المراتب الاجتماعية لقبائل الجزيرة العربية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القبائل (الوضيعة): العبيد والمعتوقين

ومن بين دافعي الجزية لقبائل البدو القوية كذلك ما يسمون بالقبائل الوضيعة في الجزيرة العربية: الصلبة. فنتيجة التطور التاريخي الخاص غدت هذه القبائل مجزأة إلى عدة أفخاذ هائمة في شبه الجزيرة كلها بشكل جماعات غير كبيرة وليس لها أرض خاصة بها ، الأمر الذي كان سببا في ضعفها. وكان أغلبها يترحل في أراضي الغير مع أصحاب تلك الأراضي. وكتب بوركهاردت يقول: (بين القبائل الكثيرة جداً التي تقطن بوادي الجزيرة لا توجد قبيلة أكثر تشتتاً وتواجدا في جميع أرجاء هذا البلد من الصلب . فيمكن للمرء أن يصادف خيام هذه القبيلة في سوريا وفي صعيد مصر والدلتا ونجد وبلاد الرافدين ... وفي كل مكان تقريبا نجدها مضطرة إلى دفع الإتاوات للقبائل المجاورة لقاء رعي الماشية).

وكانت واسطة النقل الرئيسية عند الصلبة هي الحمير وليس الإبل . ولم يكن الرعى عادة بقادر على إطعام هذه القبيلة، ولذا اضطرت إلى ممارسة نشاط يعتبر مهيناً في مجتمع الجزيرة، مثل بعض الصنائع. وصار البعض موسيقيين محترفين وراقصين ومطببين. وخدموا عند الوجهاء في هذه المهن. وكانوا يتكهنون باحتمالات الطقس ويشيرون إلى مواقع المراعي الأفضل ويلتقون الهبات في مقابل ذلك.

وغدا أفراد القبائل (الوضيعة) مادة للاستغلال والابتزاز بلا رحمة من قبل البدو الأقوياء. وأورد دوتي مثالاً فقال: (وصل عدد من أبناء عنزة إلى الواحة وهم يقتادون في الدرب شخصا عارياً يثير الشفقة والحبل في عنقه. كان ذلك من أبناء غجر. وكان البدو يصرخون كالسعوديين متهمين إياه بتأخير تسديد الخوة وقدرها عشرة ريالات. اقتادوه لكي يروا ما إذا كان هناك شخص في خيبر يدفع الخوة بدلاً عنه كما وعدهم، وإذا لم يجدوا ذلك الشخص فسيسحبون هذا المسكين إلى خارج المدينة ويقتلونه). إن هذه الواقعة وحدها تبين مدى الهوة العميقة التي تفصل بين البدو الأحرار وبين الإراد القبائل (الوضيعة)، ومدى قساوة أشكال استغلال البعض للبعض الآخر.

وقد ظلت العبودية (الرقيق) في الجزيرة العربية قائمة طوال قرون . وكان العبيد ينقلون إلى شبه الجزيرة في الغالب من شرق ووسط أفريقيا . كانت هناك حملات خاصة لتجارة العبيد تستولي عليهم أو تشتريهم خصيصا ، كما أن بعض الحجاج كانوا يبيعونهم بغية تغطية نفقاتهم على زيارة الحرمين . كانت تجارة العبيد متركزة في مكة على الأغلب، ولكنها كانت تجري أيضا في مدن أخرى مثل الهفوف ومسقط. ويبدو أن عدة آلاف من العبيد كانت ترد إلى الجزيرة ومسقط. ويبدو أن عدة آلاف من العبيد كانت ترد إلى الجزيرة سنويا. وفي حالات استثنائية كان الأعراب يتحولون إلى عبيد.

كان أكبر عدد من العبيد متواجدا في مركز تجارة العبيد – الحجاز ، حيث كانت كل أسرة مستقلة بهذا القدر أو ذاك تسعى إلى شراء الرقيق. وخارج الحجاز كانت العوائل الغنية فقط تمتلك عبيداً. كتب پلگريڤ: (صادفنا أحيانا في الجزيرة العربية زنوجاً، في الجوف وجبل شمر والقصيم وسدير. ولكننا رأيناهم فقط يؤدون أدواراً للعبيد، ونادرا ما صادفناهم في منازل غير منازل أكثر الناس ثروة). ويقول الرحالة أن عدد الزنوج والمولدين في جنوب نجد كان في ازدياد، وكانوا في بعض الواحات يشكلون أغلبية السكان. (في الرياض كثير من الزنوج، وعددهم أكثر في منفوحة والسلمية وغالباً ما نصادفهم في الخرج ووادي الدواسر وأعرافهما).

وكان وجهاء البدو يمتلكون العبيد أيضا. كتب بوركهاردت عن عنزة يقول: (كل شيخ قوي يقتني سنويا خمسة أو ستة عبيد وعددا من الاماء ...). وكانت الحال كذلك في القبائل البدوية الأخرى.

