيما إذا ينتظر حدوث انقلابات أخرى أجاب: «إن الجيش سيمنع بكل ثمن تكرار هذه المهزلة التي كانت سورية مسرحاً لها والتي حطمتها تقريباً، ويشهد الله على أن الجيش يريد فقط أن يحمي استقلال سورية ونظامها الجمهوري». والحقيقة أن الشيشكلي كان يرغب إبعاد الجيش عن السياسة، إلا أن بعض السياسيين كانوا يصرون على إقحام الجيش في السياسة، وهذا ما أجبر الزعيم أنور بنود، رئيس هيئة الأركان العامة، على توجيه نداء تحذيري إلى العسكريين والمدنيين معاً، بتاريخ العاشر من آب 1950، يقول فيه: «إن رئاسة الأركان العامة للجيش السوري، بعد أن رأت أن إقرار الدستور أصبح وشيكاً، وأن البلاد ستقبل على عهد استقرار وأمن من شأنه إنهاض الوطن وإعزازه، تعلن أن الجيش السوري ستقتصر رسالته على الدفاع عن حياض الوطن في ظل الدستور والقوانين وأنه أداة صالحة لكل حكومة منبثقة عن السلطة التشريعية الممثلة للأمة، فقد حذرت الأركان العامة كافة العسكريين من التدخل في أي شأن من شؤون البلاد تحت طائلة العقوبات المنصوص عليها في القوانين المرعية. كما أنها ترى وجوب تذكير المواطنين إلى أن قانون العقوبات العسكري الجديد ينص صراحة في مادتيه 149 و150 على ملاحقة كل مدني يشوق أحد العسكريين على الانضمام إلى حزب أو جمعية أو مؤسسة ذات هدف سياسي، أو الأشخاص المسؤولين عن إدارتها، فيما إذا قبل بين الأعضاء شخص عسكري، على أن تسحب نهائياً رخصة الحزب أو الجمعية أو المؤسسة التي تقبل شخصاً عسكرياً، وتغلق مكاتبها وأماكن اجتماعها.. وهي ترجو الله أن يرعى هذه الأمة ويدرأ عنها الأذى ويكف عنها الدسائس، ويسدد خطا العاملين من أبنائها». وهذا النداء الذي وجهه رئيس الأركان العامة لم يكن مجرد إنذار، ذلك أن هناك كثيرين من زعماء الأحزاب السياسية كانوا يحرصون على إيجاد قواعد لهم في الجيش، وقد أقر بهذه الحقيقة نائب سوري، في كلمة له تحت قبة البرلمان مخاطباً زملاءه النواب: «إذا لم نُردْ للجيش أن يتدخل (في السياسة) فعلينا اتباع سياسة صحيحة، والسير بالبلاد في طريق لا يمنح الجيش أي سبب للتدخل». ولكن السياسيين، وخاصة أعضاء حزب الشعب، ظلوا يمارسون اللعبة البرلمانية في أسوأ أشكالها دون أن يعلموا أن الجيش كانت لديه خطوط حمراء لا يسمح لأحد بتجاوزها، ويعلق باتريك سيل على ذلك بقوله: «ولم يدرك السياسيون في الحال القيود الجديدة التي فرضت على سلطاتهم، واستمروا يلعبون لعبتهم البرلمانية العشوائية، يكتبون مسودات دساتير، ويصدرون بيانات، ويحيكون الدسائس مع قوى أجنبية وكأنهم يرفضون أن يقروا بأن الكلمة الأخيرة الآن للأركان العامة». والحقيقة هي أن انقلاب الشيشكلي الثاني (الانقلاب الرابع) الذي وقع في 3/12/1951 تقع مسؤوليته على «حزب الشعب» بشكل خاص، فقد خُيّل لزعماء هذا الحزب «أن بمقدورهم ترويض العسكريين وإخضاع الجيش (باسم الشرعية البرلمانية)، خاصة وهم يتمتعون في البرلمان بالأكثرية، وأن القوى الأخرى ليست متماسكة، ولذا كانوا يناورون دائماً من أجل استلام وزارة الدفاع وربط الدرك والشرطة بوزارة الداخلية وفصلهما عن وزارة الدفاع»، مع علمهم التام بأن هذين الأمرين هما من الأمور التي لا يمكن التنازل عنها من قبل رئاسة الأركان العامة. ويمكن اعتبار الانقلاب الخامس والأخير حركة للعودة إلى إطار الشرعية، قام بها العسكريون وسلموا الحكم إلى المدنيين من جديد، وهو أمر لا يحتاج إلى تبرير لأنه يحمل مبرراته في حد ذاته. وهكذا يمكن اعتبار ما قام به الجيش في حركاته جميعاً كان يستهدف إما إصلاح الخلل (انقلاب الزعيم في 30 آذار 1949، وانقلاب سامي الحناوي في 14 آب 1949)، وإما الحفاظ على استقلال البلاد ونظامه الجمهوري (انقلاب الشيشكلي الأول في 19 كانون الأول 1949)، واستقلالية الجيش وكرامته (انقلاب الشيشكلي في 3 كانون الأول 1951)، وإما تسليم الحكم إلى المدنيين والعودة إلى الثكنات (الحركة الأخيرة في 25 شباط 1954).

دور الجيش في إحباط المخططات الاستعمارية

تتمتع سورية بموقع جغرافي هام، إذ هي تشكل همزة الوصل بين القارات الثلاث (آسيا وأفريقيا وأوروبا) من جهة، وعلى مسافة غير بعيدة من منابع البترول في العراق والخليج وإيران من جهة ثانية، هذا بالإضافة لعدة مميزات استراتيجية أخرى، لذا لا غرابة أن يكون هذا البلد موئلاً للطامعين منذ قديم الزمان وحتى اليوم! وفي الفترة بين الحربين العالميتين خضعت سورية - في مفهومها الجغرافي الكامل - للانتداب الذي فرضته عليها دولتا فرنسا وبريطانيا، ثم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وزوال هذا الانتداب بدأت هاتان الدولتان مرحلة من الصراع فيما بينهما من أجل إعادة الهيمنة على المنطقة ولمواجهة النفوذ الأمريكي هذا بالإضافة إلى حماية الوجود الإسرائيلي الجديد في المنطقة! وقد وجدت القوى الاستعمارية الكبرى الثلاث أنه من مصلحتها تقاسم مناطق النفوذ وتحقيق أهدافها الإمبريالية باسم «الدفاع عن العالم الحر ومحاربة الشيوعية» وكان لابد من أجل تحقيق هذه الأهداف من جر سورية إلى الارتباط بواحد من المشاريع الاستعمارية المشبوهة، وهذه المشروعات التي حاولت الدول الغربية فرضها على سورية في فترة الخمسينيات ما يلي: 1 ـ التصريح الثلاثي: في الخامس والعشرين من شهر أيار 1950، أصدرت الدول العظمى الثلاث، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ما سمي بالبيان الثلاثي، الذي التزمت فيه بحفظ السلام على الحدود الإسرائيلية - العربية، وأعلنت معارضتها المطلقة لاستعمال القوة أو التهديد باستعمال القوة في العلاقات بين دول المنطقة، وجعلت التزويد بالسلاح مشروطاً بعدم الاعتداء، فقد قضت بنود التصريح بعدم تزويد أية دولة من دول المنطقة بالسلاح إلا إذا تعهدت بعدم استعمال هذا السلاح إلا في حالات ثلاث: • تأمين الأمن الداخلي. • تأمين الدفاع المشروع عن النفس (الخارجي). • الاشتراك في الدفاع عن مجموع منطقة الشرق الأوسط. ومعنى هذا أن الدول العربية لا يمكنها أن تحصل على أسلحة من هذه الدول إلا ما يستخدم منها للأمن الداخلي، والأسلحة الدفاعية، وأما بالنسبة للأسلحة الهجومية الثقيلة فلا يمكن أن تحصل عليها إلا إذا انضمت إلى منظومة الدفاع عن الشرق الأوسط، التي يمكن أن تنضم إليها إسرائيل أيضاً بحكم كونها إحدى دول المنطقة! وهذا معناه أن الغاية من التصريح هي الحفاظ على أمن إسرائيل أولاً، ومصالح الدول الكبرى الثلاث ثانياً بصرف النظر عن مصالح الدول العربية في المنطقة. وفي 4 تموز 1950 اجتمعت الجمعية التأسيسية (السورية) لمناقشة هذا التصريح، ونقل وزير الخارجية، الدكتور ناظم القدسي، إلى الجمعية قرار اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية بشأن ردها على البيان الثلاثي: «إن الدول العربية ليست أقل حرصاً على استقرار السلام في المنطقة لكن تأمينه يقع على عاتقها وحدها، وإن ما تستورده من سلاح يستعمل لا في العدوان على أحد، بل في سبيل الدفاع عن نفسها وهي تعتبر التصريح الثلاثي بمثابة توزيع لمناطق النفوذ في الشرق الأوسط، وهي ترفض أي تدخل أجنبي في مسائلها الداخلية». 2 ـ مشروع الدفاع عن الشرق الأوسط: في بداية عام 1951 وجدت الدول الغربية الثلاث الكبرى، بعد (التصريح الثلاثي)، أن من مصلحتها إنشاء حلف دفاعي ضد النفوذ السوفييتي، يشمل كخط أول تركيا وسورية والعراق وإيران، باسم (مشروع الدفاع عن الشرق الأوسط)، وهذا المشروع كان يستهدف أمرين: • استخدام سورية كمخفر دفاعي متقدم ضد الخطر الشيوعي القادم من الشمال أو الشمال الشرقي. • إنهاء حالة العداء بين سورية وإسرائيل، وذلك بإدخالهما معاً ضمن منظومة دفاعية واحدة بقيادة دول عظمى. ورغبة في «تسويق» هذا المشروع قام الوزراء المفوضون للدول الأربع (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، تركيا) بمقابلة السيد فيضي الأتاسي، وزير الخارجية في حكومة السيد حسن الحكيم، بتاريخ 13/10/1951، وقدموا له مذكرة رسمية جاء فيها: «إن الدفاع عن الشرق الأوسط أمر حيوي بالقياس إلى أمن العالم الحر، وهذا الدفاع لا يتأتى إلا بالتعاون بين دوله، مضافاً إليها دول أخرى في المنطقة التي هي ليست جغرافياً منه، وإلا بالتنسيق بين هذه الدول ودول المنطقة، لذا بات من المناسب إنشاء قيادة حليفة للشرق الأوسط تشترك فيها البلاد القادرة على المساهمة في الدفاع والراغبة فيه. إن بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وتركيا مستعدة للاشتراك في هذه القيادة، وقد وجهت دعوات إلى اتحاد جنوب أفريقيا واستراليا ونيوزيلندا التي أعربت عن اهتمامها بالدفاع عن المنطقة». وفي نهاية المقابلة طلب الوزراء المفوضون الأربعة من وزير الخارجية السوري الحصول على جواب رسمي من الحكومة السورية على مضمون المذكرة، ولكن الوزير التمس منهم إمهاله إلى أن يتمكن من عرض الموضوع على الحكومة وعلى المجلس النيابي. ونظراً لوجود خلاف بين رئيس الحكومة السورية في ذلك الوقت (السيد حسن الحكيم) ووزير خارجيته حول هذا الموضوع، فقد انبرى رئيس الحكومة أمام المجلس النيابي عند بحثه في جلسة 23/10/1951 للدفاع عن المشروع وقال: «إن الأقطار العربية سوف تفيد من منهاج الأمن المتبادل الأمريكي، الذي سيقوي العرب عسكرياً واقتصادياً أمام إسرائيل»، هذا في حين وصفه وزير الخارجية بالقول: «إن مشروع قيادة الشرق الأوسط يستهدف عدواً لم يقترف سوءاً بحق العرب (أي الاتحاد السوفييتي)، وإن الدول الغربية كلها تناصب العرب العداء في قضيتين هامتين هما قضية فلسطين والقضية المصرية، وناشد الدول العربية البقاء على الحياد بين الكتلتين الغربية والشرقية». وبسبب هذا الانقسام في الرأي سحب رئيس الحكومة المشروع بحجة أنه معروض على الحكومة للاطلاع وليس للمناقشة واتخاذ قرار في شأنه! ولكن القضية انتقلت إلى الشارع وإلى الصحافة المحلية، ووصف وزير الخارجية، بسخرية لاذعة موقف رئيس الحكومة السيد حسن الحكيم من المشروع بأنه لم يكن «حسناً» ولا«حكيماً»، ولم يرى رئيس الحكومة عندئذ بداً من تقديم استقالته فقدمها يوم 10 تشرين الثاني 1951، وقادت استقالته هذه إلى أزمة وزارية انتهت بتكليف الدكتور معروف الدواليبي بتشكيل الحكومة يوم 28 من الشهر نفسه، وهذا التكليف أدى إلى قيام الشيشكلي بانقلابه الثاني يوم 29 وكان من الأفضل عرض المشروع (مشروع الدفاع عن الشرق الأوسط) على الحكومة أولاً، لترفضه دون عرضه على مجلس النواب، وخاصة بعد أن رفضته الحكومة المصرية قبل ذلك. 3 ـ مشروع النقطة الرابعة: لم يمض على طي «مشروع الدفاع عن الشرق الأوسط» إلا بضعة أسابيع حتى طلعت السياسة الأمريكية بمشروع جديد يحمل الطابع الاقتصادي ظاهرياً، والعسكري فعلياً، وهو «مشروع النقطة الرابعة». ويشبه هذا المشروع مشروع مارشال الذي تم تطبيقه في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية*. ولكن على نطاق أضيق، حيث نص على عدة بنود أهمها مد أوتستراد يصل بين عواصم الشرق الأوسط جميعاً، بما فيها حلب وبيروت ودمشق، بشرط إعطاء الحق للسلطة المانحة وحلفائها باستخدام هذه الطرق لمصلحتها في حالة الحرب، وقد عرض هذا المشروع على الحكومة السورية في زمن الشيشكلي (1952/1953) ورفض أيضاً. 4 ـ الحلف العراقي - التركي (حلف بغداد): حلف بغداد هو ميثاق ثنائي في الأصل، عقدته حكومتا العراق وتركيا في بغداد يوم 13/1/1955، ثم أصبح معاهدة جماعية بعد ذلك، وهو في الحقيقة «لم يكن إلا حلقة من حلقات النطاق الكبير الذي أقرته السياسة الأمريكية لإحاطة الاتحاد السوفييتي بحزام يطوق تلك البلاد ويحصر داخلها النشاط الشيوعي، إلى أن يأتي يوم تقضي فيه أمريكا على الشيوعية في داخل البلاد التي تبنت هذا المذهب الاجتماعي». وفي اليوم التالي للتوقيع على الحلف في بغداد قدم رئيس وزراء تركيا عدنان مندريس إلى دمشق، وقابل رئيس الحكومة السورية السيد فارس الخوري، أملاً منه في إقناعه بانضمام سورية إلى الحلف. ولأن الخوري كان يعلم بحسه السياسي المجرب، أن كلاً من الجيش والشارع السياسي كانا ضد الحلف، فإنه لم يعط مندريس رأياً باتاً في الموضوع، هذا في حين دعت مصر في السادس عشر من كانون الثاني 1955 إلى اجتماع لمجلس جامعة الدول العربية، يعقد في القاهرة، لشجب الحلف العراقي التركي، فلبت جميع الدول الأعضاء دعوة الجامعة باستثناء العراق، وحضر الاجتماع عن سورية رئيس حكومتها السيد فارس الخوري، ووزير خارجيتها السيد فيضي الأتاسي (من حزب الشعب). وكان الاجتماع على وشك اتخاذ قرار بشجب موقف العراق والحلف العراقي - التركي، حين تقدم الوفد السوري باقتراح لتشكيل وفد عربي مشترك للذهاب إلى بغداد ومحاولة ثني الحكومة العراقية عن الارتباط بالحلف، لأن ذلك يتنافى مع (الميثاق العربي للدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي) الذي تم توقيعه في نطاق جامعة الدول العربية سنة 1950. وقد تألف الوفد الذي سافر إلى بغداد من السادة صلاح سالم (مصر) وفيضي الأتاسي (سورية)، و وليد صلاح (الأردن) و سامي الصلح (لبنان)، قابل الوفد السيد نوري السعيد رئيس وزراء العراق وطلب إليه باسم جامعة الدول العربية العدول عن الارتباط بالميثاق العراقي - التركي، ولكن السعيد أفهم أعضاء الوفد أن الارتباط بالحلف لا رجعة عنه. وهنا أعلنت مصر انسحابها من (الميثاق العربي للدفاع المشترك)، وأنه أصبح لكل دولة من أعضاء الجامعة أن تنتقي حلفاءها كما تشاء. وكان لاجتماع القاهرة أثر غير محمود على السياسة الداخلية في سورية، ويقول وليد المعلم في وصف ذلك: «أدى موقف السيد فارس الخوري في اجتماع القاهرة، وسيطرة حزب الشعب على سياسة حكومته العربية، إلى تذمر كبار ضباط الجيش، وتحرك السياسيين بهدف تشكيل وزارة جديدة. وساهم في ذلك النشاط الملحوظ الذي قام به السيد محمود رياض السفير المصري الجديد في سورية، حيث نقل إلى بعض الأوساط استياء الرئيس عبد الناصر من موقف رئيس الحكومة خلال اجتماع القاهرة». وبعد نضوج المشاورات السياسية لرئاسة الحكومة الجديدة اجتمعت قيادة الحزب الوطني وقررت سحب أعضائها من الحكومة فاستقالت وزارة السيد فارس الخوري في مطلع شباط (1955) وأتت مكانها وزارة جديدة برئاسة صبري العسلي استلم حقيبة الخارجية فيها السيد خالد العظم. وصممت الحكومة الأمريكية عندئذٍ أن تلقي بثقلها إلى جانب الحلف العراقي التركي، فقام سفيرها في دمشق، المستر جيمس موس بمقابلة رئيس الحكومة الجديدة السيد العسلي، بوجود وزير خارجيته السيد خالد العظم، وذلك في يوم 26 شباط 1955. وأثناء المقابلة قدم لهما مذكرة رسمية تحث الحكومة السورية على الانضمام إلى الحلف، جاء فيها: «إن وزارة الخارجية الأمريكية رحبت علناً بالاتفاق التركي العراقي، كخطوة إنشائية نحو منظمة دفاع حقيقية يمكن مع الوقت أن تضم باكستان وإيران وبعض الدول العربية».المذكرة الأمريكية للحكومة السورية.