كانا لعبيد يزدون أصعب وأقذر الأعمال. كانوا في القبائل المترحلة يرعون الماشية وينقلون الماء وينصبون الخيام ويرفعونها ويجمعون الأحطاب والوقود. وكان عمل العبيد يستخدم كذلك في الزراعة والصنائع، ولكن بقدر محدود جدا ... فإن الميدان الأساسي لاستخدامه هو الشئون المنزلية حيث يؤدي العبيد واجبات الخدم والحراس ومديري المنزل.

وتجدر الإشارة إلى بعض الخصائص الجوهرية لأوضاع العبيد في الجزيرة العربية. فالعبودية هنا كانت تتميز بطابع عشائري. وهذا هو السبب في المعاملة الطيبة نسبيا للعبيد. فالعبيد وخصوصا المولدون كأنما يغدون أفرادا غير كاملي الحقوق في عائلة سيدهم. وفي بعض الأحيان يغدون ورثة لأملاك سيدهم. وكانت الاماء، عند وجهاء المدن خصوصا، تستخدم كجوار ويغدو أبناؤهن أحرارا عادة، ويصبحن هن حرائز بعد وفاة أسيادهم. كان العبيد محرومين ومهانين من الناحية الاجتماعية، ولكنهم من الناحية الاقتصادية يعيشون بأفضل من البدو الرحل أو الفلاحين شبه الجياع. فقد كانوا يتمتعون بقسم من عائدات الوجهاء.

وكان الكثيرون من العبيد في الجزيرة قد حصلوا على الحرية وأصبحوا معتوقين ولكنهم ظلوا يسمون بالعبيد أيضاً. ولم يكن ذلك يشمل الجواري وأبناءهن فقط. إن عدد العبيد (الموروثين) لم يكن كبيرا في الجزيرة العربية.

كانت عملية عتق العبيد في القبائل البدوية أشد مما عند الحضر. فبعد مضي فترة معينة كان البدو دوما يمنحون الحرية للعبيد ويزوجونهم من نساء من بشرتهم. وقال بوركهاردت: (أبناء عنزة لا يعاشرون الإماء أبدا، ولكنهم بعد بضع سنوات من الخدمة يمنحونهن الحرية ويزوجوهن من العبيد أو أبناء العبيد المتبقين في القبيلة). وكان المعتوقون يمارسون البيع والشراء والصنائع ويعملون خدماً في منازل الأثرياء.

كان تحرير العبيد في ظروف الجزيرة العربية يتسم كذلك بمغزى آخر. فإن أحد شيوخ عنزة مثلا (يمتلك أكثر من خمسين عائلة من أناس كانوا في زمن ما عبيدا له، وهم مدينون لسخاء هذا الشيخ بكل ما يملكون. ولا يحق له الآن أن يستحصل منهم الجزية السنوية، لأنهم صاروا يعتبرون من الأعراب الأحرار ، ولكنه يزوج بناتهم من عبيده الجدد ومن المعتوقين، وعندما يستولي ذوو البشرة السوداء هؤلاء على غنائم كبيرة أثناء الحروب بوسع الشيخ أن يأخذ منهم ناقة جيدة، وهم لا يرفضون ذلك أبداً). وقد توحد بعض المعتوقين حسب السمة القبلية الشكلية، إلا أن منزلة هذه القبائل الجديدة أوطأ من منزلة قبائل الأعراب الأقحاح. وكان المعتوقون في تبعية مالية وشخصية لوجهاء البدو.

كان السواد الأعظم من المعتوقين يمارس الزراعة. كانوا محرومون من الأراضي، ولذلك صاروا يستأجرونها بالمحاصة من وجهاء الحضر والبدو في الغالب (وأحيانا من قبائل البدو الرحل بكاملها). وكان المستأجرون المعتوقون يتعرضون لاستغلال بشع. يقول فالين: (إنهم نادرا مايبلغون الثروة والرفاه). وظلت باقية كذلك تبعية المستأجرين المعتوقين الشخصية بقدر كبير لمالكي العبيد السابقين. وبالإضافة إلى ذلك كان على المعتوق، في عدة حالات، أن يعيد إلى سيده، قبل مغادرته، الأموال التي استلمها أثناء التحرير، الأمر الذي لم يكن ممكنا على الدوام. وكان المستأجرون المعتوقون يرتبطون بالأرض بقدر ما، فضلا عن الريع الإقطاعي الذي يسددونه. ولذلك فإن أحوالهم أقرب إلى أحوال الأقنان مما إلى أحوال سائر فئات سكان الجزيرة.

كان استغلالهم من قبل وجهاء الحضر نوعا خاصا من الاستغلال الإقطاعي للأعراب المحاصين. وكانت عائدات الأراضي التي يفلحها المعتوقون واحدا من أهم مصادر الدخل الخارجية (خارج القبيلة) لوجهاء البدو.