ورأت الحكومة المصرية ضرورة التحرك وعدم ترك سورية فريسة للضغط الأمريكي- البريطاني، إلى ضغط البلدان المجاورة، فعرضت على سورية، في أول آذار 1955 التوقيع على ميثاق مصري - سوري للدفاع المشترك، ودعوة الدول للانضمام إليه بشرط عدم انضمامهم إلى أحلاف أخرى، ووافقت الحكومة السورية فوراً على ذلك. «وصدر في 2 آذار 1955 بيان مشترك أكد على عدم انضمام الدولتين إلى الحلف العراقي التركي، ورغبتهما في إقامة منظمة دفاع وتعاون اقتصادي عربي مشترك ترتكز على الالتزام بالتعاون في صد أي عدوان يقع على المنظمة، وإنشاء قيادة مشتركة دائمة، وعدم قيام أية دولة مشتركة بالحلف (المنظمة) بعقد اتفاقيات دولية عسكرية أو سياسية دون موافقة بقية الأعضاء». ورغبة في حث بقية الدول العربية على الانضمام إلى البيان السوري - المصري المشترك، المؤرخ في 2 آذار 1955، سافر الصاغ (الرائد) صلاح سالم برفقة السيد خالد العظم إلى الأردن، ومنها إلى السعودية فلبنان، وكانت الدولة الوحيدة التي استجابت لطلب الانضمام هي المملكة العربية السعودية، حيث اتفق الأطراف الثلاثة على أن يأخذ البيان المشترك اسم «الميثاق الثلاثي» بعد انضمام السعودية إليه اعتباراً من 5 آذار 1955، وقد أعلن الملك سعود، في هذه المناسبة «موافقته التامة على ما جاء في البيان السوري المصري، واتفق على أن تبدأ الدول الثلاث، ومن ينضم إليها من الدول العربية الأخرى، مشاورات عاجلة لوضع الميثاق الثلاثي موضع التنفيذ». وقد استاءت تركيا بشكل واضح من توقيع الميثاق الثلاثي، ووجدت فيه عملاً عدائياً موجهاً من سورية ضدها، فوجهت إلى الحكومة السورية، بتاريخ 13 آذار 1955، مذكرة احتجاج جاء فيها: «إن الميثاق السوري - المصري يهدف إلى عزل تركيا عن العالم العربي، بينما يهدف الحلف العراقي - التركي إلى إعداد واستخدام العراق ضد أي هجوم سوفييتي. وترى الحكومة التركية أنه لولا وجود هذا الحلف الذي يضع إمكانيات تركيا والعراق تجاه أي اعتداء إسرائيلي لكان محو سورية من الخارطة السياسية استغرق أياماً. إن الحكومة التركية ستعيد النظر في سياستها وفي موقفها حيال سورية المجاورة في حال تحقيق (تصديق) هذا الميثاق من قبل سورية، وهذا ما يحمل تركيا على اعتبار هذا العمل كعمل معادٍ لها». وقد جاءت الفقرة السادسة من مقررات باندونغ في شهر نيسان 1955، مؤيدة ضمناً للموقف السوري المصري حيث نصت على «الامتناع عن الاشتراك في نظام دفاعي جماعي في صالح إحدى الدول الكبرى، والامتناع عن الضغط على البلاد الأخرى». ولكن حكومة نوري السعيد أصرت على متابعة الارتباط بالحلف التركي - العراقي، وحاولت زيادة عدد أعضائه من الدول العربية و الإسلامية. وبعد مداولات ووعود وزيارات ضمنت الدول الغربية اشتراك إيران وباكستان في الحلف، وعقد في بغداد يومي 21 و 22 تشرين الثاني 1955 اجتماع برئاسة نوري السعيد، رئيس الوزارة العراقية، وحضره عن إيران رئيس الوزراء (حسين علاء)، وعن باكستان رئيس الوزراء (جودي محمد علي)، وعن تركيا رئيس الوزراء (عدنان مندريس) وعن بريطانيا وزير خارجيتها (هارولد ماكميلان)، وأرسلت الولايات المتحدة ممثلين عنها، وحضر سفيرها في بغداد المؤتمر بصفة مراقب كما حضر ممثل للقوات الأمريكية اجتماع اللجنة العسكرية، وفي نهاية المؤتمر أعلن عن قيام (حلف بغداد)». ولكن هذا الحلف لم ينجح في مهمته كما كانت تخطط له السياسة الأمريكية - البريطانية، بل إنه بدأ بالتراجع والانحسار وخاصة بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956.(انسحبت العراق من الحلف بعد ثورة 14 تموز 1958 فأصبح اسمه «المعاهدة المركزية: Centro، ثم انسحبت إيران منه بعد قيام الثورة الإسلامية فيها عام 1979، فجرى حله»). 5 ـ مبدأ آيزنهاور: يقوم مبدأ آيزنهاور على نظرية مؤداها أن انسحاب القوات البريطانية والفرنسية من منطقة الشرق الأوسط، بعد فشل العدوان الثلاثي على مصر، قد ترك «فراغاً» في المنطقة، وأن هذا الفراغ لابد من ملئه بقوات أمريكية قبل أن تملأه قوات معادية أخرى! وهكذا فمبدأ آيزنهاور، الذي وضعه وزير خارجيته جون فوستر دالس، يقوم على ما يمكن تسميته «نظرية الفراغ في الشرق الأوسط»، وأن هذا الفراغ لابد من ملئه لمنع «العدوان الشيوعي» من التسلل إلى المنطقة. وقد تقدم آيزنهاور بنظريته هذه (التي دعيت فيما بعد: مبدأ آيزنهاور) إلى الكونغرس الأمريكي، عبر رسالة وجهها إليه في الخامس من شهر كانون الثاني 1957 وأورد فيها الخطوط العامة للسياسة الجديدة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وقد جاء فيها: «إن الشرق الأوسط وصل فجأة إلى مرحلة سياسية جديدة في تاريخه ونظراً للخطر الذي يتهدده من قبل الاتحاد السوفييتي، والدول التي تسيطر فيها الشيوعية العالمية، فقد أعلنت الولايات المتحدة بوضوح وأشارت بصراحة إلى أهمية المنطقة البالغة بالنسبة للدول الغربية». وقد وافق الكونغرس بمجلسيه على رسالة الرئيس، بتاريخ 9 آذار 1957، وعندها قام بإرسال مساعد وزير الخارجية إلى الشرق الأوسط جيمس ريتشاردز، في جولة على بلدان المنطقة، اعتباراً من 12 آذار 1957، لشرح نظريته (مبدأ آيزنهاور)، وإعلامه عن أفضل الطرق لتحقيقها. وسارعت الحكومة السورية إلى رفض مبدأ آيزنهاور عبر بيان رسمي أصدرته يوم 10/1/1957 تقول فيه: «ترى الحكومة السورية أن نظرية الفراغ هي نظرية مصطنعة يتذرع بها الاستعمار لتبرير تدخله وسيطرته، وأن الحكومة لترفض هذه النظرية رفضاً قاطعاً إذ لا فراغ في منطقة الشرق الأوسط بعد أن حصلت دوله على حريتها واستقلالها (....) إن الحكومة السورية إذ تشير إلى خطورة بيان الرئيس آيزنهاور لتعلن عن اعتقادها الراسخ بأن مهمة الحفاظ على الأمن والسلام في الشرق الأوسط منوطة بأهل هذه المنطقة، الذين لهم الحق بالدفاع عن أنفسهم تجاه كل خطر يتهددهم أياً كان مصدره» بيان الحكومة السورية بخصوص مبدأ آيزنهاور

كما أن السيد صبري العسلي، رئيس مجلس الوزراء، صرح للصحافة بهذا الخصوص: «إن هذا المبدأ ما هو إلا عذر سيبرر به التدخل لحماية المصالح الاقتصادية(النفط)، وإن سورية قد رفضت رفضاً قاطعاً نظرية فراغ القوة التي يقوم عليها مبدأ آيزنهاور» .

وكان الرفض أعنف وأشد على المستوى الشعبي فقد «اصطدم مشروع آيزنهاور بالمقاومة العنيفة لشعوب هذه البلدان فجرت في سورية مظاهرات احتجاجات واسعة، ووصلت إلى الحكومة والبرلمان مئات البرقيات والعرائض المطالبة برفض المشروع الذي استنكره ممثلو جميع الأحزاب السياسية تقريباً واصفين إياه بأنه إعلان الحرب الباردة في منطقة الشرق الأوسط». ولما لم تنجح السياسة الأمريكية في إخضاع سورية وإدخالها في النفوذ الأمريكي ردت على ذلك بأمرين: • الأول: انضمام الولايات المتحدة الأمريكية إلى اللجنة العسكرية التابعة لحلف بغداد في 19 آذار 1957. • والثاني: تدبير مؤامرة ضخمة بإشراف السكرتير الثاني في السفارة الأمريكية بدمشق. المستر هوارد ستون، بقصد قلب نظام الحكم في سورية، ولكن أجهزة الأمن السورية كشفت هذه المؤامرة، وقدمت الضباط والسياسيين الذين اشتركوا فيها إلى المحاكمة، في شهر آب 1957. وأما بالنسبة للمستر هوارد ستون ومساعديه فقد طلبت وزارة الخارجية سحبهم من سورية على اعتبار أنهم أشخاص غير مرغوب فيهم. «PERSONA NON GRATA» ولم ينته الصراع بين سورية والولايات المتحدة الأمريكية بهذا الشكل، فقد تفجر مجدداً على شكل حشود تركية ضخمة قابلتها تحركات مصرية وسوفييتية للوقوف إلى جانب سورية في النصف الثاني من عام 1957.

دور الجيش في صدّ الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة

عقدت الهدنة السورية - الإسرائيلية في 20 تموز 1949، وقضت بنودها بانسحاب وحدات الجيش السوري من الأراضي الفلسطينية التي احتلّتها أثناء الحرب، وبأن تصبح هذه الأراضي «مناطق مجردة» لا يحق لأي من الطرفين إدخال عسكريين من جيشه إليها أو ضمها لأراضيه.

وظلت هذه المناطق، طيلة عام 1951، هدفاً لاعتداءات الإسرائيليين عليها: ففي 25 آذار 1951 فتح اليهود النار باتجاه الخطوط السورية في القطاع المحيط بمستعمرة «مسْمَا هَايَردِن» ومزرعة الخوري من الجانب الإسرائيلي، وطالت الرمايات مخفري (الجمرك) و (جسر بنات يعقوب) السوريين. وفي 30 آذار من العام نفسه عزّزَ اليهود حشودهم في منطقة بحيرة الحولة، ومنعوا السكان العرب الذين يقطنون المنطقة المجردّة فيها من زراعة أراضيهم، ثم في 4 نيسان من العام نفسه دخلت قوة عسكرية إسرائيلية يزيد عدد أفرادها على مائة جندي إلى المنطقة المجردة، واحتلت قرية (السمرة) العربية ودمرتّها ، بينما بقيت المستعمرة اليهودية المجاورة لها (هاؤون) سليمة في مكانها. وبينما كانت لجنة الهدنة في سبيلها لمعالجة هذا الحادث وصلت أخبار عن محاولة دخول سيارتين إسرائيليتين تقلاّن جنوداً إلى موقع (الحمة)، الذي يقع في مكان تلاقي الحدود السورية مع الحدود الأردنية من جهة، والحدود الفلسطينية من جهة ثانية. وقد حاولت السيارتان التملص من المخفر السوري الموجود في مدخل البلدة فتظاهر قائدهما بأن السيارتين ضلّتا الطريق، وطلب مهلة لا تزيد على دقيقتين للعودة إلى ما بعد خط الحدود، فسمح له الضابط السوري رئيس المخفر بذلك، ولكنه سمعه يقول لأفراد السيارة الثانية بأن ينسحبوا إلى مسافة 50م ويحموا تراجعه لأنه سيقوم بإطلاق النار على رجال المخفر السوري ثم الانسحاب. وصدف أن قائد المخفر السوري كان من الضباط الفلسطينيين الذين يجيدون اللغة العبرية (الملازم رشيد جربوع) فأشار لجنده بإطلاق النار على أفراد السيارة الثانية فسقط من ركابها سبعة قتلى وجريح وأسير تم تسليمهم جميعاً إلى لجنة مراقبة الهدنة. وفي «5/4/1951، في الساعة السادسة عشر والنصف قصفت ثماني طائرات إسرائيلية منطقة الحمّة، وتصدّت لها الأسلحة المضادة». وخلال شهر نيسان من عام 1951 كانت القوات الإسرائيلية تهاجم سكان المنطقة المجردة العرب الذين كانوا يقطنون سهل الحولة، في النقيب، والغنّامة، والبكّارة،والجسر، فتُصادر أغنامهم وأبقارهم وتدمّر بيوتهم وتطردهم من ديارهم... وبما أن السكان كانوا أضعف من أن يتمكنوا من صدّ هذه الهجمات الصهيونية فقد جرى إدخال ثلاث فصائل من الجند، برتبائهم وضباطهم، من ملاك كتيبة الاستطلاع، وفوج المشاة الأول، والفوج السادس عشر باللباس المدني حيث اختلط الجند بالسكان المدنين، وخاض الطرفان معاً معركة حامية ضد الصهاينة، هي «معركة تل الشمالنة» أواخر شهر نيسان 1951. وقد أسفرت هذه المعركة عن مصرع ما يزيد على مائة جندي ومستوطن صهيوني مقابل سقوط تسعة شهداء أحدهم ضابط من الجانب السوري(الملازم الأول أسعد عميِّر) بالإضافة إلى إصابة عدد من الجرحى، وقد تمّ تكريمهم بوسام جرحى الحرب «نظراً لإصابتهم أثناء قيامهم بالواجب في منطقة العمليات الحربية».(شهداء معركة الشمالنة هم: الملازم الأول أسعد عمير، الرقيب صالح الحاج عبد الله، المجند يونس أسعد العيسى، المجند عبد صالح عيسى شعبان، المجند علي بن محسن محسن وجميعهم من فوج المشاة الأول، الوكيل زازو كاوه، المجند طه كلاس، المجند محمد حداد ديب، المجند أحمد عيسى حسن من كتيبة الاستطلاع، وقد منح هؤلاء جميعاً الوسام الحربي من الدرجة الأولى بعد الاستشهاد). وقد تتابعت حوادث الاعتداء على المنطقة المجردة وسكانها وكانت غايتها، حسبما ظهر بعدئذ، هي إلهاء القوات السورية بالمناوشات على خط الهدنة بينما كانت الجرّافات وآليات الشفط الإسرائيلية تقوم بتجفيف سهل الحولة، ونظراً لأن تجفيف هذا السهل يغير من طبيعة الأرض في المنطقة المجردة ويزيل حاجزاً طبيعياً بعرض 8 كيلو مترات تقريباً، لذا فقد تقدّمت الحكومة السورية بشكوى عاجلة إلى مجلس الأمن الدولي، وفي 8 أيار 1951 «اتخذ مجلس الأمن قراراً أدان فيه إسرائيل لإقدامها على تجفيف بعض أقسام بحيرة الحولة وتغيير مجرى نهر الأردن، مما أدى إلى أعمال حربية في المنطقة المجردة من السلاح الواقعة بينها وبين سورية، وقد دعا مجلس الأمن إسرائيل في قراره هذا للكف عن الأعمال التي باشرت بها». ولكن إسرائيل كانت قد انتهت من الأعمال التي تريد القيام بها في المنطقة! وعادت المناطق الحدودية للتفجر في أوائل عام 1953 بسبب محاولة إسرائيل تحويل مجرى نهر الأردن، فأرسل الرئيس آيزنهاور إلى المنطقة خبيراً في المياه، وهو المستر إيريك جونستون، الذين قدّم مشروعاً لتقاسم مياه نهر الأردن بين سورية والأردن وإسرائيل، ولكنّ هذا المشروع كان يعني ضمناً الاعتراف واقعياًDe facto بدولة إسرائيل وهذا ما رفضته الدولتان العربيتان، بينما تابعت إسرائيل عملية تحويل مياهه. وبتاريخ «27تشرين الأول 1953 أرغم مجلس الأمن إسرائيل على وقف الأعمال التي باشرتها في الضفة الغربية من نهر الأردن في المنطقة المجردّة، وحتى يبت المجلس في الشكوى التي قدّمتها سورية بهذا الخصوص، وقد عهد المجلس إلى رئيس أركان هيئة مراقبة الهدنة بالسهر على تنفيذ هذا التعهد». وقد كانت هذه الاصطدامات مقدمة للتفكير بإنشاء (الحرس الوطني) من سكان المنطقة، ويقول اللواء أمين أبو عساف في ذلك:«بعد أن تكررت حوادث العدوان الصهيوني على المنطقة المجردة، واتضحت خطتهم (أي خطة اليهود) القاضية بالاستيلاء على هذه المناطق والتمركز بها عسكرياً، وبعد طرد سكانها العرب، قررت رئاسة الأركان العامة الدفاع عن هذه الأراضي بشتى الطرق والأساليب للمحافظة عليها دون اللجوء إلى اصطدام يشترك فيه الجيش بشكل صريح. لذلك وسعياً وراء تنفيذ هذه الخطة لجأت قيادة القطاع بموافقة السلطات المسؤولة ومؤازرتها على تسليح السكان العرب في المناطق المجردة بأسلحة فردية وأوتوماتيكية تختلف نوعاً ما عن الأسلحة المستخدمة في الجيش». واستمرت المناوشات بين الجانبين السوري والإسرائيلي بقية عام 1953، وطيلة عام 1954.«وكانت في أغلب الأحيان إذا لم نقل دائماً، في صالح الجيش السوري، فقد استطاع هذا الجيش دائماً تعطيل العمل في تحويل مجرى نهر الأردن، وأن يفرض سيطرته على المنطقة المجردة، وخاصة منطقة الحمّة التي فشلت عدة محاولات إسرائيلية للسيطرة عليها. وكانت فصيلة كاملة من رجال الجيش السوري، بإمرة ضابط تابع لرئاسة الأركان مباشرة، تقيم بصفة مدنيين مع السكان الأصليين، في هذا الموقع لمنع إسرائيل من احتلاله كما فعلت في بقية أجزاء المنطقة المجرّدة».

معركة بحيرة طبريا (11/12/1955)

في عام 1955 عدلت إسرائيل عن سياسية الاصطدام الجبهوي إلى سياسة الكمائن والإغارات الليلية، حيث نصبت كميناً في تشرين الأول 1955، على طريق مخفر الجمرك - علمين، ذهب ضحيته الملازم أول أشرف حمدي وعدة شهداء. وفي يوم 11 كانون الأول 1955 اقترب زورق يهودي مسلح، أثناء ساعات النهار، من الشاطئ الشرقي لبحيرة طبريا، فأطلقت عليه مخافر المراقبة السورية النار، فأصيب بعض بحارته وتراجع إلى قاعدته. و «اعتبر الحادث منتهياً عند هذا الحد، فقد اعتاد اليهود أن يغامروا في الاقتراب من الشاطئ، واعتادوا أن يتلقوا تحية المراكز السورية فينطووا على أنفسهم ويعودوا من حيث أتوا». ولكن الوضع كان يختلف في ذلك اليوم، لأن الإسرائيليين كانوا يفتشون عن عذر يبررون فيه اعتداءاتهم على المخافر السورية في الحاصل والمسعوديةوالدوكا والكرسي ونقيب، ولذا تعمدوا التحرّش بهذه المخافر نهاراً لكي ينتقموا من أهلها وحَرَسها ليلاً! وكانت مهمة المخافر السورية القائمة على الشاطئ الشرقي لبحيرة طبرية المراقبة وإبلاغ المخافر العليا في تل ناقص 69، وتل النيرَب، موقع سكوفيا عن تحركات الصهاينة، وفي حال وقوع اعتداء صهيوني على نطاق واسع كان على هذه المخافر مشاغلة القوات المعادية ريثما تتدخل قوات المخافر الرئيسية (العليا). ومعنى هذا أن مهمة هذه القوات كانت مهمةمراقبة وإعاقة أكثر من أن تكون مهمة تصدٍّ وقتال. بدأ الهجوم على هذه المخافر عبر المحورين: المحور الأول على شكل إنزال بزوارق من البحيرة، والمحور الثاني بقوة برية انطلقت من مستعمرة عين جيف، وهذه القوة بحجم كتيبة من لواء «جولاني»، معززة بسرية من قوات المغاوير المدربّة على القتال الليلي، وعدد من الأدلاء المدنيين الذين يعرفون المنطقة. وكان أول عمل قامت به القوة المهاجمة هو قطع أسلاك الهاتف التي تصل المخافر الأمامية بالمخافر العليا. وأما المدافعون فكانوا لا يزيدون على سرية واحدة من المشاة هي السرية الثانية من الفوج الخامس بإمرة الملازم الأول سعيد قزيز، الذي كان مقره في تل ناقص69، ويعاونه ضابط مجند هو الملازم بشير صفدي. وكان هناك سرية أخرى من الفوج نفسه، مقرها في سكوفيا بإمرة الملازم أول ممدوح قرة شوللي.وإذا استثنينا مركز القيادة التعبوية للفوج،ومركز قيادة السرية الأولى (في سكوفيا) ومركز قيادة السرية الثانية(في تل ناقص 69)، فإن كل مخفر من المخافر السورية الأمامية الموجودة في منطقة البطيحة (الحاصل ، المسعودية، الدوكا، الكرسي، نقيب) لم يكن يحوي أكثر من جماعة مشاة ورشاش وأربعة أو خمسة من المدنيين بإمرة رقيب أو مساعد. لهذا لم تستغرق المعركة أكثر من أربع ساعات وانتهت إلى استشهاد أغلب العناصر الذين كانوا في المخافر الأمامية، وحوالي ثلث من كانوا في مركز قيادة السرية(تل ناقص 69) بمن فيهم ضابطان مجندان وقائد الموقع الملازم الأول (الشهيد) سعيد قزيز. وفي صبيحة المعركة صرح ناطق عسكري سوري بالبيان التالي: «في الساعة 22,30 من تاريخ11/12/1955» قام الصهاينة بهجوم مركّز واسع النطاق على طول الشاطئ الشرقي السوري لبحيرة طبريا، تتألف عناصره من قطعات مغاوير تقدر بفوجين من مصب نهر الشريعة في البحيرة، ومن مستعمرة عين جيف، تدعمها كوكبة مصفحات وتساند المجموعة نيران مدفعية الميدان والزوارق الحربية، استطاعت هذه القوة بعد قتال عنيف دام أربع ساعات الاستيلاء على المخافر الأربعة المتمركزة على الشاطئ للمراقبة والإنذار.

وبعد أن استشهد معظم العسكريين أمام تلك القوة الكبيرة، حاول الإسرائيليون بعد استيلائهم على مخافر المراقبة الهجوم على المرتفعات ومراكز المقاومة المحيطة بالشاطئ، فركزوا نيرانهم واندفعوا بكامل قوتهم تدعمهم المصفحات للاستيلاء على أحد مراكز المقاومة الرئيسية فدار قتال عنيف استمر ساعتين، ثم انسحب الصهاينة إثر فشلهم من المخافر السورية كلها، بعد أن تكبدوا خسائر فادحة. لقد ضربت مخافر مراقبتنا بحاميتها الضئيلة أروع مثل في البطولة والتضحية، وكانت خسائرنا خمسة وعشرين شهيداً منهم ثلاثة ضباط، وثمانية وعشرين مفقوداً. لقد قامت عشر سيارات إسعاف إسرائيلية منذ الساعة الثانية عشرة حتى الرابعة صباحاً بنقل الجرحى والقتلى الصهاينة من منطقة القتال إلى مستعمرة عين جيف الإسرائيلية» . ولقد قامت القيادة العسكرية السورية بعد المعركة بسحب السرية الثانية من الفوج الخامس، التي تلقت الصدمة، فجمعتها في مركز قيادة الفوج في بلدة (فيق)، واسندت قيادتها إلى ضابط كفؤ استكمل نواقصها (النقيب إحسان هندي)، وتابع تدريبها لمدة شهرين انتشرت بعدهما في موقع (كفر حارب)، حيث ثأرت لقتلاها حين نجحت في صدّ وحدة إسرائيلية كانت تحاول التقدم في وادي(قلعة الحصن) باتجاه مركز القيادة في بلدة فيق خلال الشهر الرابع من عام 1956. ولم يكن مكان هذه المعركة يبعد بأكثر من بضعة كيلو مترات عن المكان الذي دارت فيه قبل بضعة أشهر معركة طبريا. أدان مجلس الأمن في 19 كانون الثاني 1956بصراحة تامة العدوان الذي شنته إسرائيل في 11 كانون الأول 1955 على المراكز السورية قرب بحيرة طبريا، وقد اعتبر عملها هذا خرقاً فاضحاً لنصوص الهدنة، ومتناقصاً تناقصاً تاماً مع التزامات إسرائيل بموجب نصوص هيئة الأمم المتحدة. ونثبت فيما يلي: نص هذا القرار لأهميتة (بعد اختصار الحيثيات): « إن مجلس الأمن: أ ـ يعتبر أن ما تضعه سورية من عراقيل في وجه صيادي الأسماك اليهود في بحيرة طبريا لا يبرر العدوان اليهودي. ب ـ يذكّر المجلس أنه سبق أن شجب الأعمال الإسرائيلية التي قامت بها خارقة بذلك نصوص اتفاقيات الهدنة، وأنه سبق له أن طلب من إسرائيل اتخاذ التدابير اللازمة بمنع تكرار وقوع مثل هذا الحادث. ج ـ يشجب المجلس العدوان الذي قام به اليهود في الحادي عشر من كانون الأول 1955، ويعتبره خرقاً فاضحاً لنصوص اتفاقية الهدنة والتزامات إسرائيل بموجب ميثاق الأمم المتحدة. د ـ يعبر المجلس عن قلقه الشديد من جراء خرق إسرائيل لالتزاماتها. هـ ـ يدعو المجلس إسرائيل لكي تتمسك بهذه الالتزامات وإلا فإن المجلس سيضطر لاتخاذ تدابير أخرى في المستقبل وفق ميثاق الأمم المتحدة لتوطيد وإعادة السلم في المنطقة. و ـ يدعو المجلس الجانبين إلى احترام التزاماتهما بموجب المادة الخامسة من اتفاقيات الهدنة على الحدود والمنطقة المجردة من السلاح. ز ـ يدعو المجلس الجانبين إلى التعاون مع كبير المراقبين الدوليين لتبادل الأسرى في أسرع وقت ممكن». وفي أيلول 1957 «وقع اشتباك بين أهالي قرية التوفيق وجماعة إسرائيلية مسلحة، ونجم عن ذلك قَتْل وجرح عدد من الإسرائيليين، وكانت نتيجة ذلك منع الإسرائيليين من حفر قناة عبر أراضي القرية».

دور الجيش إبان العدوان الثلاثي على مصر

في السابع عشر من شهر نيسان 1950 تم التوقيع على (معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي) بين دول الجامعة العربية، وتنص على التزام كل دولة عضو بأن تهب لنجدة أي دولة أخرى عضو في المعاهدة إذا تعرضت لاعتداء مسلح. وقد وقع هذه المعاهدة عن الجانب السوري الدكتور ناظم القدسي، بصفتة رئيساً للحكومة ووزيراً للخارجية. وتتميز هذه المعاهدة عن «ميثاق جامعة الدول العربية» بأمرين: 1 ـ وافقت الدول المتعاهدة على أن تلتزم بالقرارات الصادرة عن المجلس بأغلبية الثلثين (المادة 9)، بمعنى أن شرط الاجماع ليس ضرورياً. 2 ـ تعهدت الدول الأعضاء بعدم إبرام أية اتفاقية دولية لا تتفق مع المعاهدة الحالية، وأن لا تتبع علاقاتها الدولية سبيلاً لا يتلاءم مع أغراض المعاهدة وقد «وصفت الاتفاقية بأنها خطوة نحو تكامل أكبر بين الدول العربية وتعبير عن إراداتها بالوقوف جنباً إلى جنب». وقد أبرمت الحكومة السورية هذه المعاهدة بالقانون رقم /9/ تاريخ 5/6/1951 دلالة على استعدادها لتنفيذها فوراً. ولما تأخرت بقية الدول العربية في تنفيذ نص المعاهدة حاولت الحكومة السورية أن تقنعها بتنفيذها، وهكذا سافر العقيد أديب الشيشكلي، نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الأركان العامة في ذلك الوقت إلى مصر، وأدلى هناك بتصريح جاء فيه: « لقد جئنا إلى مصر لأمور تتعلق بالضمان الجماعي، ولهذا الضمان ناحية عسكرية وأخرى سياسية. وفيما يختص بالناحية العسكرية التي تدخل ضمن نطاق عملنا رأينا من المناسب الاتصال بذوي الشأن من رجال مصر لنقوم ببعض الدراسات حول مشروع الضمان الجماعي، الذي توليه الحكومة السورية تأييدها التام كأداة صالحة للدفاع عن كيان العالم العربي». ولكن هذه المعاهدة بقيت ـ رغم الجهود والمحاولات السورية ـ حبراً على ورق، ولم تنفذ في الواقع، ولذا أخذت الدول الأعضاء في الجامعة تلجأ إلى عقد الاتفاقيات الثنائية بين بعضها بعضاً. وقد انتهى العمل بهذه المعاهدة فعلياً في الشهر الأول من عام 1955، حين قام العراق بعقد الحلف العراقي - التركي، الذي يتعارض مع نص ميثاق الدفاع العربي المشترك لفظاً ومضموناً، وردّت مصر على ذلك بإعلان الانسحاب من هذا الميثاق. وعرضت مصر عندئذ على سورية الارتباط بمعاهدة جديدة باسم «ميثاق الدفاع السوري - المصري المشترك»، ولكن الحكومة السورية لم تقبل الارتباط بهذا الميثاق بشكل رسمي إلا في 20 تشرين الأول 1955، وتم تبادل وثائق الإبرام في 8 تشرين الثاني من العام نفسه. وقد نص ميثاق الدفاع السوري - المصري المشترك «على تشكيل جملة مؤسسات مشتركة في مجال الدفاع، ومن هذه المؤسسات (اللجنة العسكرية الدائمة)، و(الهيئة الاستشارية العليا)، و(مجلس الدفاع المشترك). وتتألف اللجنة من وزراء الخارجية والدفاع في كلا البلدين، وهي التي تصدر التوجيهات المتعلقة بالسياسة العسكرية إلى قائد مجلس الدفاع المشترك الذي تعنيه اللجنة العسكرية الدائمة. أما الهيئة الاستشارية العليا فتتألف من رئيسي أركان القوات المسلحة في مصر وسورية، وتعمل كهيئة استشارية للجنة العسكرية الدائمة. ويضم مجلس الدفاع المشترك القائد الأعلى ورئيس الأركان العامة وبعض الشخصيات العسكرية الأخرى. وفي زمن الحرب توضع القوات المسلحة لكلا البلدين تحت تصرف مجلس الدفاع المشترك. وكان الهجوم على أي بلد سوف يعتبر هجوماً على البلدين كليهما. أما مدة الميثاق فخمسة أعوام تتجدد تلقائياً. وقد عين الفريق عبد الكريم عامر، وزير الحربية المصري، والقائد العام للقوات المسلحة، المصرية، قائداً عاماً لمجلس الدفاع المشترك». وحين تعرض القطر المصري الشقيق للعدوان الثلاثي الذي قامت به جيوش بريطانيا وفرنسا و إسرائيل ضد أراضيه في أواخر شهر تشرين الأول عام 1956، سارعت الحكومة السورية وعرضت على مصر أن تدخل الحرب رسمياً إلى جانبها، ولكن الرئيس جمال عبد الناصر طلب من الحكومة السورية التريث مع البقاء على أهبة الاستعداد. وقد وضع الجيش العربي السوري بكامله تحت تصرف «القيادة المشتركة»، استناداً لنص ميثاق الدفاع المشترك بين البلدين، ولكن القيادة المشتركة فضَّلت سدّ الجبهة الأردنية بما يعادل فرقة سورية، وإبقاء القوات السورية الأخرى على أهبة الاستعداد. وتنفيذاً لأوامر القيادة المشتركة شكل ما يسمى (الجمهرة السورية الأولى) من الوحدات التالية: اللواء الثالث مشاة بإمرة العقيد سهيل العشي، اللواء المدرع المتمركز في حوران بإمرة المقدم طعمة العودة الله، فوج مدفعية بإمرة المقدم جوزيف بيرمان، فوج هندسة بإمرة المقدم ممدوح الحبّال، وكُلّفت هذه الجمهرة بالتوجه بسرعة فائقة إلى الأردن بإمرة العقيد سهيل العشي، وأن تضع نفسها تحت تصرف الفرقة الأردنية بقيادة اللواء راضي عناب، للقيام بمهمة هجومية على إسرائيل، ولكن «لكن أمراً معاكساً وصل يوم 31/10/56 من القيادة المشتركة في القاهرة، ويقضي بأخذ خطة الدفاع، وأصبحت مدينة اربد مقراً لقيادة الجمهرة». وقد كلفت الحكومة السورية، إضافة إلى ذلك، وفداً سورياً رسمياً رفيع المستوى بالسفر إلى موسكو لإقناع السوفييت بوضع كل ثقلهم إلى جانب مصر في المعركة، وهكذا قام الرئيس شكري القوتلي بزيارة عاجلة إلى الاتحاد السوفييتي، ما بين الثلاثين من تشرين الأول والرابع من تشرين الثاني(...) وقد صحبه فيها عبد الحسيب رسلان وزير الدفاع، وتوفيق نظام الدين رئيس الأركان العامة، ورشادي جبري وزير الزراعة. ولا شك بأن القيام بهذه الزيارة الرسمية على أعلى المستويات، في أول أيام المعركة، فيها دلالة أكيدة على الغاية من القيام بها.

وكان لحادثة نسف أنابيب النفط في سورية أثر كبير في وقف العدوان الثلاثي على مصر، ويقول السيد خالد العظم في ذلك: «وقد دلت الحوادث فيما بعد على أن بريطانيا وفرنسا تضعضعتا أمام ما قامت به سورية من نسف محطات الضخ وقطع الأنابيب إبان العدوان على مصر، إذ أن سير السيارات والطائرات كاد أن يتعطل في بلادهما بسبب ندرة البنزين، ثم خشيتا من اضطرار المعامل إلى إغلاق أبوابها لنضوب المازوت في المستودعات». ويلخص كتاب «الذكرى الخمسون لتأسيس الجيش العربي السوري» أثر وقوف سورية بكاملها، حكومة وجيشاً وشعباً، إلى جانب مصر لإحباط العدوان الثلاثي الذي تعرضت له أواخر سنة 1956 بالقول: «لم تكن مصر وحدها في المعركة، بل شاركت سورية في أداء الواجب المقدس، ووقف المقاتل العربي السوري يحمي ظهر أخيه وصدره، ويقتحم معه بحار الموت، حتى تمكن الشهيد البطل (جول جمال) من إغراق مفخرة البحرية الفرنسية المدمرة (جان بارت). وفي الوقت نفسه قامت قوات سورية بتدمير عدد من مضخات البترول الخاصة بشركة نفط العراق، فانقطع بذلك مورد العائدات الرئيسي الذي يحرك آلة الحرب الإمبريالية، مما كان له أعظم الأثر في بلبلة الأوضاع في الدول المعتدية وفي أوروبا، كما أسقطت طائرة سورية من طراز « ميتيور» يقودها الملازم الأول منير جيرودي، قاذفة قنابل بريطانية من طراز (كامبيرا) فوق الأراضي اللبنانية».

دور الجيش السوري في مواجهة الحشود التركية

لقد أُشير سابقاً إلى موافقة حكومات تركيا وإيران ولبنان والعراق والأردن منذ بداية عام 1957 على ما عُرف بـ: (مبدأ آيزنهاور)، في حين تمسكت مصر بالحياد، وقامت سورية بمهاجمة هذا المبدأ بعنف. و«أقر الكونغرس الأمريكي الرئيس آيزنهاور على نظريته وأعطاه الصلاحيات الكاملة لاستخدام القوى المسلحة الأمريكية بدون الحصول على موافقة الكونغرس قبل الإقدام على التدخل». وفي سبيل «احتواء» سورية وإعادتها إلى دائرة النفوذ الغربي عمدت السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط إلى تكتيك مزدوج، وهو التآمر على أمن سورية ، لقلب نظام الحكم فيها من الداخل، والضغط على حدودها من الخارج، من تركيا والعراق والأردن وحتى من لبنان! وجاءت ثلاثة أحداث متتابعة زادت في حدة تأزم العلاقات الأمريكية - السورية خلال النصف الثاني من عام 1957: «ففي السادس من آب وقّع وزير الدفاع السوري خالد العظم معاهدة اقتصادية وفنية واسعة المدى مع الاتحاد السوفييتي في موسكو، وبعد أسبوع جرى إبعاد ثلاثة دبلوماسيين أمريكيين اتهموا بالتآمر على قلب نظام الحكم (في سورية)، واتبع ذلك مباشرة تقاعد توفيق نظام الدين رئيس الأركان العامة وتعيين عفيف البزري، المعروف بتعاطفه مع السوفييت، بدلاً منه، وفي الوقت نفسه جرى تسريح العشرات من الضباط».

واستغلت وسائل الإعلام الأمريكية والخاصة هذه الأحداث لتقوم بحملة تهويل وتضخيم الأخطار التي أصبحت تسببها سورية لجيرانها في المنطقة، وجاء في تعليق جريدة نيويورك تايمز في الثامن عشر من آب 1957: «والسؤال الكبير الذي سيواجه المستر دالس وزعماء آخرين للدبلوماسية الغربية في هذا الأسبوع، هو ما إذا كانت الولايات المتحدة وجيران سورية الموالون للغرب سيحتملون وجود دولة تابعة للسوفييت أو ما يشابه ذلك، في قلب منطقة الشرق الأوسط؟». وهكذا نجحت وسائل الإعلام الأمريكية في إيهام الدول المجاورة لسورية بأن هذه الدولة أصبحت تشكل خطراً عليها جميعاً. وللتنسيق بين هذه الدول «أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية لوي هندرسون، نائب وزير خارجيتها، إلى أنقرة، حيث اجتمع بعدنان مندريس رئيس وزراء تركيا، والملك العراقي فيصل الثاني، والحسين ملك الأردن (...) وفي السابع والعشرين من آب صرّح دالس وزير خارجية أميركا أن جيران سورية قلقون للكميات الكبرى من السلاح السوفييتي التي تدفقت عليها! ومن أنقرة انتقل هندرسون إلى بيروت حيث اجتمع بكميل شمعون ووزير خارجيتة شارل مالك، ثم عاد إلى واشنطن من غير أن يجري أي اتصال بالزعماء السوريين أو المصريين. وحال عودته هذا صدر بيان صحفي عن البيت الأبيض أظهر قلق البلدان المجاورة لسورية من السيطرة السوفييتية المتزايدة على سورية، والحشد الكبير من الأسلحة السوفييتية فيها».

وأضاف البيان أن الرئيس آيزنهاور قد سمح بزيادة شحن المواد الاقتصادية الدفاعية المقررة لاستعمال هذه البلدان وقد بُدئ بالفعل بشحن الأسلحة جواً إلى العراق والأردن». وكان الإجراء الأول في عملية الضغط على سورية من الخارج هو الحشود التركية الضخمة على حدودها الشمالية، في شهر أيلول 1957، فقد استغلت الحكومة التركية «الضوء الأخضر» الذي تلقته من أميركا وحشدت أكثر من نصف قواتها على الحدود السورية - التركية بحجة القيام بـ «مناورات الخريف». ومثل هذا العمل لا يمكن أن يمر بدون إثارة الاتحاد السوفييتي الذي أنذر تركيا فعلاً، على لسان رئيس وزرائه، بأن إي عمل حربي ضد سورية ستواجهه موسكو بعمل مماثل ضد تركيا. و«اتخذت مصر العربية خطوة حاسمة بصدد الأزمة، بعد أن تحقق لديها أن الغرض منها هو الضغط على سورية لعزلها عن مصر وضرب كتلة التحرر العربي، فبادرت مصر إلى إنزال وحدة من قوتها المسلّحة في ميناء اللاذقية (تشرين الأول 1957) لمساندة القوات السورية التي وقفت في مواجهة الخطر التركي». وردت سورية على البيانات الأمريكية والحشود التركية الاستفزازية بتقديم شكوى إلى مجلس الأمن ضد حكومتي تركيا والولايات المتحدة الأمريكية معاً، وتطورت الأزمة إلى «أزمة دولية» بعدما أرسل الاتحاد السوفييتي طراداً حربياً إلى ميناء اللاذقية، وأرفق ذلك بتصريح من المارشال بولغانين، يتوعد تركيا بأنها «لم تصمد يوماً واحداً في حرب شرق أوسطية، وأن الاتحاد السوفييتي على استعداد لاستعمال القوة إذا لزم الأمر للدفاع عن مصالحه في المنطقة». ونظراً لأن سياسة وزير الخارجية الأمريكية دالس، كانت تقوم على افتعال الأزمات الدولية، والدفع بها نحو الذروة (سياسة حافة الهاوية)، ثم القبول بحلها في آخر لحظة بعد تحقيق ما يمكن تحقيقه من مكاسب، فقد بدأ في «تَلْيين» الموقف الأمريكي تدريجياً، وأصدر الرئيس الأمريكي بياناً يفيد بأن «الوضع السوري آخذ بالاستقرار، وبدأ يخف الخطر الذي شعرت به دول عربية مثل لبنان والأردن والعراق والسعودية». وفي الوقت نفسه قبل الطرفين. وبعد نزع فتيل الأزمة سحبت الحشود التركية بعيداً عن منطقة الحدود السورية. وسحبت الحكومة السورية شكواها إلى مجلس الأمن. ويشرح وليد المعلم الأسباب التي دعت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لافتعال هذه الأزمة بقوله:«استهدف التكالب على سورية بصورة خاصة وعلى المنطقة بصورة عامة، تحقيق ثلاثة أهداف: 1 ـ تصفية مشكلة إسرائيل على أساس الأمر الواقع، أي تحويل خطوط الهدنة إلى حدود دائمة. 2 ـ فرض تنظيم دفاعي يخدم المصالح الأمريكية وحدها. 3 ـ جر العرب للانحياز إلى السياسة الأمريكية في جميع المسائل الدولية، حتى تتحول المنطقة إلى منطقة نفوذ أمريكي». وهكذا أثبتت سورية حكومة وجيشاً وشعباً أنها لا يمكن أن ترضخ للتهديد والوعيد، وأنها عصية على المؤامرات، وأنها بوسعها أن «تصادق من يصادقها وتعادي من يعاديها». وأثبت الجيش السوري بشكل خاص أنه جيش كفء، بوسعه أن يذود عن البلاد ويحميها من أي خطر خارجي حتى لو كانت إحدى الدول العظمى في العالم هي التي تشكل هذا الخطر. وبالتالي أصبح هذا الجيش أقوى وأكثر ثقة بنفسه وحلفائه، بعد استلامه الأسلحة السوفييتية الجديدة من جهة، وبعد وضع «ميثاق الدفاع المشترك» مع مصر قيد التطبيق من جهة ثانية.

دور الجيش في تحقيق الوحدة مع مصر

في إثر إزاحة نظام الشيشكلي في 25/2/1954، واشتراك بعض الضباط من أصحاب الرتب الصغيرة في عملية الإطاحة به، بدأت هذه الفئة من الضباط بالوصول إلى مناصب القيادة على مستوى السرايا والكتائب، وهذا ما أعطى هؤلاء أهمية كبرى في توجهات الجيش، وفي تنامي هذه التوجهات بمنأى عن الأهواء السياسية لزعماء الأحزاب. وكان أغلب هؤلاء الضباط من أبناء الدورتين الأولى والثانية في الكلية العسكرية بعد الاستقلال (1945- 1947 و1946 - 1948) ولذا كانوا يعرفون بعضهم جيداً بشكل وثيق، وهذا ما سهَّل تعاونهم واندماجهم في كتلة واحدة ضمَّت 24 ضابطاً منهم أخذت اسم «مجموعة الضباط»، وقد لعبت هذه المجموعة دوراً في توجهات الجيش منذ أواسط عام 1955. (ضمت هذه المجموعة حسب رواية واحد من أعضائها: العقيد عفيف البزري والعقيد أمين النفوري والمقدمين: عبد الحميد السراج، مصطفى حمدون، طعمة العودة الله، أحمد عبد الكريم، بشير صادق، أكرم ديري، جادو عز الدين، إبراهيم فرهود، أحمد حنيدي، محمد أمين الحافظ، محمد النسر،عبد الغني قنوت، لؤي الشطي،زهير عقيل، ياسين فرجاني،جاسم علوان، عبد الله جسومة، حسين حدة، غالب شقفة، بكري الزوبري، جمال الصوفي، مصطفى رام حمداني). وفي عام 1956، وبعد أحداث العدوان الثلاثي، اختير نصف هؤلاء ليشكلوا مجلس عُرف بـ «مجلس القيادة»، وكان أعضاء هذا المجلس هم : العقيد عفيف البزري، العقيد أمين النفوري، المقدم أحمد عبد الكريم، المقدم مصطفى حمدون، المقدم محمد أمين الحافظ، المقدم عبد الغني قنوت، المقدم طعمة العودة الله، المقدم أحمد جنيدي، المقدم حسين حدة، المقدم ياسين الفرجاني، المقدم بشير صادق،المقدم محمد النسر، المقدم مصطفى رام حمداني. وقد لعب هذا المجلس دوراً أساسياً في جميع الأحداث العسكرية والسياسية التي جرت في سورية عام 1957، وعلى سبيل المثال فإن اللواء توفيق نظام الدين حين اتخذ قراراً بنقل المقدم عبد الحميد السراج من رئاسة الشعبة الثانية إلى القاهرة كملحق عسكري، حرّك هذا الأخير مجلس القيادة فقام بعض أعضائه بأعمال عصيان في معسكرات قطنا، أضطر على أساسها اللواء نظام الدين إلى إلغاء أمر النقل، وإعادة عبد الحميد السراج إلى الشعبة الثانية، ثم إلى تقديم استقالتهمن منصبه ليخلفه العقيد عفيف البزري الذي رفع إلى رتبة لواء بعد ذلك. ـ يضاف إلى ذلك أن بعض ضباط «مجلس القيادة» ومجموعة«الضباط كانوا يعودون في أصولهم إلى الطبقات الشعبية الفقيرة أو المتوسطة، وهذا ما جعلهم يتعاطفون مع مبادئ (حزب البعث العربي الاشتراكي)، لتوافق مبادئه على تطلعاتهم، ولهذا لم يكن غريباً أن «أظهر الجيش السوري تأييده الحاسم لمطلب الوحدة الكاملة، بسبب النضال النشيط الذي قام به حزب البعث داخل الجيش من جهة، والسعي الصادق للضباط الوطنيين وجماهير الجنود نحو الوحدة من جهة أخرى». والحقيقة أن الوحدة مع مصر لم تكن غاية قومية لأفراد الجيش فقط بل كانت هدفاً من أهداف الشعب السوري بكامله: ففي 28 حزيران 1957 وقع أكثر من 3000 طالب جامعي على عريضة طالبت مجلس النواب بإقامة وحدة فورية مع مصر، وفي 5 تموز أعلن رئيس الوزراء صبري العسلي عن تشكيل لجنة وزارية مهمتها القيام بمفاوضات مع مصر من أجل الوحدة، وقد أيد (مجلس النواب) قرار الحكومة. وكانت الرغبة نفسها موجودة لدى أعضاء (مجلس الأمة) في مصر، وقد عبر عنها المجلسان على لسان ممثليها في الجلسة التاريخية المنعقدة في 18 تشرين الثاني 1957، والتي انتهت إلى وضع مذكرة تحدد شكل الوحدة بأنها «اندماجية لها دستور واحد، ورئيس واحد، وسلطتان تشريعيتان وتنفيذيتان موحدتان، وقائد أعلى للقوات المسلحة ومجلس دفاع أعلى». ويبدو أن الضباط أعضاء «مجلس القيادة» لم تقنعهم طروحات السياسيين بإقامة «اتحاد فيدرالي» بين القطرين يأخذ بعين الاعتبار خصوصيات كل قطر، فلقد كانوا يتطلعون إلى وحدة اندماجية فورية لها رئيس واحد هو الرئيس جمال عبد الناصر، بعد أن «ألفت بين قلوبهم فكرة واحدة، وهم الذين أبهرتهم انتصارات عبد الناصر واحتكوا أكثر من غيرهم بالجيش المصري من خلال القيادة المشتركة، وهي التوجه إلى القائد الأعلى عبد الناصر لرجائة إعلان الوحدة مع سورية فوراً». وهكذا قرر أعضاء مجلس القيادة أن يتخذوا المبادرة بأنفسهم بأن يسافر وفد منهم إلى مصر ويعرض إقامة وحدة اندماجية فورية بين الجيشين وبين الشعبين وبالشروط التي يرضى عنها الرئيس عبد الناصر، وكان قرارهم هذا بتاريخ 11/1/1958، وفي الساعة الواحدة من صباح 12/1/1958 توجهت طائرة من مطار المزة العسكري بدمشق، وهي تحمل أربعة عشر ضابطاً أغلبهم من أعضاء (مجلس القيادة)، (وهم: عفيف البزري، مصطفى حمدون، عبد الحميد السراج، أكرم ديري، حسين حدة، جمال الصوفي، بشير صادق، محمد النسر، محمد أمين الحافظ، أحمد حنيدي، طعمة العودة الله، نور الله الحاج إبراهيم، ياسين فرجاني، عبد الغني قنوت). وقد قابل الوفد الرئيس عبد الناصر، الذي قبل طلباتهم وشكل لجنة مصرية - سورية للاتفاق على الخطوط العامة لدولة الوحدة(ضمت هذه اللجنة عشرة أشخاص هم: عفيف البزري، بشير صادق، مصطفى حمدون، أكرم ديري، حسين حدة، عبد الغني قنوت من الجانب السوري والمشير عبد الحكيم عامر، عبد اللطيف البغدادي، أنور السادات، خالد محي الدين من الجانب المصري). وفي دمشق قابل العقيد أمين نفوري معاون رئيس الأركان كلاً من أكرم الحوراني رئيس مجلس النواب، وصبري العسلي رئيس مجلس الوزراء، وخالد العظم وزير الدفاع، وقدم لهم مذكرة عن الأسباب التي دفعت (مجلس القيادة) لتجاوز الحكومة وطلب تحقيق الوحدة مع عبد الناصر شخصياً(72)، ولم يجد مجلس الوزراء حلاً أفضل من قبول الواقع، وإرسال وزير الخارجية الأستاذ صلاح الدين البيطار لكي يلحق بالوفد إلى القاهرة. نص المذكرة الموجهة من قيادة الجيش إلى الحكومة السورية

وفي 20 كانون الثاني 1958 أعلنت صحيفة الأهرام القاهرية «أن قراراً تاريخياً قد اتخذ بعد اجتماع طويل تم بين عبد الناصر وكل من البيطار وعفيف البزري»، ونقلت الأهرام عن البيطار قوله: «تم الاتفاق على شكل ومحتوى الاتحاد العضوي بين مصر وسورية». وفي 30 كانون الثاني من العام نفسه بدأت الخطوات التنفيذية الأولى لقيام الوحدة حيث انتقل رئيس الجمهورية شكري القوتلي ومجلس الوزراء ومجموعة من الضباط إلى القاهرة تمهيداً لإعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة، وفي اليوم نفسه صدرت مجلة «الجندي» التي تعبر عن الرأي الرسمي لقيادة الجيش، لتقول وبالحرف الواحد: «رئيس واحد، سلطة تشريعية واحدة، جيش واحد، أي دولة تضم مصر وسورية اليوم والشعب العربي كله غداً». وفي 22 شباط 1958 جرى الاستفتاء في سورية ومصر على انتخاب رئيس الجمهورية ومنحه صلاحية إصدار الدستور المؤقت، وجاءت نتيجة الاستفتاء بفوز الرئيس جمال عبد الناصر بأغلبية مطلقة، وفي 5 آذار أعلن رئيس الجمهورية الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة، وأصدر في اليوم التالي مراسيم تشكيل أول وزارة لها، وبدأت صفحة جديدة في تاريخ سورية الحديث.


وزراء الدفاع

دولة سوريا

  • عبد الحميد القلطقجي (9 أذار 1920.– 3 أيار 1920)
  • يوسف العظمة (3 أيار 1920 – 24 تموز 1920)

سوريا الانتداب

الجمهورية السورية

سوريا الحديثة